“سيدة البحر”: تجربة مدهشة لمخرجة سعودية

Print Friendly, PDF & Email

دون أدنى شك، كان “سيدة البحر” أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرجة السعودية الشابة شهد أمين (31 سنة) ضمن تظاهرة “أسبوع النقاد” في مهرجان فينيسيا السينمائي، مفاجأة بديعة حقا، فالفيلم يبدو شديد الطموح من  جانب مخرجة شابة من الواضح أنها هضمت إنجازات السينما الفنية في العالم.

ينتمي “سيدة البحر” إلى سينما الشعر، التي قد تروي قصة، كما في حالة فيلمنا هذا، وهي قصة رمزية تدور على مستوى الخيال مع ميل مقصود للتجريد عن طريق عدم تحديد المكان مع جعل الزمان هو الماضي القريب، قبل تطور وسفن الصيد، لكنها تصور مفردات هذه القصة باستخدام وسائل السينما: الصورة والتكوين وحركة الكاميرا والضوء والظل والمونتاج والموسيقى، في سياق غير تقليدي بل يجنح للتجريب والتحرر من “الحبكة” والاعتماد على ما ينتج عن الصورة من تداعيات في ذهن المشاهد عما يشاهده.

تستمد المخرجة شهد أمين الفكرة من الواقع، لكنها تضفرها في سلسلة من المشاهد واللقطات التي تجسد من خلالها رؤيتها الخاصة لمعاناة الأنثى/ الفتاة/ المرأة في المجتمع العربي التقليدي، وهو كما تراه مجتمعا بطريركيا، يقمع ويستبعد ويغفل وجود المرأة، بل ويحرمها من حقها في الحياة، يراها باعتبارها كائنا أدنى من الذكر/ الولد/ الرجل، فهي رمز الضعف، لا يسمح لها الصيادون كما في حالة بطلتنا الصغيرة “حياة” التي يرمز اسمها للعطاء، بالخروج معهم للصيد، ويتم حرمانها بقسوة من ممارسة الحياة كما ترغب بدعوى أنها “الأدنى” والأضعف، ولن تقدر بطبيعة تكوينها الجسماني على مشاق الرحلات البحرية التي يخرج فيها رجال القبيلة للصيد.

والصيد يرتبط بتوفر السمك في البحر. ويرتبط توفر السمك بدوره برضاء البحر عن الصيادين، ففي أعماق البحر تكمن “سيدة البحر” أو الحورية الشريرة التي يجب استرضاؤها باستمرار عن طريق تقديم الأضاحي والقرابين لها، والأضحية يجب أن تكون فتاة صغيرة شابة عذراء، ومن دون هذه التضحيات التي يتعين أن تقدمها كل عائلة، والتي أصبحت سمة مقدسة وتقليدا متوارثا عبر الأجيال، لا يكشف البحر أسراره للصيادين، ولا يجدون فيه ما يبحثون عنه، بل يمكن أن تهب العواصف القاسية، لتفتك بالسفن واصحابها.

تدور الأحداث في جزيرة معزولة للصيادين تقع وسط البحر. تضع امرأة مولودة يطلقون عليها “حياة” يتعين تقديمها قربانا للبحر الهائج وشياطينه أو حورياته المتعطشات لالتهام القرابين. لكن والد حياة ينقذها من الغرق. إنها ابنته الوحيدة. وهي تنشأ باعتبارها الحلقة الأضعف ويعتبرها مجتمع الصيادين وصمة عار ويعتقدون أن افلاتها من الغرق قد جلب لهم سوء الحظ. ولكنها تحاول أن تثبت لهم طوال الوقت أنها تتفوق على الذكور بجرأتها وشجاعتها واقدامها على الصيد وعلى النزول الى البحر الهائج والعودة بما يعجز عن الإتيان به الرجال. ولكن بعد أن تضع والدة حياة مولودا ذكرا يصبح أمر تقديم حياة قربانا لسيدة البحر مفروغا منه. إنها تقفز وتختفي في البحر وتظل لأيام غائبة ويتصور الصيادون أنها قضت وانتهى الأمر لكنها تعود وتظل صامتة.. وتدرجيا يتحول جسدها الى جسد حورية البحر. لقد اكتسبت شكل الحورية الأسطورية التي يخشاها الجميع.

الفيلم تجربة شديدة الجرأة على صعيد “التجريب” في السينما العربية. وهو من حيث ما يوجهه من نقد شديد مغلف بالشعر، لهيمنة الرجل في المجتمع القبلي، لا يشبه عملا آخر على صعيد الشكل وحيث شعرية الصورة والبيئة الخاصة التي يصورها، ولكنه ربما يكون أقرب ما يكون إلى عالم فيلم “بس يا بحر” (1972) للمخرج الكويتي خالد الصديق، فكلاهما ينتمي الى نوع خاص من “الواقعية السحرية”. وبينما كان الصيادون في فيلم “بس يابحر” يلقون بقطة الى البحر الهائج لكبح جماحه، يستبدل الصيادون في “سيدة البحر” القطة بفتاة.

أهم ملامح تجربة شهد أمين في فيلمها الروائي الطويل الأول الذي يعتبر تطويرا لفيلمها القصير “نافذة ليلى” (2013)، اهتمامها الكبير، لا برواية قصة محكمة مترابطة الأطراف، بل بخلق بناء شعري يشبه بناء القصيدة بألغازه ورموزه ولقطاته المأخوذة من زوايا غير تقليدية، والأهم أيضا، ذلك الاهتمام الكبير بالتكوين في الصورة السينمائية، مستفيدة من الخبرة الكبيرة التي يتمتع بها مدير التصوير خواو ريبرو، لإبراز قوة “حياة” وسط غرابة الطبيعة، ضآلة الانسان أمام الطبيعة، صبغ الصور بمسحة من الضباب الذي يساهم في تعميق الإحساس بالطابع الخيالي الأسطوري للقصة دون إغفال مغزاها المعاصر، والتصوير بالأبيض والأسود الذي يحيلنا إلى الماضي، مع القدرة على خلق علاقة بديعة بين شريطي الصوت والصورة، باستخدام الأغاني الفولكلورية والموسيقى، والإيقاع الهادئ الممتد الذي يوحي بعمق الأسطورة في الزمن، وطريقة كتابة الحوار ونطقه التي تساهم في “تغريب” الموضوع والشخصيات لا لكي تبعدها بل لتقريبنا منها والايحاء بانها شخصيات شديدة المعاصرة، ولكن دون السقوط في المباشرة الفجة.

منتج الفيلم هو العراقي محمد الدراجي، وقد أنتج الفيلم بالتعاون بين شركة “إيماج نيشن” في أبو ظبي، وشركة ايماجيناريوم” البريطانية. وقام بالأدوار الرئيسية بتميز وحرفية عالية الممثل الفلسطيني أشرف برهوم والممثلة السعودية الشابة بسيمة حجار وهي نفسها التي قامت من قبل ببطولة فيلم شهد أمين القصير “نافذة ليلى”، إلى جانب يعقوب الفرحان وفاطمة التاي وهيفا الأغا وحفصة فيصل.

Visited 3 times, 1 visit(s) today