“إمبراطورية الحواس”.. الشهوة الجنسية والعنف

Print Friendly, PDF & Email

يبدو عنوان الفيلم ذا دلالة قصدية بشقيه، فهو يرمز بالإمبراطورية إلى خصوصية البيئة والحضارية بكل متعلقاتها، ويرمز بالحواس إلى مادية الشهوة وحسيتها. غير ان اختيار لفظة (الحواس) بالذات، يبدو في قصديته منتجاً للمعنى اكثر من الامبراطورية، وعلى الرغم من مشاعية التسمية وامكانية عدم وجود أية علاقة بين العنوان وبنية الفيلم، الا ان وجود فيلم اخر لـ(اوشيما) بعنوان (امبراطورية الرغبة) يجعل الأمر اكثر قصدية ويحثنا على تلمس التحقق الادائي لهذا العنوان.

إن تحقق الحواس ممكن في أي فيلم مهما كان موضوعه، لأنها وسائل ادراك العالم وخطوط العلاقة معه، فالطعام والشراب يحققان الذوق والنظر يحقق البصر والكلام يحقق السمع وهكذا، فلماذا اراد اوشيما ان تكون الحواس عنواناً لفيلمه، وتحت أي رؤية حول الحواس إلى الحسية؟

ظاهرياً لا حاسة للجنس الذي هو موضوع الفيلم، كما ان هذه الحواسية تبدو مقحمة ما دامت ممكنة التوظيف في أي فيلم؟

وللإجابة عن هذا السؤال يمكن ان نلحظ نمطين من عمل الحواس في الامبراطورية، النمط المألوف الذي تتحقق فيه الحواسية بحكم الوظيفة، وهو ما نراه في الفيلم عبر الطعام والشراب والغناء والتلصص واستراق السمع والملامسة والاحتكاك وروائح المكان.

وهذا النمط على الرغم من عموميته وقصوره الدلالي، يوضع في الامبراطورية في مواضع دالة جنسياً مما يحقق بعداً اخر في نمطيته، فهو مرافق للفعل الجنسي او ممهد له في معظم الاحيان، الأمر الذي يعدل من وظيفته بحكم الموقع السياقي ليضفي عليها طابعاً جنسياً مغايراً ولو قليلاً عن طابعها النمطي المألوف وظيفياً.

واما النمط الثاني فهو الذي انفرد اوشيما بتوظيفه من خلال السعي إلى تحقيق الحواس داخل الفعل الجنسي نفسه، وليس بمرافقته او التمهيد له. لقد سعى اوشيما إلى اثبات اشتراك الحواس جميعاً في التلقي الجنسي وادراك الشهوة، فاذا كانت حاسة اللمس متحققة اصلا في هذا الفعل بحكم تلامس الاجساد وتداخلها لمسياً فان الحواس الاربع الاخرى ممكن تحققها في ذروة الفعل الجنسي نفسه، وبأصالة مقاربة للمس.

ولذ فقد تحققت حاسة الذوق في ثلاثة مواضع جنسية هي لعق القضيب من قبل البطلة، وادخال اصبع البطل في فرجها وتذوق الاصبع، وهو ما تكرر ثلاث مرات مختلفة وكأنه اسلوب في الحدس والمعرفة وتحقق التذوق ايضاً بالواسطة عن طريق ادخال الطعام في فرج البطلة واكله.

اما حاسة الشم فتحققت بشم الاصبع بعد ادخاله في الفرج مرة واحدة. فيما تحققت حاسة السمع من خلال التأوهات الجنسية والاغنية الجنسية الصريحة فضلاً عن الحوار الجنسي الذي امتد طوال الفلم، فيما تحققت حاسة البصر بالمشاهدة والمباشرة وبالتلصص وهو ما يعني تحقق الحواس الخمس جنسياً لا وظيفياً فحسب.

ومن هنا يمكن قراءة العنوان بطريقة مختلفة عما لو كان عفوياً. فقد اراد اوشيما لكل شيء في فيلمه هذا ان يدل على مقاصده ورؤيته ولم يكن الاختيار اعتباطياً او غير ذي معنىً وانما كانت خيوط الدلالة تنتثر في كل شيء لتحوك نسيج الفيلم بتمامه وتكامله وبصورة تعاضدية لا مجال فيها لإهمال أي شيء او تركه على هواه، الا اذا كان معضداً لإنتاج الدلالة المرادة.

واما العناصر السينمائية الأخرى فيقف الايقاع في مقدمتها، ولعله العنصر الاكثر وضوحاً واهمية في تحويل التلقي لصالح الفلم، اذ ان صدمة الهيمنة الجنسية التي تطغى على الفيلم لا تنتفي الا بملاحظة التصاعد الايقاعي المتسارع متناسباً مع الشهوة من اول الفيلم إلى ما بعد منتصفه حيث يتحول الايقاع إلى البطء في اشارة واضحة إلى اللاجدوى والفراغ وافتقاد اليقين شهوياً وانكسار حدة الجسد، وهذا التحول الايقاعي يرافقه تحول ذهني في وعي البطلة بما تفعل كما يرافقه تحول ادائي في حركة الكاميرا ولقطاتها وفي الاداء التمثيلي، وكأن هذا السياق الايقاعي قد قسم الفيلم إلى قسمين كما قسم الوعي الشهوي ايضاً. 

اما الملابس فان بيئتها توازي قصدها الجنسي، فهي تمثل لابسيها في تأرجحهم بين مطلق العفاف ومطلق الشهوة، ولذا لم يكن (الكيمونو) زياً تقليدياً ينتج دلالة المكان فحسب بل كان دليلاً على التضاد بين حشمته والعري الكامن تحته، اذ يكاد يكون قشراً واهياً يمنع الجسد من التحقق.

وليس غريباً والحال هذه ألا نرى ملابس داخلية او أي رداء آخر غير (الكيمونو) الذي يكفي خلعه ليتم العري دون معوقات، فضلاً عن تحقيقه هذا التناقض المأساوي بين العري والحشمة، لاسيما في مشاهد ممارسة الجنس بالملابس التي تحققت في الفيلم مرتين.

ان دلالة الملابس هنا، ليست جنسية بقدر ما هي فلسفية، لأنها تشير إلى هذا الازدواج المرير في الوعي الياباني، الذي يحتفي بالمظهر الهادئ وهو يخفي تحته كل الهيجان.

واما المكان فان سمة الانغلاق هي السائدة فيه، وهو انغلاق تقتضيه الحسية ظاهرياً ولكنه في الحقيقة كالملابس، يتجاوز هذه الدلالة ليعطي احساساً بالعزلة والظلامية والانقطاع، فالجنس بحسب اوشيما يعطي احساساً موهوماً بالاكتفاء وامكانية التحقق خارج العالم وبدونه، من خلال العلاقة مع الاخر، ولذا فان محاولة الانقطاع عن العالم تبدأ من هذا المنطلق، وهي تخفي تحتها وعياً مرضياً بالعالم وبالذات اذ تحتقب اصالة فكرية وجودية ترى في العالم مانعاً من التحقق وترى في الاخرين جحيماً.

وهي فكرة اقتبسها اوشيما من وجودية سارتروأضفاها على المعطى الجنسي محاولاً تفسير هشاشته وانقطاعه وفقاً لهذه الرؤية، ولذا فقد كان المكان في فيلمه تعبيراً عن العالم الذي يخيف ويخنق ويمنع التحقق، ولذا فقد كانت حركة الشهوة محكومة بالعزلة كما كانت محكومة بالانغلاق والظلام دون ان يكون هذا ابدياً، فقد تحققت في اماكن مفتوحة جزئياً مرة او مرتين، غير انها غالباً ما تخفي نفسها عن العالم من خلال البيوت والغرف الخشبية المغلقة والتي تمثل ابوابها المنزلقة صورة اخرى من صور المكان، اذ ان لهذه الابواب دوراً جلياً في صياغة معنى العزلة الوهمية والاحساس بالخلاص من الاخرين، فالأبواب، التي يفترض بحكم وظيفتها ان تكون حامية للجسد ومانعة للآخر من التدخل في تحققه.

تفتقد هذه الوظيفة في فيلم اوشيما مع تحققها، فالأبواب التي تنغلق على السر، ما تنفك فاضحة السر المختفي وراءها وكأنها لا تستطيع منع الاخر – العالم من التسلل حتى إلى اشد اللحظات خصوصية وانعزالاً، وكانت التلصصية، التي هي الاخر المتخيل، هي التي تفتح الابواب فعلاً او ايحاءاً لتعري الجسد المختفي وراءها، ولتكشف زيف امانة ولا يقين عزلته، ففي وقت يظن فيه هو انه ممتنع عن العالم وعصي عليه، يكون في ذروة تعريه وانكشافه امام ذلك العالم.

وتقف الموسيقى في الفيلم في مفترق غريب، فهي داخلية وخارجية، ومفترقها هو في انقطاع خيط الدلالة بين طرفيها. فالموسيقى الداخلية عنصر شهوي مؤسس، لا غنى عنه في ثلاثية الشهوة (الجنس، الغناء، الشراب) وهي في حضورها الداخلي القصدي، تبدو فاعلة جنسياً بوصفها نمطاً تهيجياً للشهوة، كما تبدو معلقة عليها بوصفها عنصراً خارجياً في الظاهر،.

وهذا الفعل والتعليق يسم المشاهد الجنسية المتصاعدة الحسية، كما في مشهد الجنس الجماعي ومشهد المغنية العجوز، غير ان الموسيقى الداخلية مارست فعل القمع الجنسي مرة واحدة عندما قطعت طرقات المغنية على الباب الممارسة الجنسية الاولى بين سادا وسيدها، وهما بملابسهما، وكان هذا القمع تأجيلاً جنسياً وليس مانعاً بدلالة تحول الوظيفة فيما تلا من مشاهد كانت فيها الموسيقى الداخلية عنصراً جنسياً فاعلاً حتى النهاية، بل وصل الامر بها ان تتم مضاجعة الموسيقى ذاتها بالمماهاة، من  خلال مضاجعة المغنية، وقبلها فتيات المنزل الموسيقيات، وهنا تبلغ جنسية العنصر الموسيقي ذروتها من خلال تحويلها من المعنى المطلق إلى الحس، لتكون مكوناً مضافاً إلى نسيج الشهوة.

اما الموسيقى الخارجية فهي التي تدخل على النص في مواضع معينة، وكان حضورها في الفيلم قليلاً وغير دالٍ في معظمه، دلالة ايروتيكية وانما ارتكز تكرارها على انتاج دلالة الكشف والتأمل والصراع الداخلي وتصاعد الرغبة، وهو ما تحقق جلياً في مشهد المغنية العجوز، فيما كانت دلالتها خارج الجنس دلالة وظيفية خالصة، أي انها تؤسس للدلالة الفيلمية الواضحة بوصفها عنصراً لغوياً مساعداً، كما في مشاهد السفر والانتقال او التجوال الليلي.

غير ان حضورها في المشاهد الجنسية لم يكن خالياً من الايحاء الحسي، وانما كان ايحاءً ملتبساً وغير صافٍ، كالموسيقى الداخلية وكانت اللازمة الموسيقية التي تكررت في مواضع الاكتشاف في الفيلم، انما هي تكرار لمأساوية الوعي وفداحة الخسارة التي تنشأ من مداخلة الحسي ولذا فأنها كانت المهيمنة في مشهد النهاية، بعد ان فرغ من آثارها مشهد الحلم السابق عليه.

ومعنى هذا ان حضور هذه اللازمة لم يكن وظيفياً بالمعنى المألوف للموسيقى التصويرية لأنه في الحقيقة لم يكن يعضد المرأى البصري ويقوي دلالاته وانما ينتج دلالة مختلفة عن هذا المرأى، ويجعل من المرأى بأكمله في خدمة ما يريد من الدلالة.

 وهذا يعني ان ثمة انقلاباً في التحويل الوظيفي من عامل مساعد إلى عامل رئيسي، ولعلها مرة من المرات القليلة التي تهيمن فيها الموسيقى على المرأى البصري وتخضعه لدلالتها، ولا يكون معضداً لدلالة المرئي فقط او معيناً على تحققها.

واما الاضاءة فقد وظفها اوشيما بحسب المفهوم السائد عنها، ايروتيكياً، فقد سعى إلى جعل دلالة الظلام او الخفوت هي السائدة في المباني الشهوية عموماً، اما بالإظلام الفعلي زمنياً، واما بالظل، واما بالإضاءة الداخلية الخافتة، داخل عزلة الغرف والامكنة المغلقة.

وهذا المفهوم يتناسب مع ارتباط الشهوة بالظلمة الفعلية و النفسية. وهو ايماء إلى علاقة الجنس بالشر والعنف، بمعنى انه يوحي اصالة بأن الظلمة منبع واحد يخرج منه الشر والشهوة والعنف. وهي نظرة سوداوية تجاه الشهوة، لم يخف اوشيما طوال الفيلم اعتقاده بها.

وفي العموم يمكن القول ان العناصر السينمائية كلها، وضعت في خدمة الايروتيكية كما ارادها اوشيما، وهي خدمة تختلف تماماً عن المعطى الحسي الذي يمكن ان يقترن بالايروتيكا، وانما هي في خدمة الرؤية العميقة للموضوع الايروتيكي كما يراه وعي اوشيما.

ومعنى هذا ان اوشيما قد نجح تماماً في صياغة بنية ادائية متطابقة مع بنية الوعي الخلاق التي شكلت رؤيته العميقة. وان هذا النجاح هو الذي جعل من “امبراطورية الحواس” فيلماً مختلفاً تماماً عن كل ما قبله وما بعده، حتى في موضوعه نفسه.

  • من كتاب “الجنس والوعي: دراسة في دلالات الجنس بالسينما”- 2011.
Visited 32 times, 1 visit(s) today