“عصافير كابول” الحب في زمن طالبان
عن رواية “عصافير كابول” Les Hirondelles de Kaboul (يترجمها البعض سنونو كابول) – 2002، للكاتب الجزائري محمد مولسهول الذي يكتب تحت الاسم المستعار “ياسمينة خضرا”، جاء فيلم التحريك (الرسوم) الفرنسي الذي يحمل العنوان نفسه، واشترك في إخراجه مخرجتان هما زابو بريتمان وإيلا غوبي ميفيليتش. الأولى مخرجة والثانية مصممة ومشرفة على فريق الرسامين الكبير الذي شارك في وضع رسوم الفيلم الذي يقع في 81 دقيقة.
هذا عمل بديع بالرسوم يعتبر تعبيرا بليغا شديد الأصالة عن أجواء القمع والتشدد والرعب التي عاشها الأفغان تحت حكم طالبان. هو فيلم عن الحب والرغبة في الإفلات من أسر التشدد والقهر الذي يمارس باسم الإسلام، لكنه أساسا فيلم عن الإنسان، وعن بحثه المضني الدائم عن الحرية.
رسوم الفيلم تتميز بطابع خاص شديد الرونق والجاذبية، ولكن دون مبالغة بل بلمسات فرشاة تستخدم الألوان المائية، مما يجعل الفيلم يبدو كما لو كان قصة من تلك القصص التي تروى للأطفال، لكنه بالتأكيد فيلم للكبار والصغار.
وهو يتضمن الكثير من المواقف والمشاهد الجريئة التي تقتحم المحظور وتكشف عما يدور وراء تلك الواجهة المتجهمة داخل المنازل، بين الزوج وزوجته، وبين الحبيب وحبيبته، وكيف تلقي الأوضاع السياسية بظلالها الكئيبة على الواقع والحياة عموما، وكيف يتغير البعض ويعيش البعض الآخر حياة مزدوجة مليئة بالنفاق.
الفيلم يدور أساسا حول المرأة.. مشاعرها وإحباطاتها وعلاقتها بالرجل وطموحها للانعتاق من أسر تلك التقاليد الجافة الجامدة التي تفرض عليها بقوة القمع وهيمنة ذكورية الرجل باسم الشريعة، لذلك فهو يعكس رؤية نسائية بليغة لوضعية المرأة في أفغانستان في علاقتها بالسلطة وبالرجل، يقربها من الجمهور في الغرب، في بساطة متناهية، ومن خلال إيقاع يتهادى في تمهل، وسياق يؤدي إلى نهايات محسوبة، وربما يمكن أيضا توقعها مسبقا، ورغم ذلك نظل حتى النهاية نأمل في أن تتغير.
لكن التغيير لا يتحقق على الشاشة بل يجب أن يحدث على أرض الواقع. ورغم زوال نظام طالبان نظريا إلا أن ما تركه خلفه لا يزال قائما وراسخا في التربة والعقلية الأفغانية السائدة، لذلك فالفيلم يعتبر عملا شديد المعاصرة. ويمكن للقصة التي يصورها أن تحدث في أي مكان تمارس فيه الهيمنة الاستعلائية باسم الدين تحت تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو غيره.
لم يكن ممكنا بسهولة تصوير رواية ياسمينة الخضرا في مواقعها الطبيعية أو باستخدام الممثلين، فالتجسيد الحي المباشر ربما يفسد الموضوع، ويجعل العنف يطغى على المغزى الأكثر عمقا للرواية، لذلك ساهمت الرسوم، ليس فقط في العثور على صيغة أكثر جرأة في تناول الشخصيات والموضوع، بل وفي دفع أحداث الفيلم إلى الأمام على نحو يتميز بالرقة ورهافة الحس والقدرة على تقديم نماذج متخيلة شديدة الصدق والإقناع للشخصيات، خاصة وأن صناع الفيلم استخدموا عددا من مشاهير الممثلين في الأداء الصوتي من بينهم الممثلة الفلسطينية هيام عباس.
ثنائيات وشخصيات
تدور الأحداث في نهاية التسعينيات في العاصمة الأفغانية كابول، نراها في البداية وقد تحوّلت إلى خرائب وأطلال ومبان مهدمة بفعل الحرب الأهلية الطويلة، أما القصة فتروى من خلال ثنائيين وأربع شخصيات رئيسية: الثنائي الأول هو الشاب المتعلم الحالم محسن وزوجته الجميلة زونيرا التي تتطلع وتأمل في استمرار الحياة الجميلة مع زوجها ولو خلف جدران المنزل مع محسن الذي تحبه ويبادلها الحب. هناك مشاهد تصوّر الانسجام في علاقتهما، لكن ما يثقل على محسن عجزه عن العثور على عمل مناسب، يلتقي بشيخ كان أستاذه في الجامعة ثم تحول إلى أحد المتعصبين دينيا، لكنه استفاق من الخدعة وأدرك أن بلاده أصبحت تعيش كابوسا يقضي على تاريخها ويختصره في هذه الحقبة الكئيبة.
هذا هو “عراش” الذي افتتح الآن مدرسة سرية لتعليم الفتية العلوم والآداب “العلمانية” بعيدا عن قيود طالبان التي تحرم التعليم كما تحظر ذهاب البنات إلى المدارس.
أما زونيرا زوجة محسن فقد أصبحت حبيسة بين جدران المنزل كونها ترفض ارتداء البرقع، وقد فقدت وظيفتها السابقة كقاضية (فطالبان لا تسمح للنساء بتولي مثل هذه المناصب)، ولكنها أيضا رسامة موهوبة تمارس الرسم سرا على جدران منزلها الجميل.
على الجانب الآخر هناك المجاهد القديم “عتيق” الذي شارك في الحرب ضد الجيش السوفييتي، والذي أصبح مسؤولا عن سجن النساء، وعتيق متزوج من “مسرات” التي تعيش المراحل الأخيرة من مرض السرطان، وتشعر بالذنب بسبب عدم قدرتها على القيام بالواجبات المنزلية كما تدرك أن زوجها انصرف عنها ولم يعد يبادلها الحديث.
لكن عتيق ممزق بين شعوره بالمسؤولية تجاه زوجته في مرضها وهي التي وقفت معه طويلا، وبين رغبته في إرضاء شهوته. كما يتطلع إلى الانجاب الذي عجزت زوجته عن تحقيقه له.
نظرة الرجل إلى المرأة
خلاف ثم مشاجرة بين محسن وزونيرا تؤدي إلى سقوط محسن ميتا، على إثر ذلك يتم اعتقال زونيرا والزج بها في سجن النساء تحت إمرة عتيق الذي يتأثر عندما يستمع إلى قصتها، كما يشعر أيضا بانجذاب نحوها بعد أن يرى وجهها مكشوفا، يذهب إلى زميله القديم “قاسم” الذي أصبح مسؤولا كبيرا في نظام طالبان.
وقاسم المتشدد في تطبيق الشريعة، يتردد على بيت الدعارة في المدينة، وينصح عتيق بتطليق زوجته، لكن عتيق متردد، يخالجه الشك، ويدفعه إلى رؤية زونيرا والحديث معها، بل ويحاول أيضا دفعها إلى الهرب من السجن.
ما الذي سيحدث، وكيف سيتحدد مصير مسرات؟ هذا ما ستكشف عنه الحبكة البديعة من خلال ذلك السرد الممتع للأحداث، ويصوّر الفيلم جميع معالم الحياة تحت نظام طالبان في كابول: النساء اللاتي يرتدين البراقع المنسدلة على وجوههنّ ويغطين أجسادهنّ تماما يسرن في الشوارع كما لو كن خياما متحركة، مجموعة منهنّ يعملن في الشرطة النسائية، يعتقلن النساء ويزججن بهنّ في السجن الذي يشرف عليه عتيق، ودار السينما التي أصبحت مهدمة وكانت في الماضي تعرض أفلاما أميركية من أفلام المغامرات كما نلمح من آثار ملصق قديم لأحد الأفلام، يقف أمامها محسن، يتذكر عندما كان يتردد عليها مع زونيرا ويمسك بيدها قبل أن يحل القهر والكبت.. عمليات الإعدام التي تتم في الملعب الرياضي الكبير في احتفالات رسمية يحضرها كبار رجال الدين الذين يحكمون البلاد.
وفي أحد المشاهد المبتكرة المنفذة جيدا في الفيلم، تلهو مجموعة من الأطفال في ملعب المدينة فتفسد الاستعدادات التي وضعت استعدادا لتنفيذ الإعدام في عدد من النساء، بينما يصرخ فيهم الحراس دون جدوى.
إن حيرة عتيق (لاحظ دلالة الاسم) تعكس عجزه رغم حبه لزوجته، عن التعامل مع منطق “الشريعة” القاسي حسب التفسير السائد في طالبان، الذي يحتقر المرأة ويبيح له أن يطلق زوجته ببساطة ويتخلص منها رغم مرضها ورغم وقوفها إلى جانبه وهو فقير، من أجل أن يتزوج بغيرها. يقول له صديقه قاسم إنه “ليس هناك رجل يدين لامرأة”، لكن قاسم يلمح أيضا تعاطف عتيق مع سجينته زونيرا فيفرض عليه رقابة مشددة.
التكوينات اللونية في الفيلم تعكس لحظات المرح بين محسن وزونيرا، وكآبة وبرودة الحياة داخل منزل عتيق ومسرات، وتتجرأ المخرجتان فتصوّران مشهدا لمطارحة الغرام بين محسن وزوجته، ومع تصاعد الأحداث يصبح لا مفر من تصوير بعض مشاهد العنف ومنها قطع الرقاب وإطلاق النار على الرؤوس، وغير ذلك. ولكنها مشاهد ضرورية ومنفذة جيدا باستخدام الرسوم والمونتاج وحركة الكاميرا، في فيلم يوصل رسالته من دون أدنى ضجيج أو ثرثرة وفي بلاغة وتوقيت شديد الدقة. “عصافير كابول” متعة للعين وللقلب وللعقل وتجربة رائعة في المشاهدة.