“المرشح” عندما يتحول المتهم إلى أداة اتهام لنظام فاسد

لقطة من فيلم "المرشح" الاسباني لقطة من فيلم "المرشح" الاسباني
Print Friendly, PDF & Email

حصل فيلم “المرشح” The Candidate الاسباني على سبعة من جوائز غويا السنوية التي تقام على غرار مسابقة الأوسكار رغم ما يوجهه من نقد عنيف للنظام السائد، وهو ما يذكرنا، على نحو ما، بالطابع المميز لأفلام كوستا غافراس الشهيرة.

هذا فيلم سياسي، موضوعه هو الفساد في أوساط النخبة السياسية، من خلال أسلوب الفيلم البوليسي المثير، ذي الإيقاع السريع والشخصية الرئيسية الواحدة التي تظهر في معظم مشاهد الفيلم، ننتقل بين حياتها الخاصة، وعلاقتها بالسلطة، ومأزقها المركب الذي يتفاقم أكثر فأكثر.

يقوم الممثل الاسباني الشهير أنطونيو دو لا تور بدور “مانويل لوبيز فيدال” “نقيض البطل” anti-hero الذي يلهث طوال نحو 130 دقيقة (زمن الفيلم) يحاول بشتى الطرق، العثور على وسيلة للنجاة من المصير الذي ينتظره بعد ان انكشف حجم فساده: التهرب الضريبي، الاختلاس، الرشوة، غسيل الأموال، التحايل للاستيلاء على المال العام. وكان لسنوت يستغل منصبه ويختلس الملايين من الدعم المالي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي لاسبانيا. فمانويل هو نائب رئيس الحزب ذوي الطموح القوي للصعود، وعضو في الحكومة الإقليمية في منطقة الأندلس، وحزبه هو الحزب الحاكم في اسبانيا.

طعم المال

المساومة على النجاة

يجسد المخرج رودريغو سوروغوين، من البداية ما أطلق عليه وولتر جيفيس “طعم المال” في روايته التي أخرج عنها سكورسيزي فيلمه الشهير بالعنوان نفسه عام 1985. إننا نشاهد حياة اللهو التي يعيشها “مانويل” مع رفاقه من علية القوم، أو كبار اللصوص، كيف يستمتعون بالشراب والطعام واللهو والمزاح فوق يخت قرب الشاطئ، يأكلون ويشربون ويثرثرون ويسخرون من قاضٍ يظهر على شاشة التليفزيون يتعهد بالقضاء على الفساد، فمن هو لكي يتجرأ بمثل هذا التعهد، و”كان غيره أشطر”.

في لقطة طويلة تصل إلى مشهد كامل مستوحاة من فيلم سكورسيزي “رفاق طيبون”، يتحرك مانويل تتابعه الكاميرا من ظهره، من الشاطئ، عبر الحارات الضيقة التي اشتهرت بها مدن الأندلس القديمة، يلتف ويدلف عبر الحارات، يجتاز بوابات لمبانٍ قديمة ويعبر على مساحات خالية وخرائب، إلى أن يدلف من الباب الخلفي إلى مطبخ أحد المطاعم الراقية المتخصصة في المأكولات البحرية، حيث ينتظم العمل فيه في إعداد الأطباق الشهية، كخلية نحل، ثم يستقر على مائدة الى جوار “اصحاب السعادة” من كبار رجال الدولة، الذين يناقشون رحلاتهم القادمة ومغامراتهم الشخصية، ونعرف أن مانويل هو أحد المقربين من زعيم الحزب “جوسيه لويس”.

ما يحدث بعد ذلك أن يُعتقل أحد أتباع تلك العصبة، بعد أن تكون الشرطة قد سجلت له ما يدينه، فيدور مانويل على جميع رفاقه وأصدقائه وزملائه، يحذرهم جميعا وينذرهم بضرورة عدم التحدث في الموضوع، على أمل أن تعجز الشرطة عن الوصول إلى دليل دامغ. إلا أنهم يسجلون له بدوره وهو يقوم بمثل هذه التحذيرات للتستر على الفساد، ويذاع التسجيل على التليفزيون، وبذلك تصبح مسألة وقت قبل القاء القبض عليه واستجوابه وتوجيه اتهامات عديدة إليه. لكنه يخرج بكفالة كبيرة على أن تتم محاكمته بعد 3 أسابيع.

مانويل يحاول الحصول على أدلة ضد خصومه

السعي المحموم للنجاة

من هذه النقطة يصبح كل هم مانويل أن يطلب الدعم والمساندة من الحزب، لكن الجميع يتخلون عنه رغم ضلوعهم معه في الفساد. لقد أصبح شبيها بالمصاب بالجرب ناقل العدوى، يبتعد عنه الجميع بل وزوجته نفسها. أما ابنته التي ترتبط به، فهو يشاركها السباحة ولكن دون أن يتبادل الاثنان الكثير من الكلمات.

يظل هاجس مانويل طوال الفيلم كيف يحصل على الدعم. يحاول رشوة قاض، يهدد “الكبار” بإفشاء أسرارهم إن لم يقفوا معه، يبحث عن أي أدلة يمكن أن تفيده. وهكذا يسير الفيلم في إيقاع سريع لاهث ويشمل مطاردات، وخيانات، وبحثا عن وثائق سرية داخل منزل أحد الذين خذلوه، كما تقع مواجهات عنيفة ينجو منها مانويل بمعجزة، وحادث سيارة، ثم مواجهة تليفزيونية على الهواء مع صحفية تحاسبه وتكشف ما جناه أمام الجمهور، ويفرغ هو خلالها ما لديه ضد الجميع.

تدور الأحداث في 2007. والفيلم لا يستند إلى وقائع حقيقية رغم أنه يبدو من السطح كذلك، وهو لا يحدد الانتماء السياسي للحزب الذي يصور الفيلم فساد قياداته، لكننا نعرف أنه “الحزب الحاكم” القابض على السلطة، وعنوان الفيلم بالاسبانية هو El reino أي “المجال” أو بالأحرى “المؤسسة”. أي أن الفيلم يعري ويتهم النظام بأسره. أما عنوانه في الإنكليزية فهو “المرشح” The Candidate، فرئيس الحزب في المقاطعة، السياسي العجوز “فراياس” يرشح مانويل لخلافته كونه مصابا بسرطان الحنجرة ويستعد لإجراء عملية جراحية قد تبقيه عاجزا عن مزاولة عمله. لكن هذا التعهد يصبح في مهب الريح بعد أن يصبح “مانويل” كبش فداء، يرغب الجميع في التخلص منه. يعدونه فقط بممارسة بعض الضغوط من أجل إصدار حكم مخفف عليه، مقابل أن يصمت تماما، إلا أنه يطالب بالتبرئة التامة وإلا يقلب المائدة فوق رؤوس الجميع!

يستغرق الفيلم أكثر من نصف ساعة في التقديم للموضوع، من خلال مشاهد قصيرة وانتقالات سريعة من مشهد لآخر، لاجتماعات ومقابلات واتصالات هاتفية ولهاث من هذا المكتب الى ذاك، والتحذير، قبل أن نعرف بالضبط المقصود، وما حدث، ومن هو “كعب أخيل”، ولماذا قام بهذا الدور. ومما يصعب من متابعة فيلم يقوم على التحقيق والتعقب والمطاردة، والكشف الممنهج عن الأطراف المختلفة الذين يتم وصفهم في الفيلم بأنهم “جماعة من المجرمين”، غلبة الحوار وطغيانه على الصورة في كثير من المشاهد وسرعة إيقاع الأحاديث المرتبكة التي يشوبها التوتر وسرعة الانتقال بين المشاهد، والتعدد الكبير للشخصيات، مما يربك البناء ويربك المتفرج أيضا، فلا يعرف ما الذي يجري بالضبط إلى أن يتركز الفيلم في نصفه الثاني، على حالة البارانويا التي تنتاب مانويل.

في لحظات كثيرة يجعلنا الفيلم نتعاطف مع بطله المطارد الذي تخلى عنه الجميع واضطر لإرسال أسرته الصغيرة بعيدا الى كندا، فقد أصبح يلقى التجاهل والازدراء من الجميع، ورغم أنه مذنب وخارج عن القانون، إلا أنه يملك أن يتجرأ ويردد أشياء مثل: “ما الذي فعلته؟ أنا لم أسرق من أحد.. لقد سرت على ما كان موجودا من أيام جدي.. كل ما أردته توفير حياة كريمة لأسرتي”. إنه ليس الأكثر فسادا من الباقين. ولكنه يظل مذنبا.

ومن الشخصيات المثيرة للاهتمام في الفيلم شخصية “كابيرا” التي يؤديها أداء يتصف بمسحة من الكاريكاتورية بإقناع كبير الممثل “لويس زاهيرا”. هذا الرجل صعد من صفوف الطبقة العاملة، وهو شبه أمي، لكي يصبح من القيادات الحزبية الكبيرة، وأصبح يتمتع بمكتب فخم وسكرتيرة حسناء، فقط بفضل قدرته على القيام بالدور القذر لحساب كبار المسؤولين كغطاء ويستخدم علاقاته لضمان عمليات “غسيل الأموال” المنهوبة.

في مشاهد عديدة تتحرك الكاميرا حركات طويلة ملتوية، مع موسيقى “الديسكو” الصاخبة، للتعبير عن أجواء التوتر والتشكك واللهاث التي يعيشها “مانويل”. يدور التصوير حينا داخل المكاتب الأنيقة، والمباني الشاهقة الحديثة التي يحتلها مقر الحزب، وينتقل إلى شاطئ البحر أو القصور والمنتجعات والمطاعم والحفلات التي تكشف مدى ما تتمتع به “العصبة” من ثراء.

“مانويل” هو وسيلتنا لكشف الفساد، وهو يتحول من ضالع ومتهم، وحيد ويائس ومطارد، إلى محذر من فساد النظام. ولكن هل ينجح؟ نهاية الفيلم تظل غامضة لا تكشف لنا صدى ما كشف عنه على الهواء. لكن المؤكد أن لا شيء سيتغير! 

فيديو

Visited 62 times, 1 visit(s) today