“ملكة مونروي”: فستان وردي وكلب بحر مُحبط ومخرجة

Print Friendly, PDF & Email

لعلك سوف تنجذب منذ اللحظة الأولي ومع أول لقطة لأمرأة تصعد سلما متحركا بتعابير وجه تائهة تحمل الكثير من المعاني لا تخلو من السخرية، شعرها قصير اسود وملبسُها شتوين تحمل برطماناً اسود بغطاء أحمر غريب تحتضنة بقوة على خلفية موسيقي مرحة تأتي لتعلن أنك امام فيلم كوميدي من نوع خاص جدا.

“ملكة مونتروي” هو فيلم فرنسي كوميدي، من انتاج عام 2011 ومن اخراج المخرجة الأيسلندية الأصل سولفيج انسباش.

تحكي انسباش بشكل مميز بصرياً عن عودة “أجاثا” (التي تقوم بدورها الممثلة الفرنسية الجميلة فلورنس لوريت كايلي) الي فرنسا وإلى منزلها في مونتروي بعدما فقدت زوجها في حادث تصادم دراجة نارية. وهي تأمل في التغلب علي هذه الذكري الأليمة لكي تعود الي عملها كصانعة افلام ولكن الظهور المفاجئ لشاعرة ومُدخنة حشيش ايسلندية هي “آنا” (تقوم بالدور الممثلة الايسلندية الاصل ديدا جونث دوتير) وابنها “اوليفر” (ويقوم بدورة اوليفر ايجيسون) وكلب بحر مُحبط وجار لها تنجذب اليه، هنا يدور التساؤل مع ظهور كل هذه الشخصيات في حياتها: هل ستتغلب أجاثا علي حزنها وتعود الي حياتها الطبيعية مرة أخري؟

لعل هذة التركيبة الكوميدية التي اتقنت كتابتها انسباش بمساعدة الكاتب  جين لوك جاجيت، خلقت جواً خاصاً في الفيلم وأثرت في سير الأحداث بشكل مُسل وممتع للغاية مع وجود اكثر من لغة يتحدثون بها في الفيلم “الفرنسية والانجليزية والايسلندية” مصحوبة بترجمة فرنسية للإنجليزية والايسلندية.

كل هذة المكونات جعلت من فيلم انسباش فيلما خاصا ومختلفا في كل شئ ووضع المخرجة في منزلة تستحقها.

تبدأ الاحداث عندما تقابل اجاثا كلاً من آناالتي لا تتحدث غير الايسلندية وابنها اوليفر الذي يترجم لها من الفرنسية الي الايسلندية في المطار اثناء انهاء اجراءات السفر.

تدخل آنابعصبية علي موظف في المطار لتخبرة أن حقيبتها فُقدت، وأنها غاضبة جدا لأن الحقيبة تحتوي علي فستان زفافها الوردي وتجلس بجانبهم أجاثا مع موظف مطار آخر لإنهاء الاجراءات، فتبدأ اجاثا الحديث معهم حول لكنتهم الايسلندية ويسألها اوليفر عن الوعاء الذي تحملة في يدها فتقول له “هذا زوجي” فتتعجب آنا واوليفر قليلا من الاجابة ولكن هذا فعلا زوجها فهو رماد جثمانه، وهي فضلت الاحتفاظ به. هذا المشهد بكل ما يحتوية من كوميديا وفُكاهة مؤلم بشكل أو بأخر.

تخرج أجاثا من المطار لتذهب الي منزلها في مونتروي وتعرض انسباش مشاهد من المدينة الجميلة من شباك الباص الذي تستقلة أجاثا، ونري جرافيتي مرسوما علي حوائط المدينة  بالعشوائية المُبهرة لفنانيالشارع الفرنسيين، ونري شوارع ضيقة نظيفة، وكأن المخرجة تريد أن تعرفنا علي المدينة التي سوف تدور فيها الأحداث حتي تصل أجاثا لتفاجأ بوجود آنا وأوليفر في انتظارها وتقول لها أنا “ان العالم صغير عليك جدا لتكوني وحيدة فية” في اشارة الي انهم يريدون أن يتشاركوا معها السكن، وهو ما توافق عليه بعد تفكير.

لمحات من كوميديا انسباش

تبدأ آنا واوليفر في استكشاف المدينة الصغيرة الجميلة بالقرب من باريس فيذهب اوليفر لحديقة حيوان بالمدينة ليقابل كلب البحر المُحبط ويجده  يجلس وحيدا فيحاول ان يداعبة حتي يقابل حارس الحديقة ويدخلان معا في صداقة ستكون عواقبها وخيمة علي اجاثا.

تتجول آنا في المدينة بلكنتها الايسلندية الغريبة وشعرها الاصفر ولبسها الغريب حتي تقابل عامل الكرين سمير وهو الممثل “سمير جيسمي” الذي تتعرف علية ليريها المدينة من اعلي، من المكان الذي يعمل فيه، وتدخن آناالحشيش وتكتب قصائدها وهي تشاهد المدينة كلها أمامها. ويعجب سمير بسجائر الحشيش الخاصة فيقرر ان يتحدث لصاحب العمل لتعمل معة ويوافق صاحب العمل.

تكتشف اجاثا وجود ابنة افريقية لآنا في جاميكا تدعي “كرومي” وهو ما تعتذر عنه بشكل كوميدي لتدخلها في شؤونها عندما تخلط اللغة الانجليزية بالفرنسية باشارات يدها وطريقة كلامها التي كانت من اكثر المشاهد طرافة في الفيلم.

تتوالي الأحداث ويعمل اوليفر في محل “دراي كلين” اي غسيل وكي الملابس، يملكه رجل من أصول عربية افريقية اسمة سليم لُبنة، وهو الممثل “زكريا غورام” بعدما اقنعتة آنا ان ابنها هو المُؤهل لهذا العمل بشكل كوميدي عندما قرر اوليفر أن يضع شارباً مُستعاراً ليصبح مُهاباً ويُقنع صاحب العمل ولكن هذا ما يجعله يبدو كوميدياً اكثر مما هو، صديقة حارس الحديقة له شارب ايضاً ولكنة اسود، واستفادت انا من المحل لأنة كان يتيح الانترنت بكاميرا فتتواصل مع كرومي من خلالة وايضا مع شخصين كاريكاتوريين هما رجل وزوجتة.

الموقف الاكثر كوميدية يأتي عندما ترى آنا بالمنظار من المكان الذي تعمل فيه امرأة في احدي الشُرفات ترتدي الفستان الوردي خاصتها فتنزل مُسرعة وتذهب اليها لتجد في النهاية انها أمام رجل يضع مكياج وتأتي زوجتة لتصفعة علي وجهه!

تلك اللمحات الكوميدية الثلاث تعبر عن مدي وعي المخرجة واهتمامها بالشخصيات والعلاقات بينهم وروح الفُكاهة التي تتحلي بها ولا تخلو من الفانتازيا ايضا من خلال تصوير أجاثا بالفستان الوردي وهي تطير في سماء مونتروي مصحوبة بموسيقي رشيقة مُعبرة للمؤلف مارتن ويلر.

التعاون بين موسيقي مارتن ومدير التصوير ايزابيل رازافيت خلق تركيبة رائعة من التناسق الموسيقي والصورة والالوان ليخرج بهذا الشكل الكوميدي الراقي.

يتفق أوليفر مع عامل الحديقة علي ان يأخذا كلب البحر ليجلس في بيت اجاثا وهو ما يحدث بالفعل وفي لمحة كوميدية اخري عندما تفتح اجاثا باب الحمام لتري كلب البحرجالسا ينظر اليها فتغلق الباب بسرعة دون أن تستوعب ما يحدث، وتلتقط انفاسها ثم تفتح الباب مرة اخري لتري كلب البحر مجددا، وتتأكد من وجودة وتطلب من أوليفر أن يخرجه بسرعة من المنزل.

 تتقرب أجاثا من جارها اريك وهو الممثل “ايريك كاروسو” وتكتشف ان زوجها لم يكن رجلاً مستقيماً فتشعر بحزن شديد وتقرر ان تتخلص من البرطمان الذي يحتوي بقاياه، فتذهب لتلقي به في صندوق القمامة ولكنها ترجع بعد تفكير لتسترده من الصندوق مرة اخري، وتذهب الي حفل ما ولكن في حالة عصبية، فتترك الحفل لتمشي بمفردها في الشارع لتلحق بها آنا وتأخذها الي اعلي، إلى المكان الذي تعمل فيه، لتري أجاثا المدينة بأكملها وتقول لها آنا”عندما تعبر المرأة وفاة زوجها تٌصبحملكة وأنت سوف تٌصبحينملكة مونتروي.. انا واثقة من ذلك”. تردد أنا هذة الجملة بينما تتطلع أجاثا الي المدينة وهي تدخن الحشيش الخاص بـ “آنا” في مشهد رائع تمتزج فية المشاعر والتعبير بالصورة للمدينة ليلاً.

تعود أجاثا إلى المنزل لتجد اوليفر وصديقه (عامل الحديقة) يُطعمان كلب البحر من رماد زوجها مع السمك الصغير فتصاب بحالة عصبية لعدة دقائق اما هذا المنظر، وتقف في رُكن الحمام تحتضن البرطمان وهي ترتجف ويبدأ أوليفر والعامل بتهدئتها حتي تتقبل الأمر. وفي المشهد التالي تستحم أجاثا في وجود كلب البحر في اشارة الي تقبلها الوضع الجديد.

تأخذنا المخرجة في مشهد يمتزج فيه الخيال بالواقع، من اروع مشاهد الفيلم حيث نري أجاثا جالسة علي جسر في مدينة مونتروي ترتدي الفستان الوردي ثم تسقط من أعلى الجسر فتهبط الي الارض وتمشي بطريقة راقصة في الشارع بمصاحبة موسيقي واغنية رائعة تغنيها مغنية بألحان هي اقرب الي العربية والجزائرية بالخصوص بمصاحبة الرجل الذي صفعتة زوجتة علي وجهة وتقف اجاثا في البار ليأتي اليها جارها ويقبلها في مشهد مٌفعم بالحياة.

لننتقل بعد هذا المشهد الجميل الذي رسمت فية المخرجة لوحة جميلة هي اروع ما يكون تعبيرياً عن مشاعر اجاثا في هذة اللحظة اليالمشهد الأخير حيث نرىكل شخصيات الفيلم: اجاثا وآنا واوليفر وجارها وصديق اوليفر يركبون عربة ويتوقفون قٌرب البحر لنري كرومي في الكادر وتفاجأ آناوتنزل من العربة لتحتضنها بشدة وتنظر الي اجاثا بحب وامتنان لأنها هي من احضرت كرومي الي فرنسا وهذا ما يبرره مشهد سابق حين تحدثت اجاثا الي كرومي عبر الانترنت وعرفتها علي نفسها.

ينزلون كلهم من العربة ويقفون قرب البحر ويخرجون كلب البحر من العربة ويستدرجونة بسمك صغير حتي يصل الي البحر وينزل ليسبح عائدا الي موطنة في سعادة وتقف اجاثا في ارتياح لتضم الجاكت بقوة عليها كأنها استعادت ما فقدتة وعرفت طريقاً جديداً للحياة.

المخرجة الذكية سولفيج انسباش نجحت في ان تأخذنا الي عالم ساحر ملئ بالفانتازيا والواقعية حيث تجعلنا نكتشف الشخصيات والمدينة في نفس الوقت من خلال سرد بسيط لا يخلو من روح الدعابة والفٌكاهة  في استخدام اللكنات الانجليزية والفرنسية والايسلندية بخفة مصحوبة بموسيقي تحمل روح الفيلم بشكل استثنائي وتأخذك لتتعرف علي عالم جميل من نسج خيال المخرجة.

 العودة الي الوطن

انت هنا امام عالم مختلف بالكامل تضعك فية المخرجة لتكتشف شيئا مهماً يربط كل الشخصيات ببعضها بشكل غير مباشر ومٌثير ذهنياً، وهو العودة الي الوطن مرة اخري. ولعل هذا الرابط هو الذي جعلني افكر في الكتابة عن هذا الفيلم بالذات فآنا وابنها الايسلنديين الأصل يريدان العودة الي وطنهما ولكن ظروف إفلاس شركة الطيران الخاصة بهما تحول دون ذلك فيجدان أنفسهما امام واقع مٌجبرين علي المٌضي فيه، وكلب البحر مٌحبط وحزين لأنه وحيد في حديقة الحيوان ويريد ان يرجع الي موطنة الاصلي وحياتة التي تعود عليها وهو ما سوف نراه كخط درامي يحمل قدراً من الكوميديا حيث نجده حزينا طوال احداث الفيلم وكأنه يفهم ما يحدث حوله. وكان اختيار انسباش مٌوفقا بدرجة كبيرة في اختياره، واجاثا تريد التأقلم مع الحياة الجديدة وتسعي ان تعود الي حياتها الطبيعية بعد وفاة زوجها وهذا الرابط هو اهم ما يمكن للمخرجة ان تشير اليه وهو يعبر ايضاً عن مدي نٌضج المخرجة في اختيار الحكاية من البداية.

Visited 82 times, 1 visit(s) today