في زمن الوباء: عالم بدون سينما
في “عين على السينما” نحن لا نعتبر أنفسنا “مجلة” تصدر في مواعيد محددة، أسبوعية أو شهرية، بل هو موقع يتم تحديثه وتجديده يوميا بقدر الإمكان، ونر موضوعات ومقالات وأخبار جديدة كلما أمكن وطبقا للإمكانيات المتواضعة التي معمل بها. أما موقع Senses of Cinema وهو موقع رائد في الثقافة السينمائية، فهو “مجلة” تحمل ارقام الأعداد. وهذا المقال الذي كتبه رئيس تحرير الموقع لتقديم العدد الـ 94 من المجلة الالكترونية، فيلفت النظر كونه يقدم لعدد المجلة من زاوية النظر الى ما خلقته تداعيات فيروس كورونا من رؤى قد تبدو تشاؤمية أو غامضة. والأهم أيضا أنه يشير إلى أهمية المواقع السينمائية في وقت تغلق فيه وتتوقف صفحات ومجلات السينما المتخصصة الورقية.
ترجمة: رشا كمال
في مواجهة الأعداد الكبيرة لحالات الموت الجماعي والخراب الاقتصادي الذي يشهده العالم، تعد الأمور الفنية والترفيهية مسائل تافهة وعبثية. ولكن وباء كوفيد-19 أصاب السينما في مقتل، حيث تكفل الإغلاق الشامل على مستوى العالم بغلق دور العرض، وإلغاء المهرجانات السينمائية، وعمت الفوضى جداول الإنتاج الفني. ولأول مرة منذ عام 1895، نعيش في عالم دون سينما. وهو أمر صعب بل من المستحيل استيعابه.
ومما يدعو للسخرية أنه بالرغم من وطأة الوباء، إلا أن نسبة استهلاك الصور المتحركة وصلت إلى معدلات غير مسبوقة. حيث لجأ كثير من الأشخاص المنعزلين في منازلهم إلى الإفراط في مشاهدة الأفلام للترويح عن أنفسهم خلال فترة العزل المنزلي مما كان سبباً وجيهاً في ارتفاع أسهم منصة نتفليكس رغم ما يشهده باقي سوق السينما وغيرها، من انهيارات.
ونحن هنا في مجلتنا “حواس السينما” Senses of cinema لسنا متشددين إزاء الطريقة التي يختارها المتفرجون لمشاهدة واستهلاك الأفلام والمسلسلات أو الفيديو آرت. فمهما تنوعت طرق العرض من تعليق شاشات في المعارض، أو تشغيل أقراص دي في دي المدمجة على شاشات التليفزيون الكبيرة، أو مشاهدة مقاطع العرض المباشر لمنصة يوتيوب على الهواتف الذكية أثناء انتظار الحافلة، فإن كل هذه الوسائل توفر التجربة السينمائية للمتفرج.
ورغم ذلك ينقصنا شيء ما من جراء عدم ارتياد دور العرض، هذا الشيء هو طبيعتها الاجتماعية بدءا من طقوس مشاهدة نفس الفيلم برفقة الأصدقاء والغرباء على حد سواء.
فإذا كان هناك سبب وراء بقاء الوسيط السينمائي حتى الآن رغم اندثار العديد من الوسائط الإعلامية الاخرى فهو تحديدا، تلك الرغبة القوية التي تدفع الناس لمغادرة المنزل كل ليلة سبت للاشتراك في حالة شعورية جماعية. وهو نفس العامل المشترك الذي يجمع بين السينما والرياضة، مثل المسرح، الحفلات (أصبحوا بدورهم ضحايا للفيروس أيضاً). فلطالما امتلكت السينما القدرة على إحداث تأثير كبير على الناس.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فرغم أن عملية الانغماس في الفيلم يمكن أن تحدث بواسطة أي وسيلة عرض أخرى. إلا أن دور العرض تحجبنا بقوة تلقائية عن ملهيات الحياة العصرية، حيث القاعة المظلمة، الشاشة الكبيرة، والصور المعروضة عليها التي تمكننا من مشاهدة الافلام بحق وملاحظة آليات شكلية قد نغفل عنها. فالقوة الأخاذة للقطة المقربة تفقد تأثيرها عند عرضها على شاشة بمقياس راحة اليد.
وإذا كان هناك تعريف عملي للسينما يميزها عن وسائل عرض الصور المتحركة الأخرى فذلك هو. قد تتمكن من مشاهدة فيلم على شاشة التليفزيون أو على شاشة الحاسوب أو هاتفك المحمول، ولكن إذا كانت ظروف المشاهدة المثالية في قاعة، وإذا توقفت وسألت نفسك عن تجربتك هذه وأنت تشاهد الفيلم على الشاشة الكبيرة وفي القاعة المظلمة بل وربما يكون الفيلم معروضا أيضا على شريط سيليلويد، فإن ما تشاهده يكون فيلم سينمائياً.
يعد ارتياد السينما الآن دربا من دروب الخيال ومن المستبعد أن يعاود الظهور على السطح في أي وقت قريب. فالعالم يقف عند مفترق طرق، اقتصاديا، وربما تتعافي الدول سريعاً بعد انخفاض حدة الجائحة أو تغرق تماماً في كساد اقتصادي كبير.
وسياسياً، قد تدفع الآثار الناجمة عن الجائحة إلى رفض راديكالي جوهري وإعلان للتحرر من النيوليبرالية الحالية، أو قد يبشر الوضع ببداية عهد جديد من الاستبداد التكنوقراطي في ظل وجود قطيع مدجن لا تصدر عنه أي مقاومة ضد استبداد حكومات الحكم المطلق.
أما اجتماعياً، فربما يرى العالم مع انتهاء الاغلاق، عودة الناس إلى الشوارع والتمتع بمظاهر الحياة، أو التقوقع على أنفسهم داخل فقاقيعهم الرقمية، مشلولين كلياً جراء اضطرابات القلق التي خلفتها فيهم الجائحة.
ومن جهتها قد تعاود السينما نشاطاتها، وتفتح أبواب دور العرض أمام الجمهور، وتعاود المهرجانات نشاطاتها بجداول عرض مكثفة عما سبق. ويتم استئناف عمليات التصوير المتوقفة بعزم المخرجين على صنع أفلام جديدة وخيالية استجابة للظرف الاستثنائي الذي عايشوه.
ولكن هذا غير مؤكد تماماً. لقد كانت فكرة موت السينما تتردد الافتراضية عن في التسعينات، تزامناً مع الخوف المصاحب للألفية الجديدة من التحول الرقمي الوشيك. وقد بدا أننا وضعنا هذه الفرضية وراء ظهورنا في عام 2020، لكي تعاود الظهور مجددا في ظروف لم تخطر على بال أي انسان شارك في صناعة السينما طوال عقود، لم يتكهن بما سيؤول إليه مستقبل صناعة الأفلام.
على أي حال في الوقت الحالي سنحاول في مجلتنا “سينسز أوف سينما” أن يبقى الحال كالمعتاد. ولكن توجد أقسام في المجلة سيطرأ عليها التغيير أكثر من غيرها، فتوقف مهرجان ملبورن السينمائي سيكون له تبعاته على باب هوامش CTEQ، حيث يجب على قسم تقارير المهرجانات التعامل مع الواقع الجديد الذي يعايشه هذا الجانب من الثقافة السينمائية.
أما على مستوى المحتوى، ستعكس المواضيع مستقبلاً أحوال عالم ما بعد فيروس كورونا، أما حالياً ستتنوع المواضيع مع إدراك المؤلفين لتداعيات الوباء بشكل متفاوت أثناء عملية الكتابة.
وقد استجاب بالفعل ويلر وينستون ديكسون لظروف العالم الجديد من خلال طرح أفكاره عن السينما في عصر كوفيد 19، عن طريق إلقاء نظرة على الأفلام التي تناولت الأوبئة في فترات سابقة، بينما أستحضر جيريمي كار بشكل واع اجواء نهاية العالم في مقالته عن فيلم “سالو” أو “120 يوم في حياة سادوم” إخراج بازوليني. وتمعن ستيوارت ريتشاردز النظر في واقعة ردة فعل المحافظين على فيلم المثليين “رقصنا في دولة جورجيا”، الذي يعتبر الفيلم استنباطا عاطفيا للعلاقة بين التعبير الفني الحسي والجسد كمملكة للعواطف. بينما قدم جوز هيوز دراسة رائعة عن الفيلم المغمور “الساكن القانوني” (1963) من إنتاج الهيئة القومية للفيلم والأرشيف الصوتي بأستراليا وكذلك الفيلم الوثائقي عنه الذي سيصدر قريباً بعنوان “الموعد الأخير” إخراج بيتر بوت.
أما قسم المخرجين الكبار، فقد قام آبل مونيز إينونين بكتابة تحليل لأعمال المخرج غزير الإنتاج إميليو فرنانديز، والذي يعد واحد من الشخصيات المعروفة من العصر الذهبي للسينما المكسيكية، لكونه المسئول عن تكوين فكرة الماهية المكسيكية وكيف تبدو عليه. وكذلك يتناول التحليل مناقشة القوة العظيمة للسينما كفن ووسيلة ترفيه اجتماعية وأداة لبناء الأمة في نفس الوقت، بالإضافة إلى إلقاء إدريان شوير نظرة على أعمال المخرج روبرت وايز، مخرج افلام الروائع المسرحية الموسيقية مثل قصة في الحي الغربي وصوت الموسيقى
حقيقة أن مجلتنا كانت منذ البدء مجلة إليكترونية قد عزلتنا عن التداعيات التي سببتها الجائحة مقارنةً بنظرائنا من المجلات المطبوعة، فقد توقف نشاط مجلة “فيلم كومنت”، بينما وقعت مجلة “كراسات السينما” بين المطرقة والسندان، حيث النزاع الحاد على الملكية من جهة وحالة الطوارئ العامة التي فرضتها الحكومة الفرنسية من جهة أخرى.
نحن نتفهم انشغال كل من القراء والكتاب بأمور أخرى في الوقت الحالي، سواء كان فقدان أحد الأقارب أو التداعيات المالية أو مجرد الشعور العام بالارتباك. ولكن نتمنى، مهما كان تأثير الجائحة عليك، أن تجد بعض العزاء والسلوى في العدد الرابع والتسعين للمجلة، ونتطلع للاستمرار لتقديم العدد الخامس والتسعين وما بعده في الأيام القادمة.