أمير العمري يكتب عن فيلم “يوم للستات”

Print Friendly, PDF & Email

تسيطر على كثير من كتاب ومخرجي السينما المصرية الرغبة في التواصل مع الجمهور الشعبي فالطبقة الوسطى لم يعد لها وجود تقريبا، وبالتالي تضاءلت الأفلام التي تتوجه لها. هذه الرغبة تؤدي إلى تقديم الكثير من التنازلات سواء في بناء الفيلم أو في إقحام المواقف التي يرونها “مضحكة”، بل إن فيلما يتناول موضوعا جادا مثل “اشتباك” أفسده ذلك النزوع النزق تجاه “التهريج”!

هذا هو الانطباع الأولي الذي يتوارد على الذهن وأنت تشاهد فيلم “يوم للستات” للمخرجة الموهوبة كاملة أبو ذكري، الذي عرضه مهرجان لندن السينمائي وسيكون فيلم افتتاح الدورة القادمة من مهرجان القاهرة السينمائي. ومع مرور الأحداث والمواقف والانتقال بين الشخصيات المختلفة، يتضح أكثر فأكثر أن مشكلة هذا الفيلم تكمن تحديدا، في السيناريو.

قدمت كاملة أبو ذكري قبل نحو سبع سنوات، واحدا من أفضل أفلام السينما المصرية هو فيلم “واحد صفر” عن سيناريو مريم نعوم المتماسك الطموح الذي لا يفقد توازنه رغم أنه ينتقل بين عشر شخصيات متباينة كان الفيلم يكشف ويعري فساد الواقع بل وما لحق من فساد بالكثير من أفراد الطبقة الشعبية والطبقة الوسطى، فأصبحوا يحتالون من أجل مواصلة الحياة، إلا أن الفيلم لا يتعامل معهم بقسوة، بل بحب وفهم، وكانت المعالجة الساخرة تجعلهم يبدون وكأنهم يشتركون جميعا في لعبة واحدة لها قواعدها المشتركة، يحترمها الجميع ويرتضون بها، من أجل التحايل على مشاق الحياة. 


لم يكن الفيلم يروي قصة تقليدية، بل كان يقدم نماذج لشرائح اجتماعية متباينة، تتداخل علاقاتها، وتتشابك، وتدور الأحداث كلها في يوم واحد، هو يوم مباراة كرة القدم بين منتخب مصر ومنتخب الكاميرون في بطولة الأمم الإفريقية. وكان الفيلم يتخذ من هذا الحدث “موتيفة” تجمع كل الشخصيات، ويجعلها تضل وتتوه وتتصاعد وتيرة رغبتها الهستيرية في الحصول على التعويض النفسي الجماعي. وعندما يتحقق “النصر” في نهاية اليوم بفوز المنتخب المصري، يكون الغطاء قد انكشف عن كل إفرازات الهزائم الاجتماعية المتراكمة.

ربما يكون سيناريو فيلم “يوم للستات”، الذي كتبته هناء عطية (كاتبة سيناريو “خلطة فوزية”) قد استهوى كاملة أبو ذكري، لتقاربه الظاهري مع الإطار العام لفيلم “واحد صفر”، كونه مبنيا على شخصيات متعددة، من الطبقة الشعبية من قاع المجتمع، حيث نرى كيف تجتمع نساء منطقة شعبية في القاهرة حول فكرة وجود حمام للسباحة تفتتحه المحافظة داخل مركز للشباب في أحد الأحياء القاهرية الشعبية القديمة التي تعاني من الفقر والإهمال على جميع المستويات.وتدور الأحداث خلال أسبوع واحد من عام 2009، أي من حيث تركنا فيلم كاملة السابق.

رمزية الحمام

فكرة حمام السباحة وتخصيص يوم في الأسبوع لارتياد نساء الحي، هي الفكرة الرمزية المقابلة لفكرة المباراة في “واحد صفر”، فالحكومة تريد التأكيد على أنها “تفكر في الناس” وتريد إدخال السعادة عليهم، ثم سرعان ما يتحول “الحمام” إلى بؤرة تجمع لنساء الحي يوم الأحد، حيث تحشد كاملة أبو ذكري أكبر عدد من النساء البدينات يمكن مشاهدتهن في أي فيلم مصري، وتجعلهن يغوصن في مياه الحمام بملابسهم الشعبية المضحكة، بل ويأتين أيضا بالمأكولات الشعبية لتناولها هناك، في سخرية من التدهور الذي وصل إليه الحال، وفي الأيام الأخرى نرى اطفال وشباب ورجال الحي يعيثون فسادا في الحمام، منهم من يتبول في الماء، ومنهم من يعابث في غلظة، فتاة الحي البلهاء “ناهد السباعي”.. هنا يصبح الحمام معادلا للتحرر من الهموم والأثقال التي يعاني منها أهل الحي، خصوصا النساء. ولكنه من جهة أخرى يشير إلى حيلة السلطة في إشغال الناس بصغائر الأمور بعيدا عن الالتفات لأوجاعهم لكن هذه الفكرة لا تتكرر بشكل جيد في الفيلم.

لدينا أولا الهام شاهين التي تقوم بدور امرأة ذات جمال زائل، ترهلت وأصبحت تشعر بالأسى لما بلغته من تدهور رغم أنها تصر على أنها مازالت تعمل “موديل” أو نموذجا للرسامين كما كانت في الماضي، ورغم تحررها الكبير (تشرب الخمر، وتدخن السجائر، وترفض ارتداء الحجاب) إلا أنها ستروي لنا في “مونولوج” طويل كيف أنها ظلت تقمع رغباتها الجنسية حتى بعد أن تجاوزت الخمسين!

أما نيللي كريم فهي تقوم بدور امرأة تعاني من الشعور بالاكتئاب والحزن بعد أن فقدت زوجها وابنها في حادث غرق العبارة الشهير الذي أودى بحياة أكثر من ألف مصري في تلك السنة. وهي تعمل في بيع العطور الشعبية في دكان متواضع، وتعيش مع شقيقها المتطرف الإسلامي “أحمد الفيشاوي”- الذي لا يعمل بل يستولي على ما تحصله من مال بالقوة والتهديد، وأبيها “فاروق الفيشاوي” وهو رجل متحرر يتعاطى المخدرات ويسهر مع أصدقائه، ويلهو في حمام السباحة كلما أتيحت الفرصة، وهو يرتبط بصديقه القديم العائد حديثا من الخارج “محمود حميدة” الذي كانت تربطه في الماضي علاقة حب بالهام شاهين، لكنه هجرها ليتزوج بغيرها. ونعرف أنه عاد من العمل في الخارج كحارس أمن، فقيرا معدما بعد أن قضى سجن هناك لسبب غير مقنع يرد على لسانه خلال حواره المنولوجي الطويل مع “إياد نصار” الذي يعمل مشرفا على حمام السباحة، ويروي له حميدة كيف أنه أفرط في الشراب ذات ليلة، ثم أمسك بالمسدس الذي كان معه وأخذ يطلق النار في الهواء ابتهاجا أو ربما احتجاجا (!)، مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن، وكلها قصة مثل قصص الأطفال التي لا تقنع أحدا!

الهام شاهين.. التمثيل كيفما اتفق

ميلودرامية المواقف

مثل هذه القصص التي تأتي عن طريق الحوار تشكل أساس الفيلم في الكشف عن شخصياته المتعددة فسوف نتعرف أيضا على مأساة نيللي كريم من خلال الحوار، كما يضع سيناريو الفيلم في سياق مواقف تتصاعد لتصل إلى قمة الميلودراما والمبالغات كما في مشهد انهيار الهام شاهين وهي تقص على نيللي كريم كيف أنها ليست امرأة سيئة كما يعتقد أهل الحي، وأنها حافظت على “شرفها” ولم تسمح لأي رجل بأن يتجاوز حدوده معها (وهي رؤية متخلفة في فيلم يفترض أنه يتبنى قضية حرية المرأة)، كما تصرخ من لوعة حبها القديم- المتجدد الذي تشعر به – دون أمل- تجاه محمود حميدة بينما هو لا يكاد يشعر بوجودها. لكننا سنفاجأ بعد ذلك، بمحمود حميدة يندفع في مشهد صارخ في ميلودراميته نحو الهام شاهين، منهارا يبكي بين يديها، ليعترف لها بأنه مازال يحبها وأنه لم يحب امرأة غيرها!

في مشهد آخر تذهب نيللي كريم إلى إياد نصار الذي تشعر بحبه لها، لكي تطمئن عليه بعد المشاجرة التي كان طرفا فيها في الحي، لينتهي المشهد بما يشير إلى التلاقي العاطفي بينهما. وكما رأينا حميدة يبكي وينهار بين يدي الهام شاهين، يطلب نصار من نيللي كريم أن تحتضنه بقوة، فالرجل في الحالتين، هو الطرف الأضعف أمام المرأة، وهي فكرة نظرية لكنها غير مخدومة جيدا دراميا. وفي مشهد آخر يتهجم أحمد الفيشاوي (المتطرف الأصولي الذي يتهم أهل الحي بالضلال) على والده فاروق الفيشاوي بألفاظ قاسية، فيطلب منه الأب أن يضربه ويظل يكرر مطلبه المضحك وهو يبكي على طريقة المسرحيات الميلودرامية التي تستدر دموع الجمهور وتصفيقه!

تسود الفيلم الميلودراما المعتادة تاريخيا في الفيلم التجاري المصري، التي تتأرجح بين الإضحاك والمبالغات الهزلية والمشاهد التي تبرز سلوكيات الطبقة الشعبية، أحيانا تشعر أن الفيلم يسخر منها ويضحكنا عليها، وأحيانا أخرى يتعاطف معها ويبرر لها، غير أن الفكرة الأساسية التي يستند إليها الفيلم هي أن بسطاء المصريين قادرين دوما، رغم كل المشاق، على إيجاد الفرصة للاستمتاع بالحياة وخلق البهجة، بل إن آمالهم المفقودة يمكن أن تتحقق في نهاية المطاف، رغم كل المعوقات، فها هي الشخصيات النسائية كلها تجد من يحبها ويريد الارتباط بها، بما فيهن ناهد السباعي، أي الفتاة المتخلفة البلهاء التي تصر على أنها غير بلهاء (لا نفهم هل تتظاهر هي بالبلاهة مثلاا، ولماذا؟!)، فالميكانيكي الشهم (أحمد داود) يتقرب منها، يبدي لها الحب، يحقق لها أملها في تناول وجبة في أحد مطاعم “كنتاكي”، ثم يأتيها بقطعة “بيتزا”، خاصة وأنها وهي الفقيرة المعدمة، تتحدث كثيرا عن فقرها المدقع، وتقول إنها تحلم بوجود مصر أخرى، الناس فيها يأكلون كثيرا جدا من الطعام، ويدفنون ما يتبقى منهم في حفرة كبيرة!

الاحتفال بالحياة

تتكرر فكرة مقدرة البسطاء على الفرح رغم قسوة الحياة، في كثير من الأفلام المصرية منذ “ليه يابنفسج” و”الساحر” لرضوان الكاشف، و”سارق الفرح” لداود عبد السيد، ثم “يادنيا ياغرامي” و”خلطة فوزية” لمجدي أحمد علي، ثم “بنات وسط البلد” لمحمد خان.. وغيرها. ولعل المغري في هذه الفكرة أنها تسمح بعمل أفلام خفيفة، “شعباوية”، تنتقد بقدر ما تغازل أبطالها وجمهورها من الطبقة الشعبية، بل إننا في “يوم للستات” نشعر أحيانا بالسخرية التي تصل حد الهجاء لسلوكيات نساء تلك الطبقة التي تتصف بقدر كبير من الهمجية والتخلف والجهل إضافة بالطبع إلى القبح والبدانة ورفض التصرف بكياسة، والتقول على بعضهن البعض، ولكن من ناحية أخرى، نرى كيف يتصدين جميعهن بقوة وعنف للشاب المتطرف الذي يحاول تقويم سلوكهن وطرده من الحي. أي أن التضامن بين النساء هو الذي يغلب في النهاية.

ضعف السيناريو

من المؤسف أن يتسبب ضعف السيناريو وتقليديته وشخصياته النمطية المتكررة التي ألفناها من قبل، في مشاكل تتعلق بالإخراج والمونتاج، فهناك ثلاث نهايات للفيلم، أو هذا ما نشعر به بسبب أسلوب الإخراج وربما كان يمكن أن ينتهي الفيلم بالفعل نهاية مفتوحة قبل تلك النهاية التوفيقية التي يفرضها السيناريو والتي تغلق كل الأقواس وتحقق للمتفرج النهايات السعيدة بجمع شمل الرجال والنساء. وهي نهاية تتسق مع طبيعة الفيلم الذي يصدر من داخل السينما السائدة ولا يسعى لتجاوزها فنيا.

اللهو البرئ يختلط بالعبث داخل الحمام

يلاحظ أيضا الإفراط والتكرار في استخدام الموسيقى لتحقيق أكبر شحنة عاطفية، وامتداد بعض المشاهد بعد ان تكون قد حققت الغرض الدرامي منها، وتكرار الكثير من الألفاظ النابية، وبعض المواقف المفتعلة (مثل المشاجرة التي تنشب بسبب لهو شباب الحي بأحد الملابس الداخلية النسائية)، وهي استطرادات ومبالغات تؤدي إلى هبوط الإيقاع ثم تأرجحه، مع وجود الكثير من المشاهد الزائدة التي كان من الأفضل استبعادها، ومنها على سبيل المثال، مشهد تسلل الهام شاهين عند الفجر إلى منزل محمود حميدة حيث تضبطها أمه العجوز (رجاء حسين) فتلقنها درسا فظا وتطردها شر طردة وهو مشهد طويل بتفاصيله التي لا توضح بقدر ما تثير الاضطراب في تفسير علاقة الهام شاهين بمحمود حميدة.

هبوط الأداء

ويعاني الحوار من الهبوط والركاكة، خاصة ما يأتي على لسان أحمد الفيشاوي، فهو حوار ساذج غير مقنع، وكذلك ما تردده الهام شاهين في وصف مأساتها الشخصية، فهو حوار ساذج. كما يساهم أداؤها المفتعل في محاولة منها لضخ الحياة في الشخصية بلا جدوى، في هبوط المشاهد التي تظهر فيها الهام شاهين، وتبدو كلمات الحوار التي ترددها مرتجلة، مكررة، ولا معنى لها سوي الصراخ والصياح والشكوى ورثاء الذات. وتبدو الإشارة المتكررة المقحمة إلى  أغاني وعصر عبد الحليم حافظ غريبة على سياق الفيلم فعبد الحليم لم يكن مطرب الطبقة الشعبية بل مطرب الطبقة الوسطى، كما يصبح تكرار الإشارة إلى “منديل” عبد الحليم الذي تشتريه الهام شاهين بمبلغ كبير من أحد المزادات، تفصيلا زائدا عن حاجة الفيلم لا يضيف إليه شيئا.

مشكلة الهام شاهين أنها تبدو وكأنها تؤدي الشخصية التي تلعبها كيفما اتفق، فهي تتأرجح في الأداء بين شخصيتها في “خلطة فوزية” لمجدي أحمد علي، وكانت أكثر قوة في تضاريسها وحضورها وقوتها، وشخصيتها النمطية الهزيلة في “هز وسط البلد” لمحمد أبو سيف، كامرأة متسولة، بينما يفترض أن تكون في هذا الفيلم قد خالطت المثقفين من الرسامين وتأثرت بما سمعته منهم بحكم عملها كموديل. ولاشك أن الدور لم يكن مناسبا لها من الأصل، بحكم عوامل عديدة منها سنها وملامحها الخارجية وصوتها وطريقة نطقها للألفاظ، لكن الهام شاهين هي منتجة الفيلم.. فكيف يمكن ألا تكون “البطلة” أيضا!

Visited 154 times, 1 visit(s) today