يوميات الموسترا (7): العيش مع الكلاب
أمير العمري- فينيسيا
من أفضل ما شاهدت من أفلام خلال اليومين الماضيين فيلم “راعي الكلاب” Dogman للمخرج الفرنسي “لوك بيسون” (صاحب نيكيتا، وليون، ولوسي وأنا). وهو فيلم ناطق بالإنجليزية من الإنتاج الفرنسي، يدور في إطار تشويقي إنساني، بطله شاب معاق الساقين، يقوم بدوره ببراعة كبيرة تستحق الإعجاب والتقدير، الممثل الصاعد بقوة، “كاليب لاندري جونز” مع مجموعة لا تقل عن عشرين كلبا، تم تدريبهم جيدا للقيام بأدوارهم كما رسمت في السيناريو.
“راعي الكلاب”، وهي الترجمة الأكثر دقة هنا عن “رجل الكلاب” أو “مربي الكلاب”، هو فيلم ذو نفس فلسفي وديني، يتعلق بفكرة الشر والعذاب والرغبة في الخلاص. ورغم أن طابعه الغالب هو السياق المثير الذي يقترب حينا من سينما الرعب، وحينا آخر من سينما الاحتجاج والغضب والتمرد الفردي على قيم التدهور السائدة في المجتمع الأمريكي، على غرار فيلم “الجوكر”، إلا أنه أقرب إلى أفلام دراسة الشخصية character study فاهتمامه بالفرد وما يدور تحت قشرة رأسه، وما نتج عن طفولته المعذبة، أكبر كثيرا من اهتمامه برصد ملامح التدهور في المحيط الخارجي. لذلك فهو أيضا فيلم من أفلام التحليل النفسي.
وكما كان “الجوكر” يريد أن يصبح نجما كوميديا مسليا أي باختصار “جوكر”، فبطلنا هذا “دوجلاس”، لديه قدرة غريبة، ليس فقط على ابتكار وسائل وأساليب جديدة لمعاقبة الأشرار بمعاونة كلابه، بل وهو رغم إعاقته وكونه مشلول الساقين لا يمكنه السير والوقوف سوى بصعوبة بالغة، يرتدي ملابس مشاهير الفن من الغناء والتمثيل، ويؤدي بمحاكاة الغناء الشهير للمغنية الفرنسية الشهيرة إديث بياف، في أحد النوادي الليلية. هل هو “شاذ” أو “مثلي”؟ ليس واضحا تماما بل وليس مهما، بل المهم أنه غريب الأطوار، يعاني من اضطراب واضح في السلوك. لكن الفيلم يقدم له كل ما يرغب من تبريرات واعتذارات.
قد لا يكون هذا هو أكثر أفلام لوك بيسون عنفا، لكنه واحد من أفضل أفلامه من ناحية السيطرة المدهشة على الأسلوب والأداء واكتشاف المناطق الكامنة في الشخصية بعيدا عن السطح. واستخدامه لنحو 26 كلبا في الفيلم، يبدو مبهرا، وجديدا تماما.
المشهد الأول صادم: يجلس دوجلاس داخل شاحنة صغيرة في ملابس مارلين مونرو وكل زينتها وشعرها وماكياجها، جريحا على ما يبدو، ومن خلفه في صندوق الشاحنة مجموعة أصدقائه الأوفياء، الكلاب. يقبض عليه رجال الشرطة، يوضع في الحجز وتأتي إليه محللة نفسانية تابعة للشرطة هي “إيفيلين” (تقوم بالدور الممثلة الفرنسية السوداء جوجو ت. جيبز) تستمع إليه وتحاول أن تفهم ما الذي دفعه إلى أن يصبح على ما أصبح عليه. ولكن ما هذا الذي “أصبح عليه”؟ هذا ما نراه من خلال مشاهد “الفلاش باك” التي تتداعى عبر فصول الفيلم المختلفة في سياق درامي يبدو أقرب إلى أفلام الثمانينيات والتسعينيات، بل إن الفيلم بأسره يبدو معبرا أكثر عن حقبة التسعينيات من حيث تصميم المشاهد والملبس والديكورات وطابع الصورة ومزاجها الضوئي واللوني.
من التفاصيل الجيدة في السيناريو، الاهتمام بالمقاربة بين مشاكل البطل الشاب، والمشاكل التي تواجهها في المنزل، تلك الطبيبة النفسية، التي تعاني من آثار زواج فاشل، وعلاقة ملتبسة مع ابنها الصغير.
دوجلاس كان طفلا غير سعيد، فقد كان يعاني من أب شرس، مدمن على المراهنة على مصارعة الكلاب، وكان بالتالي يسيء معاملة الكلاب ويقسو عليها بينما كان دوجلاس يحنو عليها ويجد معها الألفة والسعادة في غياب حنان الأب، وسلبية الأم التي تعجز عن أن تمد يدها إليه، وشراسة شقيقه الأكبر الذي يتخذ نفس موقف الأب. ويفتتح الفيلم بمقولة ألفونس لامارتين التي وهي “عندما يقع المرء في المتاعب، يرسل الله إليه كلبا”. أي أن الكلاب أكثر وفاء من البشر، وهي مقولة صحيحة بالطبع. ومنها سنرى قيام دوجلاس الطفل بإنقاذ كلب من بين براثن والده الذي كان يقوم بتعذيبه ورفضه إعادته إليه من داخل الحظيرة الصغيرة التي حبسه والده في داخلها، مما يدفع الأب السكير على إطلاق الرصاص في ثورة غضب، فيصيب دوجلاس في عموده الفقري مما يؤدي إلى الشلل.
دوجلاس يفر بعد ذلك من المستشفى على مقعده المتحرك، بمساعدة الكلاب التي تحبه، ويلجأ إلى منزل مهجور، يصحب معه عددا كبيرا من الكلاب، يقوم بتربيتها وتصبح هي وسيلته للانتقام من الأشرار، من أفراد عصابة شريرة ثم يستخدم الكلاب في سرقة المجوهرات من منزل لأصحاب الثراء الجديد، لكنه يسرق من الأغنياء لكي يغدق على الفقراء، وفي الوقت نفسه يرتدي ثياب ويتنكر في باروكة إديث بياف تارة، ومارلين ديتريتش تارة أخرى، ويغني واقفا في مكانه على خشبة المسرح، ويكسب إعجاب جمهور غفير.
ان دوجلاس يتحقق عن طريق ارتداء ملابس المشاهير من النساء، وتقليد أصواتهن أو تحريك الشفاه فقط على كلمات وأنغام الأغاني التي اشتهرت بها ولعل من أشهر هذه الأغنيات “ليلي مارلين” التي كانت أحدد أشهر الأغاني في ألمانيا أواخر الثلاثينيات وخلال الحرب العالمية الثانية، ونسمعها في الفيلم بصوت مارلين ديتريتش، و”أريد أن أكون محبوبة منك” لمارلين مونرو.
لا يسلم دوجلاس بالطبع من الانتقام، أي انتقام زعيم العصابة الشرير الذي سبق أن سلط عليه أحد كلابه لكي ينهش خصيته، والمشهد الأخير في الفيلم الذي تقتحم فيه العصابة المنزل المهجور الذي يقيم فيه دوجلاس، مليء بالعنف والمواقف المبتكرة التي تلعب فيها الكلاب الدور الرئيسي. فدوجلاس كان قد أعد العدة لكافة الاحتمالات.
الفيلم بأسره احتفال بالعلاقة الجميلة بين الإنسان والكلاب، ومرثية لضياع البراءة وهيمنة القبح والظلم. وفيه يبلغ كاليب لاندير جونز القمة في الأداء: كشخصية تراجيدية تنساق إلى قدرها المحتوم، شخصية متعددة الأوجه، مركبة، تكشف تدريجيا عن حزن كامن نبيل.
أعتبر “راعي الكلاب” أحد أفضل الأفلام التي شاهدتها حتى الآن من ناحية الاتقان الفني والتأثير الدرامي، رغم ما أبداه الكثير من النقاد من تحفظات أو حتى رفض له، ولاشك انهم كانوا مدفوعين في هجائهم السخيف لفيلم جيد جدا، بموقفهم الشخصي من مخرجه، الذي اتهم قبل سنوات باغتصاب ممثلة، ثم ثبتت براءته قبيل افتتاح أيام من دورة مهرجان فينيسيا، كما اتهمه عدد من الممثلات المتدربات بالتحرش الجنسي وإن لم يصل الأمر أإلى القضاء. وقد لعب هذا كله دورا في التشويش الذي قوبل به عرض الفيلم في المهرجان العريق الذي يحسب لمديره الفني أنه يفصل بين الفنان وإبداعه، والفنان في حياته الخاصة، وهو نفس موقفه من وودي آلن وبولانسكي.