أمير العمري يكتب عن فيلم “القط” لابراهيم البطوط

Print Friendly, PDF & Email

شهدت مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثامنة من مهرجان أبو ظبي السينمائي (23 أكتوبر- 1 نوفمبر) العرض العالمي الأول لفيلم “القط” للمخرج المصري ابراهيم البطوط. وهذا هو الفيلم الامس للبطوط بعد “إيثاكي” و”عين شمس” و”الحاوي” و”الشتا اللي فات”. وفيه يتجاوز كل ما سبق أن حققه في افلامه السابقة التي كانت تنتمي بشكل أو بآخر، إلى أسلوب الفيلم الواقعي، فيلم القضية الاجتماعية الذي يمزج عادة بين الطابع التسجيلي وأسلوب السرد الروائي. هنا يخرج ابراهيم البطوط من تحت عباءة الواقعية محلقا في منطقة وسيطة بين الواقعية والرمز، بين ظلال التاريخ والواقع والأسطورة، وبين الرؤية النقدية الاجتماعية والتحليق الجامح في نطاق الخيال الذي لا يعرف حدودا، وبالتالي يتحرر البطوط تماما في “القط” من قيود الواقعية، ومن الحدود التي يفرضها التناول الواقعي ويترك لنفسه العنان لكي ينسج كمخرج- مؤلف، صاحب ؤية خاصة للعالم، من تجاربه الشخصية في الحياة، ويستمد من خياله السينمائي ليخلق واقعا آخر موازيا على الشاشة، للواقع الفعل يالذي نعيشه دون أن يبتعد عنه تماما أو يتجاهله.

وبالتداعي كان لابد والحال كذلك، أن يتحرر البطوط في أسلوب السرد من الواقعي، ويجعل فيلمه يتنقل طول الوقت بين مستويين: مستوى الواقع المعاصر في مصر اليوم، ومستوى الرمز الخيالي المستند إلى التاريخ، ويدخل بالتالي إلى منطقة يفلسف فيها الواقع ويتطلع إليه بنظرة خاصة. ومن هنا تحديدا يبدو نسيج الفيلم شديد التركيب والثراء، وقد تصبح الانتقالات في المكان مربكة لغير المدربين أو المهيأين نفسيا، لتلقي عمل من هذا النوع: أي فيلم ينطلق من فرضيات نظرية، فلسفية تاريخية، يرى من خلالها الواقع الحالي.

جذور الشر

الموضوع يدور حول الشر الاجتماعي: ما هي جذوره، ومن أين ينبع، وما سبب كل تلك الوحشية التي أصبحت سمة سائدة في حياتنا اليوم، وكيف يمكن تبريره وقبوله والتعامل معه،  ذلك الشر الذي يتجسد في أشد أنواع العنف الذي يمارسه الانسان ضد أخيه الانسان، وهو هنا أيضا عنف ذو شقين: عنف شرير مدفوع بالسعى إلى تحقيق منفعة مباشرة ترتبط بالجشع والخسة واستغلال أكثر الكائنات البشرية براءة أي الأطفال الذين يختطفهم الأشرار ويمزقون أجسادهم لكي يبيعوا أعضاءهم لمن يملك أن يدفع الثمن، وشر آخر يتمثل في عنف مضاد سافر أيضا، يتصدى للعنف الأول بعرض القضاء عليه وتحجيمه والانتقام لما يتعرض له الأطفال وهو عنف يجد مساحة له للحركة كنتيجة طبيعية لغياب الدولة والقانون وتدني منظومة القيم الأخلاقية والسوكية العامة.

هناك رجل لا نعرف له إسما (يقوم بالدور فاروق الفيشاوي)، يظهر في بداية الفيلم في ظلال معبد فرعوني قديم، يتستر بالنور، ويتخذ لنفسه مكانا علويا يطل منه على عالم البشر، ثم يهبط نحو بحيرة مليئة بالماء وغارقة في الضوء، وكأنه إله فرعوني يحلق فوق البشر ويوحي إليهم. تمسح الكاميرا النقوش الفرعونية فوق جدران المعبد، ومن بين النقوش التي نراها أيضا وهي نقوش حقيقية، رسما لما يشبه الطائرة الهليكوبتر والطبق الطائر. فهل كان الفراعنة يمتلكون أدوات السيطرة على البشر وعلى الفضاء؟

هذا الرجل- الرمز- الغامض الذي لا إسم له، يتابع ويراقب ويدفع الأمور الوجهة التي تحقق أغراضه، يوفر لبطلنا العنيف الذي يدعونه بـ “القط” (عمرو واكد) كل أدوات الدمار: الأسلحة والمتفجرات والمال الوفير بل ويرشده أيضا إلى الوجهة التي يتعين عليه أن يتخذها. هذا الرجل- الرمز هل هو إله الخير الذي يوحي لبطلنا “القط” ويرشده الى مواجهة الشر بالعنف، أم أنه إله الشر المذكور في الأساطير الفرعونية؟ أم هو مزيج بين الاثنين، أم هو رمز لقوة أخرى قاهرة كامنة وراء الستار، تحرك الأحداث في الشارع دون أن نراها، لخدمة أهداف هي فقط التي تعرفها، قد تكون مرتبطة أيضا بالتسلط أو “الفرعنة” والرغبة في فرض السيطرة ولو عن طريق إشاعة الفوضى والدمار؟

دوافع “القط” لارتكاب ما يرتكبه من عنف خارج نطاق القانون والدولة والمنظومة الأخلاقية، تختصر في كون ابنته “أمينة” كانت قد اختطفت ولاقت مصيرها فيما يبدو، على أيدي تجار الأعضاء البشرية. وهو يبدأ بتطليق زوجته ويمنحها مبلغا من المال ثم يغادر الى الاسكندرية لكي يلتقي بشقيقه “الغجري” الذي يعمل مساعدا له، ويخوض الاثنان معا رحلة جهنمية في العالم السفلي لتعقب رجال زعيم العصابة “فتحي” (صلاح الحنفي) وتنتقل الأحداث بين القاهرة والاسندرية والصعيد، وكأننا أمام “أوديسة” بطلها هو “القط” ذلك البطل الأسطوري الملامح هو أيضا رغم واقعية مظهره الخارجي، والذي يبدو منبت الصلة بعائلته باستثناء شقيقه الغجري، لكنه يرغب أيضا في استعادة علاقته بالعائلة، فيذهب الى أبيه الذي لم يره منذ سنوات، والذي يرقد مريضا ثم يضطر تحت وطأة المرض الذي لا شفاء منه، إلى قبول عملية بتر لساقيه، يقوم القط بنفسه في مشهد مشحون بالشجن والحزن، بدفنها- أي دفن الساقين- ثم يواصل تعقبه لفتحي، فينجح في القبض عليه وتسليمه إلى ذلك الرجل الغامض (الفيشاوي) الذي يراقب كل شيء ويملك من الصور والتسجيلات المصورة ما يجعله شاهدا على كل الأحداث، يغير مواقعه باستمرار، تعمل على خدمته فتاة حسناء لا تخشى السير في الشارع وهي ترتدي أزياء العشرينيات وحذاء الكعب العالي، كما توظف أجساد النساء أيضا في خدمة “فتحي” نفسه في عوامته الواقعة في نهر النيل، حيث يغرق في المخدرات والخمر، ولكن القط يجد نفسه الأن وقد سئم القتل، يريد أن يكتفي بما أنجزه، إلا أن “الرجل” الذي يحرك الأمور، لا يتركه بل يحرضه على قتل فتحي، وعندما يبتعد مترددا، يذكره بما حدث لابنته أمينة. ويكون هذا كافيا لكي يحسم أمره ويقتله بقسوة، ثم يبتعد تطارده صيحة الرجل- الرمز وهو يردد “لقد فعلت الشيء الصواب ياقط”. هل هو انتشار الخير على الشر، أم انتصار الشر على الشر، وهل ابتعاد القط في مركب يتهادى في البحر في النهاية مع شقيقه الغجري، سينهي الصراع، أم أنه سيتجدد في مكان آخر، أم أن القط وجد الآن مستقره في كنف والده الذي وعده بأنه لن يتركه أبدا بعد اليوم؟!

رحبة جهنمية

الكاميرا في فيلم “القط” لا تكف عن الحركة.. فهي تنتقل في المكان في لقطات طويلة تعبر خلالها على الكثير من الأماكن التي تقع في قلب الأحياء الشعبية الهامشية منها والعتيقة، وهي الأحياء التي تعاني من انتشار ما يعرف بـ “أطفال الشوارع” وهم المادة الخصبة لتجار الأعضاء البشرية. إن حركات “الترافلينج” الطويلة تأخذنا في رحلة جهنمية إلى قلب ذلك الجحيم الأرضي، الذي يخفي في داخله طاقة هائلة من الشر.

تدور أحداث الفيلم كلها على خلفية صوتية تمتليء بالأدعية والأناشيد الدينية، وننتقل في أحد المشاهد من معبد فرعوني إلى كنيس يعودي إلى كنسية ثم مسجد، والرجل- الرمز- الفرعون، الذي يرمز للقوة والسلطة والمال، ينتقل بين هذه الأماكن وكأنه كائن أسطوري يطير في المكان والزمان، ومعظم شخصيات الفيلم تبدو مرتبطة بالدين، أو متدينة، تصلي وتذكر الله وتغشى المساجد، دون أن تجد أي تناقض بين التدين والقتل، وبين الإيمان باليقين المطلق والسعي الحثيث للحصول على الانتقام في الدنيا، وعدم تركك الأمور للحساب في الآخرة. ومن حفلات الرقص الهستيري على موسيقى الديسكو، ننتقل الى حلقات الذكر الهستيرية أيضا في أماكن عامة، والبطوط لا يجد فرقا بين هذه وتلك، فكلها حسب رؤيته، تصنع حالة تغيبيبة إذا جاز التعبير، فاذا اختلطت بالمخدرات والخمر، يصبح فهم المزاج العام أكثر تعقيدا.

ولكن ما كل هذا العنف الصادم، وكيف وصل الإنسان المصري إلى ما وصل إليه من عنف وقسوة وتوحش وتصفيات متبادلة ورغبة في الاستحواذ والانتقام؟ وهل هناك بعد آخر ما وراء واقعي، يمكن أن يكون هو المنبع الخصب لكل ذلك العنف؟ وما هذه المتاهة التي يعبر عنها البطوط بلقطاته الطويلة المتحركة الجحيمية بألوانها القانية، الحمراء والسوداء والبرتقالية؟

إنها صورة قاسية متوحشة للعالم، من عين الفنان. قد تكون صادمة للبعض الذي قد يجد أنه يتعامل بقسوة شديدة مع فكرة التدهور الحضاري، وقد يرفض البعض الآخر فلسفته التي تربط بين الموت والعنف، وبين الدين والغيبيات والرغبة في دفع الشر بالشر، والعنف بالعنف. ولكن علينا أن نتأمل في هدوء، وأن نعيد التفكير، وأن نراجع الكثير من المفاهيم العتيقة عن السرد السينمائي، ولعل هذا الفيلم يساعدنا على ذلك، من خلال لغته السينمائية التي تتجاوز كثيرا السينما السائدة، وفكرة مخرجه المتجاوزة للواقعية التقليدية. إنه بحث بصري مرهق عن الأسلوب. وبهذا المعنى أيضا يمكن اعتباره عملا تجريبيا يدور خارج نطاق الواقعية بمعناها المباشر.

عن التمثيل

عمرو واكد أدى دور “القط” في تحكم دقيق في قسمات وجهه وبالتعبير الرصين الواثق بصوته وحركات جسده داخل الصورة. وفاروق الفيشاوي أضفى بظهوره في ذلك الدور الخاص الرمزي، وقارا وهيبة بل وجعل الشخصية التي يؤديها تبدو قريبة من الشخصيات التي تجسد عادة الشر في أعلى درجاته، دون أن تفقد سحرها ورونقها. وصلاح الحنفي يبدو مبالغا كثيرا في انفعالاته وهو يؤدي شخصية من قلب الواقع الشعبي، بشرها الظاهر وعنفها الذي لا يعرف حدودا في القسوة، ولكن أيضا في قدرته على تجسيد الضعف الذي يصل للاستجداء والترجي والارتعاد أمام قوة الخصم وجبروته. وكان يجب أن يكبح البطوط جماحه ويدفعه الى التحكم في انفعالاته التي تصل أحيانا لدرجة الصياح.

قد لا يكون “القط” في النهاية عملا نموذجيا في بنائه أو حبكته، وربما كان يقتضي من مخرجه ومؤلفه مزيدا من العمل على الشخصيات خاصة شخصيتي “فتحي” و”الغجري”، إلا أن هذا لا يؤثر تأثيرا جوهريا على أهمية الفيلم وتميز لغته السينمائية بصوره المدهشة وشريطه الصوتي المذهل حقا.

ابراهيم البطوط

Visited 105 times, 1 visit(s) today