هل لدينا مخرج- فنان بعد شادي عبد السلام؟

شادي عبد السلام شادي عبد السلام
Print Friendly, PDF & Email

في عام 1986 قابلت في مهرجان لندن السينمائي رجلا يدعى آندي أنجل Andi Engel هو بريطاني من أصل ألماني (هاجر واستقر في لندن عام 1969)، كان في الأصل ناقدا سينمائيا، ثم أصبح موزعا ومالكا لأشهر شركة توزيع للأفلام الفنية الرفيعة في بريطانيا وهي شركة Artificial Eye التي وزعت وطبعت على الفيديو، عشرات الأفلام الفنية من العالم لكيروساوا وساتيا جيت راي وبرجمان وأنتونيوني وكارلوس ساورا وغلوبير روشا وعصمان سمبان.. وغيرهم. وكان آندي رجلا غريب الأطوار، يسدل شعره الطويل على كتفيه، وله شارب كث، وكأنه خارج من احدى روايات ديستويفسكي. وكان يفرط كثيرا من احتساء البيرة الى أن تسيل رغوتها على ذقنه.

تحدثنا عن الأفلام الجديدة. ولما عرف أنني مصري سألني بنوع من الاستعلاء: وهل لديكم في مصر مخرج له قيمة بعد شادي عبد السلام؟ يقصد، مخرج يستحق الاحتفاء به وعرض أفلامه من خلال شبكته؟

أندي أنجل

صدمني السؤال: فكيف برجل يجوب العالم بحثا عن أفلام جديدة لمخرجين من آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، يشتري حقوق توزيعها ويطبعها في VHS وكان أيضا يمتلك أو يستأجر أكثر من دار عرض مثل سينما كامدن العريقة التي تعرض هذه الأفلام وشاهدت فيها فيلم برجمان الأخير “فاني وألكسندر”، يجهل ما يجري في السينما المصرية. كان هناك وقتها جيل محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد ورأفت الميهي.. وغيرهم.

لكن كانت تلك هي النظرة المستقرة لدى كثير من الأوروبيين. إن لم تكن مثل شادي عبد السلام فأنت غير معترف بك. وأن مصر لا تنتج سوى الميلودراميات وأفلام الأغاني وراقصات هز البطن والمبالغات على الطريقة الهندية.

لذلك يعجبني كثيرا ما يفعله محمد حفظي على صعيدين: تبني وتوزيع الأفلام الطليعية الفنية الجديدة في مصر وتعريف العالم الخارجي بها، وأيضا، دعوة مديري مهرجانات كبرى مثل مدير مهرجان كان ومدير مهرجان فينيسيا، إلى مهرجان القاهرة السينمائي، لكي يعرفا أن في مصر حركة سينمائية، وطبقة من أهل الصناعة، وجموع من الممثلين والممثلات، والمخرجين الشباب وغير الشباب، وتراثا سينمائي هائلا كان يحتفى به في العالم قبل جيل آندي انجل.

أما آندي أنجل نفسه فقد قرر في وقت ما، عام 1989 أن يخرج فيلما أطلق عليه اسم Melancholia (قبل أن يقتبس نفس الاسم المخرج الدنماركي لارس فون تريير).. وهو فيلم طريف بموضوعه جدير بالمشاهدة لكنه ظل عملا هامشيا لم يحقق نجاحا أو صدى كبيرا. وقد انتهى الى بيع شركته ودور العرض التي كان يمتلكها، وأظن أن المالك الحالي لها هو شركة كيرزون.

في مناقشة دارت مؤخرا مع الناقد الصديق محمود عبد الشكور في مصر، أشرت إلى مقابلتي مع المخرج المصري الكبير صلاح أبو سيف على هامش مهرجان فينيسيا السينمائي (عام 1986) وقلت إن المهرجان في ذلك العام، كان يحتفي بالمخرج الكبير ويعرض فيلمه الأحدث “البداية”، فأبدى محمود دهشته: هل عرض الفيلم في سياق احتفالية خاصة لصلاح أبو سيف؟ نعم بل في سياق “تكريم” Homage أبو سيف، ودعي هو الى المهرجان وأقام في نفس الفندق الباروكي العريق (دي بان) من القرن التاسع عشر الذي صور فيه فيسكونتي فيلمه الشهير “الموت في فينيسيا” الذي يقع قبالة اللاغون أو ذلك الجزء من البحر الذي يفتح على البحر الادرياتيكي، وأمامه شاطيء كان في الماضي يعد قاصرا على طبقة النبلاء بل وكانت جزيرة ليدو كلها تعتبر مصيفا للأرستقراطيين.

صلاح أبو سيف

أبدى محمود عبد الشكور دهشته من المعلومة الخاصة بتكريم صلاح أبو سيف، وتساءل: وهل هم يعرفون من هو صلاح أبو سيف؟ أجبت: نعم كان معروفا، وكان القائمون على المهرجان من جيل الواقعية الجديدة. وأتذكر أن مدير المهرجان في تلك الفترة كان المخرج وكاتب السيناريو السينمائي الإيطالي المخضرم جيان لويجي روندي Gian Luigi Rondi (1921- 2016)، وتولى بعده الناقد غوليمو بيراغي Guglielmo Biraghi (توفي عام 2001). كانت تلك أيام عظيمة عشناها. ومازلت أحتفظ بكتالوج المهرجان الذي نشر معلومات وصورا عن صلاح أبو سيف.

وقد كُرم صلاح أبو سيف في مهرجانات فرنسية مثل نانت ومونبلييه وغيرهما، ولكن أبو سيف لم يكن يجيد اللغات الأجنبية مثل يوسف شاهين، ولم تكن لديه شركة إنتاج لديها أذرع ترويجية مثل شاهين، الذي كان يجيد الترويج لنفسه في المحافل السينمائية الدولية. وكان قد أصبح معروفا على الصعيد الدولي منذ “باب الحديد” الذي احتفي به أيضا باعتباره علامة من السينما الواقعية، وأصبح موجودا في مهرجانات أوروبا منذ “اسكندرية ليه” (1979). وقد تعجبت من عدم إشارة آندي أنجل إلى شاهين. لكن مشكلة الغربيين أنهم يحبون دائما رؤية “مصر” لا كشعب يعيش حاليا، يبدع ويصنع، يخطيء ويصيب، ويصاب أيضا بالنكبات، من الداخل ومن الخارج، بل كتاريخ قديم، فمصر في الذاكرة الأوروبية تظل هي مصر القديمة التي يسميها البعض “الفرعونية”. أما الحاضر فيصعب وجود اهتمام حقيقي به إلا في السياق السياسي، أي عندما تكون هناك أحداث سياسية كبيرة (تأميم قناة السويس، حرب يونيو 1967، حرب أكتوبر 1973، ثورة يناير 2011.. الخ).

جيان لويجي روندي

طبعا فيلم “المومياء” لشادي عبد السلام عرض في دورة مهرجان فينيسيا عام 1970 ودعي شادي الذي كان قد ارتبط بالمخرج الإيطالي الكبير روبرتو روسيلليني العظيم الذي كان وراء دفع مشروع فيلم “المومياء” وإقناع وزير الثقافة ثروت عكاشة بإنتاجه من طرف مؤسسة السينما الحكومية. كما أن شدي أصلا فنان ديكور وكان معروفا في أوساط بينالي فينيسيا للفنون.

أفلام المخرجين الشباب التي عرضت في المهرجانات الأوروبية خلال السنوات العشر الأخيرة، أذكر منها آخر التحرير 2012: الطيب والشرس والسياسي، أيام المدينة، الخروج للنهار، اشتباك، يوم الدين، يوم للستات، أخضر يابس، الماء والخضرة والوجه الحسن، سعاد، ريش، أميرة..

هل معنى هذا أن الفيلم المصري أصبح الآن موجودا في أوروبا بعد غياب طويل؟

يجب ألا نغفل ما وقع من تطور في مجال السينما الفنية التي وصلت الى مهرجان كان وسائر المهرجانات الأوروبية مثل فينيسيا وبرلين وكارلو فيفاري ولوكارنو ولندن، وغير ذلك، لأن المهرجانات تهتم عادة بالأفلام “الفنية” أي ذا الطموح الفني، وليس الأفلام الاستهلاكية التي تعتمد على التهريج والاستخفاف و”التعليقات اللفظية” التي يصبح لا معن لها عند ترجمتها ولا يفهمها أحد خارج مصر.. كما أن هذا النوع من الأفلام يعاني من عيوب كثيرة في التقنية والصنعة. وليس معنى كلامي هذا أن كل الأفلام المصرية التي تصل للمهرجانات، هي أفلام عظيمة ومهمة، بل منها ما هو رديء، لكنه يعكس الصورة التي تجذب الغرب إلينا، صور المرأة المضطهدة، والفقر والتخلف الموجود في الريف البدائي.. وغير ذلك من الصور “الاستشراقية”، وهو ما يجعل مهمة الجيل الجديد من السينمائيين صعبة، فعليهم أن يغيروا تلك الصورة ويهتموا أكثر بالمواضيع المعاصرة التي تدور في أوساط الطبقات الشعبية والطبقة أو “بقاياها”، من دون الافراط في تصوير مشاهد الفلولكلور بالطبع.

· المقابلة التي أجريتها مع صلاح أبو سيف منشورة ضمن كتابي الصادر حديثا “محاورات في السينما”

Visited 47 times, 1 visit(s) today