فيلم ” آدم” .. جماليَّة التلامُس البشريّ

لقطة من الفيلم المغربي "آدم" لقطة من الفيلم المغربي "آدم"

عن امرأتين وطفلة يدور الفيلم المغربيّ “آدم” الذي حمل الكثير من المعاني ومن الفنيات على حد سواء، ونجح إلى حد بعيد في مزج المعاني بالفنيات ليقدم عملاً يستحق المشاهدة. مطبوع بطابع الإنسانيَّة، ومُحافظ عليها بل مُغرق فيها. الفيلم الذي من الممكن النظر إليه من خلال نافذة النَّسويَّة -وهي النظرة المعتادة في مثل الأعمال التي تصنعها النساء أو تدور حولهن- من الممكن أيضًا إغلاقها والنظر إليه من الوجهة التي اختارها هو؛ وهي الوجهة الإنسانيَّة.

الفيلم الذي كتبته وأخرجته مريم التوزاني يدور حول امرأة هي “عبلة” (لُبنى أزابال) التي تعيش مع ابنتها الطفلة “وردة” (دعاء بلخوضة) في شبه انعزال تامّ بعد مفارقة الوالد وربّ البيت لهما في حادث أودى بحياته. تعيش عبلة من الارتزاق بتحويل جزء من بيتها مفتوح على الشارع إلى محل صُنع الحلوى والمُعجَّنات. لكنْ كما خيَّمَ على البيت الانعزال خيَّمَ الكساد على بضاعة المرأة إلا من القليل الذي تنفق منه على الطفلة والبيت.

وعلى بُعد شارع نرى الشابة “سامية” (نسرين الراضي) وهي تترجَّل طالبة الارتزاق أيضًا بالعمل خادمة في البيوت شرط أنْ تجد مكانًا للسُّكنى؛ لأنَّها حُبلى من سِفاح في شهور الحمل الأخيرة. ولا نقابلها إلا على حال مُزرية من الضياع والشقاء؛ فالجميع لا يرضى بها إمَّا لأنَّها حُبلى، وإمَّا لأنَّها شابّة تخافها ربّات البيوت، وإمَّا للحذر العموميّ من أن تبيت غريبة في البيت. ثم تجد سامية نفسها على باب عبلة تعرض عليها الخدمة مقابل المبيت. فترفض عبلة، لكنْ سرعان ما يتغيَّر رأيها وتلتقي المرأتان في بيت واحد لتتعرض كلتاهما إلى عديد المفارقات، فماذا سيحدث؟

الفيلم ضيِّق الشُّخوص ثلاث نساء ورجل هو “سليمان” (عزيز حطاب) الذي يتعاون مع عبلة في أمور العمل ويطلب ودها والزواج منها لكنها ترفض. ورغم هذا الملمح إلا أنَّه ليس فيلم شخصيات قدر ما هو فيلم حالة؛ حالة الانغلاق على الذات والشعور بالضياع. تمثِّل هذه الحالة سامية التي تمشي ضائعة تائهة في الطريق لا تعرف لها مُستقرًّا في ظل عار يلاحقها وسيلاحق ابنها؛ مما يُسبب لها ضبابيَّة شديدة في رؤية تصرُّفاتها أو حتى انفعالاتها تجاه الآخرين وتجاه ابنها الذي لمْ يولد، والذي لا تريد لها العيش في حال العار الذي سيلحق بها مُجتمعيًّا.

والحال نفسه مع عبلة التي تشعر بالضياع منذ فارقها الزوج والحبيب الذي مثَّل لها كلّ قيمة، وبرحيله فقدت القيمة جُملة لا تفصيلاً. ولمْ يبقَ لها إلا ثقل إدارة البيت والعمل وأمور ابنتها. هي كإنسانة قرَّرت في ظل هذه الظروف إغلاق باب الحياة كما تغلق باب دُكانها وتعليق شارة “مُغلق حتى الموت” .. هذا ما قرَّرته لكنْ ما كلّ ما يُقرَّر يحدث؛ وهنا نجد سامية التي هي بدورها أمّ مستقبليَّة لا حاليَّة -كما عبلة-.

وبين الاثنتين نجد الطفلة التي هي أقرب للبراءة والتخفُّف من حال الانغلاق والشعور بالضياع اللتين تسيطران على الأخريين. طفلة ضحوك من بين شفتيها تُثمر البهجة وتطرح ولتوزِّعها على مَن حولها، كان قادرة على استجلاب روح الطفلة من الشابة سامية حتى سرعان ما التأمتا وصارتا خير صديقتَيْن. ولعلَّ الطفلة كانت أهمّ محرِّكات الدراما في الفيلم؛ فهي التي استجلبت سامية منذ الوهلة الأولى، وهي العامل الحاسم في استبقائها في البيت رغم رفض أمها، وهي التي أعادتها مرةً أخرى بعد أنْ طُردتْ، وأخيرًا هي التي غيَّرتْ مزاج سامية العامّ التي بدورها غيَّرتْ مزاج الأم العام.

في نظرة نسويَّة هي قصص عن الأمهات العزباوات أو السيدات عمومًا وشقائهنّ، وفي نظرة إنسانيَّة أشدّ عمقًا وأبلغ أثرًا هو “التلاقي الإنسانيّ” والتواصل الإنسانيّ، بل التلامُس الإنسانيّ وأثره في تغيير حياة الآخرين. الفيلم به دراما تحولات عميقة وجذريَّة صاحب التأثير البالغ في هذه التحولات هي اللمسة الإنسانيَّة للجلد البشريّ، والتواصل الإنسانيّ شعوريًّا أيضًا.

هذا المعنى الفلسفيّ نراه في مشاهد عديدة مثل مشهد تحسُّس الطفلة لبطن سامية الحُبلى وشعورها بحركة الجنين وقلقه في جوف أمّه.. نراه في مشهد التلامُس الإنسانيّ بين سامية وعبلة لتحرك مشاعرها تحريكًا.. نراه في ملامسة سامية لوليدها بعد رفضها إيَّاه وإعراضها عن إرضاعه؛ وهي تعدّ أصابع قدميه وكفيه، وهي تشعر بنبضه والحياة فيه.

أمَّا التواصل بالشعور فنراه في مشهد استجداء سليمان لسامية كيْ تقنع عبلة بالزواج منه.. نراه في لعب الطفلة وردة مع سامية فوق البناية وهي تقول لها واصفة جسدها المُثقل بالحمل: أنتِ دُبَّة لن تقدري على اللحاق بي .. نراه في العيون وصراعها بين السيدتين.. بل نراه بالضدّ في نظرة سامية لشابات أصغر سنًّا قليلاً منها وهن يمرحن في الطرقات غير مُثقلات بما هي مُثقلة به.

الفيلم قليل الحوار أو بدقة كان الفيلم مُترشِّدًا في إدراج حوار وهذا أعطى فرصة للتمثيل الحرّ دون ثقل الحوار على الممثل، ودون مُساعدة الحوار للممثل أيضًا. وعندما أتى الحوار كان واقعيًّا ككل شيء في الفيلم، ومُجديًا أشدّ الجدوى لما أُريد به من الأساس.

إنَّ دور الحوار القليل يسمح لنا باختبار العديد من لحظات التمثيل التي برعت فيها الممثلتان، بل برعت فيه الطفلة بالغة اللُّطف والرقة التي تظهر في الفيلم. كلهُنّ أدَّين أدوارًا تدلّ أولاً على عُمق فهمهن لما يجب عليهن من جانب، وثانيًا على درجة تملُّكهن من المهارة التمثيليَّة من جانب آخر.

وقد تعالت الواقعيَّة في بعض المشاهد لتتحول إلى مستوى من القسوة الشديدة ولعلَّ أبلغ مشهدين يتحلَّيان بطبع القسوة مشهد عبلة وهي ترى نفسها في المرآة، ومشهد سامية وهي تتأرجح بين الأمومة وحسابات الواقع حتى إقدامها على خنق الطفل بثديها الذي هو في الأساس رمز الرحمة والعطاء الأنثويّ. ونلحظ أنَّ الطفل سُمِّي باسم الفيلم “آدم” وكأنَّه أوَّل هو الآخر بلا رجل أتى به.

التزمت المخرجة بسمت الواقعيَّة في الصوت. والفيلم أحد أهمّ مصادر الصوت فيه هو أصوات البيئة المحيطة بالمَشاهد وفي الفيلم ركَّزت بعناية المخرجة على نقل أصوات البيئة المحيطة التي تكوَّنتْ من صوت الأثير وأصوات الجيران، وأصوات همهمات لمْ تنقطع في غالب المشاهد وكأنَّ المخرجة استبدلتْ بالموسيقى أصوات الواقع لصنع نمط صوتي متميَّز.

ومن الواقعيَّة أيضًا واقعيَّة التزيين وتصفيف الشعر التي انطبقت على الشخصيتين انطباقًا. وقد اعتمدتْ المخرجة على الألوان الحارَّة في غالب المشاهد خاصةً المؤثرة لتكثيف الحالة الإنسانيَّة فيها. وفي الغالب امتاز عمل المخرجة بالمهارة والتركيز والحدَّة.

وكما يعطينا هذا الفيلم نموذجًا في اللمسات البشريَّة وأثرها كذلك يعطينا ملمحًا عن الوجوه الإنسانيَّة. وفي الفيلم مشهد ظهر فيه وجه لعجوز طاعنة في السنّ يمتاز بجمال فريد والتجاعيد قد ترسَّختْ فيه وصنعت طُرُقًا بل مدينة كاملة كتلك المدينة التي جرت فيها أحداث الفيلم. فكم من دراما دارت في المدينة، وكم من دراما مرَّت على هذا الوجه الفاتن!

Visited 125 times, 1 visit(s) today