أبو القنبلة الذرية حسب رؤية كريستوفر نولان

كريستوفر نولان أثناء إحراج أحد المشاهد كريستوفر نولان أثناء إحراج أحد المشاهد
Print Friendly, PDF & Email

رشا كمال

“هل تظن إنك عندما تسمح لهم بإذلالك على الملأ أن العالم سيغفر لك، لا لن يفعل”ّ!

سؤال طرحته كيتي أوبنهايمر على زوجها عالم الفيزياء ج. روبرت أوبنهايمر في المشاهد الأخيرة من أحدث أفلام المخرج كريستوفر نولان، وهو فيلم “أوبنهايمر” لتأتي الإجابة منه على نحو يملؤه اليقين قائلا: “سنرى ذلك.”

فيلم أوبنهايمر ليس محاكمة نولان لبطله عن مأزقه التاريخي فهو لم يسند إليه أفعاله لصفاته، وحاول بدلًا من ذلك استعراض الظروف الداخلية والخارجية التي شكلت هويته تاريخياً، وترك نولان القرار والحكم للمشاهد من خلال تقديم رؤيته الدرامية حول العالم الفيزيائي أثناء توليه قيادة مشروع مانهاتن لتصنيع أول قنبلة ذرية أثناء الحرب العالمية الثانية.

فكرة الفيلم كانت تختمر في عقل المخرج منذ زمن، وبدأت تراوده لأول مرة خلال فترة بلوغه سن النضج أثناء حقبة الثمانينيات في وقت كان يتفشى فيه الخوف من حرب نووية على الأبواب، وذروة حملة نزع السلاح النووي، واحتجاجات “جرينهام كومون” في إنجلترا، الأمر الذي شكل حافزاً وراء اهتمامه بحكاية عالم الفيزياء الشهير.

يقول نولا في حديث أدلى به لمجلة NME:

“أعتقد أن أول مرة صادفت فيها سيرة أوبنهايمر كانت عندما ذُكر اسمه في أغنية (ستينج) عن “الروس”، وورد فيها ذكر “ألعاب أوبنهايمر القاتلة”. كان الرجل جزءًا من ثقافة البوب آنذاك، ولم نكن على دراية كافية به”.

ويدرك نولان جيدًا الجدل الذي أثاره فيلمه، وردود الفعل تجاه المعضلة الأخلاقية لأفعال بطله، ويعلق قائلا خلال حديثه مع مجلة “فارايتي”:

كريستوفر نولان وبطله الممثل الأيرلندي شيليان ميرفي

“تزخر حكاية أوبنهايمر بالأسئلة المستحيلة، وبمعضلات أخلاقية لا حل لها، ولا توجد إجابات سهلة بشأن قصته، هنالك فقط تساؤلات صعبة، وهذا ما يجعلها قصة ملحة ومثيرة”.

المعضلة الأخلاقية وعواقب أفعال وقرارات أوبنهايمر التي تخص توليه إدارة مشروع مانهاتن لتصنيع أول قنبلة نووية لإنهاء الحرب العالمية الثانية بل وكل الحروب، تأتي من أن هذا الرجل كان يأخذ كل قرار مدفوعا بأنانية عالم الطبيعة القابع في معمله لتحقيق السبق العلمي، مخلفًا وراء سعيه المحموم أعداء أكثر من الأصدقاء، غاضا الطرف عن رؤية العواقب، إلى أن خرج الجنين الذي أتى به إلى العالم من رحم معمله، لينتقل بعدها هو إلى خلفية الحدث تاركًا الدفة للقيادات السياسية والعسكرية، حينها أفاق الفيزيائي من غفلته.

يقول نولان إن ” أوبنهايمر أراد أن تتخلى الدول عن “جزء” من سيادتها وجعل السيطرة على الطاقة النووية في أيدي المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة. ودعا إلى كبح سباق التسلح النووي، ومنع تطوير القنبلة الهيدروجينية، مما أدى إلى اصطدامه المباشر مع المؤسسة السياسية والعسكرية الأمريكية”.

تتشابه معضلة أوبنهايمر الأخلاقية كثيرًا مع ما يواجهه العالم اليوم من تغلغل الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات، وعن هذا يقول نولان: “كنت مهتما بالتحدث إلى بعض أبرز الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي، وسمعت منهم أنهم ينظرون إلى الفترة الحالية على أنها لحظتهم” لحظة أوبنهايمر” الخاصة، ومن الواضح أنهم يتطلعون إلى قصته كنوع من العبرة والإرشاد، كقصة تحذيرية من حيث ما تتضمنه عن مسؤولية شخص يمنح هذه التكنولوجيا للعالم، وحدود مسؤولياته من حيث العواقب غير المقصودة “.

لهذا عندما طرقت المخاوف من الأثر المخرب للذكاء الصناعي على صناعة السينما والتليفزيون أبواب هوليوود، تحرك أعضاء نقابة المخرجين الأمريكيين ومن بينهم نولان، لإبرام عقد مع شركات الإنتاج الأمريكية، يشترط عدم الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي للقيام بعمل المخرجين.

يقول نولان: “أعتقد أنه سيكون أداة قوية مستقبلًا. وما حاولت التطرق إليه في النقاش، هو مفهوم المسؤولية، مسؤولية صاحب العمل. الشيء الوحيد الذي لا يمكننا القيام به هو السماح للإدارة، والقائمين على العمل، والمنتجين باستخدام الذكاء الاصطناعي لتجنب مسؤولية أفعالهم”. وأضاف أن قضية الذكاء الاصطناعي “تنطوي على الكثير من المعضلات الأخلاقية دون الحاجة إلى مسار واضح للأمام”.

الحيرة بين حيازة المعرفة وإطلاقها للعالم، وبين الأخلاقيات المترتبة على ذلك جعلت نولان قادرا على خلق الإحساس المرعب الذي سيطر تدريجيا على نفس أوبنهايمر وكذلك المشاهدين، حتى وإن لم يعرض الاضرار التي لحقت بالجانب الآخر (اليابانيين) جراء الانفجار، وقد تمكن من رصد أثار فيلمه من خلال ردود أفعال المشاهدات الأولى التي أشار إليها:

“غادر بعض الناس عرض الفيلم وهم مصدومون بشدة، وعاجزون عن التفوه بشيء، ما أعنيه هو عامل الخوف الموجود في التاريخ وفي الدعائم التي يرتكز عليها.” مضيفا أن: “التجربة لها أثرها الحاد نظراً لقوة القصة. وعندما عرضت الفيلم مؤخرا على أحد المخرجين قال لي إنه فيلم مرعب نوعا ما، وأنا أتفق معه تماما في هذا الرأي”.

يمكن أن نستشف الرعب أيضا بين طيات قرارات العلماء بالمضي في تجاربهم رغم وجود احتمال لفناء البشرية، وقد كشف نولان أنه “في مرحلة ما، في العقود الفاصلة، حصلت على معلومات عن حقيقة أن العلماء في “لوس ألاموس” حيث كان يجري تصنيع القنبلة، قرروا- في مرحلة ما -أن هناك احتمالا إحصائيا صغيرا بأن اختبار القنبلة قد يتسبب في إشعال الغلاف الجوي وتدمير الحياة على الأرض. ولم يتمكنوا رياضيا، ونظريا، من استبعاد هذا الاحتمال تماماً. ورغم ذلك فقد مضوا في المشروع، وهذا ما أدهشني باعتباره أكثر المواقف مأساوية في تاريخ العالم، أي مع وجود الاحتمال بأن تكون تلك هي نهاية الحياة على الأرض. هذه مسؤولية لم يواجهها أي شخص آخر في التاريخ».

ويضيف: “أعتقد أن بإمكاننا إيجاد العديد من الأشياء التي تبعث على التفاؤل بشأن الفيلم، ولكن يظل هناك تساؤل واحد كبير يحوم حوله مهيمنا، وبدا لي أن وجود أسئلة في النهاية يعد أمرا ضروريا لتحفيز عقول الناس لمن أجل إثارة النقاش”.

 في النهاية تمكن نولان من الوصول إلى جوهر قصة أوبنهايمر التي اقتبسها من كتاب السيرة الشخصية للعالم الفيزيائي بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر“، واستطاع أن يبني فيلمه كما بنى أوبنهايمر قنبلته، مستعينًا بعدد كبير من نجوم الصف الأول كمركز لنواة هذا الفيلم، وحيل في سرد الفيلم الذي قام بصياغته في طبقاته المتعددة التي اشتهر بها، وأصبحت هذه النواة هي المفجر الذي ضغط على أداء هذه المجموعة من النجوم فانفجروا بأفضل ما في جعبتهم، ليحث الفيلم دويًا في شباك التذاكر العالمي، بإيرادات غير مسبوقة.

وربما تكون إجابة أوبنهايمر في المشهد المذكور بـ “سنرى” تعني بشكل أو بأخر أن هناك من سيعرض حكايته يومًا ما على الملأ متجسدة في فيلم نولان دون توجيه الاتهام إليه، أو الدفاع عنه.

Visited 3 times, 1 visit(s) today