فيلم كتير كبير.. هل كان كبيرًا بما يكفي؟

Print Friendly, PDF & Email

 ضجة كبيرة وكلام أيجابي كثير صاحبا عرض الفيلم اللبناني “فيلم كتير كبير” (أو A Very Big Shot كما ترجموه إلى الإنجليزية) مؤخرا في دور العرض المصرية. ضجة توحي بأننا بصدد فيلم لبناني كبير لا يقل في مستواه عن أفلام لبنانية أخرى هامة بقيمة “بيروت الغربية” أو حتى “سكر بنات”، وهما ربما أشهر ما قامت السينما اللبنانية بإنتاجه في السنوات العشرين الأخيرة.

 لم تكن تلك الضجة مجرد بروباجندا دعائية أو مجاملات لأصحاب العمل (وما أكثر المجاملين لأصدقائنا السينمائيين اللبنانيين)، فقد أكّد على تميّز هذا الفيلم أيضًا مشاركته في عدة مهرجانات سينمائية دولية، وحصوله على جائزتين منها الجائزة الكبرى (النجمة الذهبية) في الدورة الأخيرة لمهرجان مراكش السينمائي، وهو المهرجان المعروف دائماً بقوة لجان تحكيمه وثراءها. حتى أن رئيس لجنة التحكيم، وهو المخرج الأمريكي العظيم “فرانسيس فورد كوبولا” أثنى شخصيًا على الفيلم وعلى صانعه المخرج الشاب “مير-جان بوشعيا” (وهو الكلام الذي استخدم في الدعاية للفيلم أكثر من استخدام التريلر الرسمي نفسه).

ولكن هل ارتقى فيلم “فيلم كتير كبير” في النهاية لهذه المرتبة التي أهلته في النهاية أن يكون ممثلًا للسينما اللبنانية العريقة في المراحل الأولى من سباق الأوسكار لجائزة أفضل فيلم أجنبي لهذا العام؟

عناصر مختلفة

الإجابة عن هذا التساؤل ليست سهلة، فهناك عدة عناصر تدعم تميّز هذا العمل، كما أن هناك أيضًا الكثير مما يجعله فيلمًا كتير عادي. فالإحساس بتميّز عمل فني من عدمه يعود في رأيي بشكل كبير إلى مدى اختلاف هذا العمل وتفرّده عن غيره مما قدّم سابقاً في إطار فني مشابه، بالإضافة إلى مدى نجاح هذا العمل في ترجمة تميّزه هذا (سواء من حيث القصة أو الصورة في حالة الفيلم السينمائي) إلى حالة من الإمتاع أو الجدل الفكري.

 “فيلم كتير كبير” يحقق في رأيي أجزاءً من هذه المعايير، ولا يحقق الكثير منها أيضًا. فهو بلا شك مختلف. والاختلاف هنا حقيقي عند مقارنته بسائر الأفلام اللبنانية، ففكرة الفيلم ونوعية الكوميديا المقدمة به هي بالفعل لم يتم تناولها من قبل في السينما البيروتية. إلا أن التيمة نفسها، عند النظر إليها بشكل أكثر شمولي، تجد أنها تيمة مكررة وسبق تناولها بأشكال مختلفة في العديد من سينمات العالم.

 ولنعدد هنا عددًا من العناصر المختلفة التي بُني عليها أساس قصة  الفيلم، والتي من المؤكد أن يكون الواحد قد شاهد الكثير منها في عدد من الأعمال السينمائية السابقة: 1) أشقاء ثلاثة، أحدهم يتورط ويدخل السجن دون أن يشي بشقيقيه ويقرر أن يحمل سنوات السجن عنهما (دراما محفوظة)، 2) الشقيقان يستمران في أعمالهما الإجرامية في الخفاء (وذلك بإدارتهما لمطعم بيتزا يستخدمانه كواجهة لنشاطهما في تجارة المخدرات) ويستعدان لخروج شقيقهما من السجن وتعويضه عن سنوات عمره التي أضاعها فداءً لهما بإهدائه مطعم جديد يقوم بامتلاكه وإدارته (التضحية والمكافأة)، 3) في نفس الوقت، ورغم نيته عدم القيام بأي عمليات إجرامية أخري محفوفة بالمخاطر، يقرر الأخ الأكبر الرضوخ لضغوط العصابة التي يتعاون معها والقيام بعملية أخيرة كبرى لتهريب المخدرات عبر الحدود اللبنانية السورية (تيمة العودة إلى الجريمة من أجل الفرصة الأخيرة والضربة الكبرى)، 4) ولكن تقع مشكلة أثناء تلك العملية الأخيرة فيعود بالمخدرات إلى لبنان ويقرر الانتقام من تلك العصابة التي أرادت الإيقاع به (من محفوظات ثنائية الخديعة والانتقام من الكيان الأكبر والأقوى). إذًن ففي نصف الساعة الأولى فقط نحن أمام سلسلة من الأحداث المتتابعة التي قُتلت بحثًا في الكثير من أفلام الحركة سواء الأمريكية، أو الأوروبية أو حتى العربية.

المقابلة المفتاح

ولكن التحوّل والتجديد الرئيسي بالفيلم يحدث عندما يقرر الأخ الأكبر (زياد) الذي أتقن في أداء دوره الممثل آلان سعاده، أحد أهم مكاسب الفيلم، القيام بحيلة تمكنه من التصرّف في شحنة المخدرات التي تحصّل عليها من العصابة ومن تهريبها خارج البلاد دون علم السلطات البوليسية. فأحد الزبائن الدائمين لمطعم الأشقاء ولمخدراتهم “شربل” يعمل مخرجًا سينمائياً، غير أنه يعاني – كأي مخرج مغمور من ضائقة مالية تقف حائلًا أمام خروج فيلمه التسجيلي الجديد الذي يقوم بتصويره إلى النور، بالإضافة إلى وقوف هذه الأزمة المالية حائلًا أمام تسديده ثمن المخدرات التي يتحصل عليها.

بالصدفة، يتضمن فيلمه الجديد هذا حواراً مع المخرج اللبناني المعروف جورج نصر (بشخصه) يحكي به قصة عن تعاونه في السابق مع شركة إنتاج إيطالية أتت للعمل بلبنان واتضح في النهاية أنها عصابة تقوم بتهريب المخدرات عبر الحدود داخل علب الأفلام التي يتم شحنها للطبع بمعامل بالخارج والتي لا يتم فتحها للتفتيش بالمطارات منعاً لتعرضها للنور والتلف. بالصدفة أيضًا يقتحم زياد مكان عمل “شربل” مطالباً إياه بتسديد المتأخرات المالية التي عليه ليجده مشغولاً بإعادة مشاهدة هذا الحوار بالذات من فيلمه، ومن هنا يلتقط  “زياد” الفكرة ويقرر أن يستخدم نفس الحيلة لتهريب شحنة المخدرات الخاصة به.

من هنا يقرر زياد انتحال صفة منتج سينمائي والاستعانة بـ “شربل” وفيلمه كواجهة لعملية التهريب التي ينوي القيام بها، ومن تلك اللحظة يأخذ الفيلم منحىً آخر فيتحوّل من فيلم حركة – كما قدّم نفسه من البداية- ليصبح فيلماً كوميديًا يميل إلى السخرية حينًا وإلى المبالغة أحياناً أخرى. تبدأ محاولات زياد اقناع “شربل” وصديقته (وهي البطلة الرئيسية للعمل ورفيقة “شربل” ولكنها في الوقت نفسه تخونه مع “طارق” الأخ الأصغر لزياد) بأنه يمكنه مساعدتهما بتمويل إنتاج هذا الفيلم لهما. ثم ننتقل إلى موقع التصوير، وتتوالى الأحداث حتى تبدأ الساحة اللبنانية في الانتباه إلى هذا الفيلم الغامض الذي يتم تصويره.

من الأكشن إلى الكوميديا

ويتّبع زياد وفريقه بعض الحيل لجذب المزيد من الانتباه – خاصةً وسائل الإعلام- باختلاق مشاكل تثير الكثير من الضجة مما يساهم في تصديق الناس هوية “زياد” الجديدة كمنتج، واقتناعهم بأنهم أمام تصوير فيلم حقيقي مما يسهل من عملية تهريب المخدرات لاحقًا. وإذا كان هناك نجاح حقيقي للمخرج “بوشعيا” وبرهان على موهبته الإخراجية وهو بسن السابعة والعشرين فهو نجاحه في تحقيق النقلة الرئيسية للفيلم من الأكشن إلى الكوميدي بسلاسة ودون افتعال أو إحداث هزة للمشاهد.

ساهم في هذه النقلة اعتماد السيناريو المكتوب في معظم أجزائه باحترافية كبيرة على المواقف لخلق الكوميديا دون اللجوء إلى النكات السريعة، دعمه في ذلك الأداء المميز خفيف الظل في الكثير من الأحيان للممثل “فؤاد يمين” الذي أدّى دور المخرج “شربل”. إلا أن نفس مشكلة المحفوظات تتكرر مرة أخرة هنا للآسف، فرغم نجاح العديد من تلك المواقف الكوميدية في اثارة الضحك داخل قاعة السينما، إلا أنك قد تشعر بأنك سبق أن شاهدت تلك المواقف (أو مواقف مشابهة) في أفلام أخرى. أمريكية أو حتى مصرية. لا يعني ذلك أنها مواقف مبتذلة أو كثيرة الاستهلاك ولكنها بلا شك ليست وليدة هذا الفيلم أو هي ربما أتت نتاجا لتأثر المخرج في عمله الأول بأعمال كوميدية أخرى سبق له مشاهدتها وأصبحت محفورة في عقله الباطن، وهو شيء يمكن تفهمه في الأعمال الأولى.

 من الأمثلة على ذلك مشاهد التجارب التمثيلية للممثلين الهواة، والطلبات غير المنطقية لـ”زياد” متقمصًا دور المنتج. حتى المشهدان اللذان يتم فيهما استضافة “زياد” في برنامج تليفزيوني فتكاد تكون سمعت الحوار الذي يلقيه مقدم البرنامج من قبل بنفس طريقة الإلقاء ونفس المبالغة في فيلم مصري. ورغم هذا يّذكر لـ “بو شعيا” نجاحه في إعادة صياغة هذه المواقف الكوميدية المستوردة/المستلهمة ووضعها في قالب لبناني، حتى وإن استلهم في ذلك في بعض الأحيان روح فيلم “هلأ لوين” لنادين لبكي (والذي شارك في إنتاجه بعض من فريق العمل في فيلمنا هذا).

روح شابة

من هنا يمكن اختصار سر تميّز “فيلم كتير كبير” في طزاجة الإطار الخارجي له، فالعمل رغم ما به من محفوظات، وإمكانية توقّع العديد من أحداثه، إلا أن الروح الشبابية الطاغية عليه وجرأة مخرجه في تجربته الأولى واستعانته بممثلين أغلبهم في بداية طريقهم الاحترافي، أعطت طعمًا مختلفًا للعمل. ربما يكون قد ساعد في إظهار تلك الروح أيضًا عدم رغبة “بو شعيا” في إدّعاء عمق لا داعي له، فرغم مروره على العديد من المشاكل المزمنة للمجتمع اللبناني (مثل قصص الحب بين المسلمين والمسيحيين المصحوبة بنزاعات طائفية، والفساد المسيطر على الساحة السياسية بلبنان) إلا أنه لم يتوقف أمامها كثيرًا وإنما استخدمها بحرفية لـ “لَبنَنَة” هذا الإطار المستورد المستلهم وإضفاء طابع من المحلية عليه بشكل خفيف. الخفة أيضًا كانت- كما سبق الإشارة- في انتقال السيناريو بأحداث الفيلم بين الحركة والكوميديا حتى الوصول في النهاية به إلى مرحلة الهزل السياسي. ولكن نفس تلك الروح الشبابية كانت بعض الأحيان وراء انفلات زمام أمور الفيلم من “بو شعيا”، فظهر المخرج الشاب قليل الحيلة.،سواء باستعانته بحبكات جاهزة الصنع أو صور من التراث (مثل التناول النمطي للعصابة المعادية لـ”زياد”)، أو بإظهاره بعض الشخصيات الرئيسية بصورة باهتة ومنقوصة رغم إمكانية لعبها لأدوار أغني مما كانت عليه، مثل شخصية “جو” الأخ المعارض لاستمرار أشقائه في تهريب المخدرات (الذي اختفى فجأة لفترة طويلة في النصف الثاني من الفيلم)، وأيضًا شخصية “عليا” وهي الشخصية الأنثوية الرئيسية الوحيدة في الفيلم ورغم ذلك لم تنل مساحة كافية.

 روح الهواية أيضًا المسيطرة على المخرج الشاب والرغبة في قول الكثير من الأشياء في آنٍ واحد أفقدت الفيلم بعضًا من وهجه، فلم نشعر للحظة بروح موقع التصوير الذي دار فيه جزء كبير من أحداث الفيلم (أثناء تصوير الفيلم المزيّف)، كما لم نشعر بعمق حقيقي لأي علاقة إنسانية على الشاشة سواء العلاقة بين الأشقاء الثلاثة أو العلاقة العاطفية التي جمعت “عليا” بـ”شربل” أو بـ”جو”. ولكن كل هذه الملاحظات التي تعود لحداثة التجربة السينمائية لـ”بو شعيا” من السهل تجنبها في الأفلام القادمة له حين تُثقل خبرته، وحينها فقط يمكن البصم بالعشرة أننا أمام فيلم “كتير كبير” عن حق.

Visited 60 times, 1 visit(s) today