بورتريه: ساتيا جيت راي رائد السينما الهندية الحديثة
علي حماد
في عام 1955، باع الرجل مجوهرات زوجته لكي يمول فيلما ينتجه ويخرجه. كان الفيلم عملا بسيطا مصورا بالأبيض والأسود، بدأه الرجل لكنه اضطر الى التوقف بعد أن نفذت نقوده المحدودة. وكان عليه أن يعود الى العمل في مهنة أخرى لكي يدخر قليلا من المال لاستكمال فيلمه من جديد. وأخيرا انتهى الفيلم، ولعبت الظروف دورا كبيرا في جعله اكتشافا حقيقيا، ليس فقط لموهبة كبيرة، بل للسينما العالمية بأسرها.
لم يكن أحد في العالم في ذلك الوقت يتطلع الي سينما اخري غير سينما هوليوود التي خلبت الألباب بمغامراتها ونجومها اللامعين. لكن ساتيا جيت راي Satyajit Ray، ذلك الأرستقراطي الطويل القامة، المهيب الطلعة، استطاع أن يجذب انظار الدنيا وأن يحصل ايضا على شهادة من اهم مهرجانات السينما العالمية بموهبته المتألقة، بعد حصول فيلمه الأول علي على احدى جوائزه المهمة.
ومنذ ذلك الحين ولمدة 35 عاما، شغل عشاق الفن السينمائي في العالم شرقا وغربا بـ”ساتيا جيت راي” وأفلامه، بل وأصبحت السينما الهندية في بعدها الجديد، أي بعيدا عن سينما الحكاية الميلودرامية المحلية، مرتبطة بأفلام راي.
وقد ترك جيت راي وراءه تراثا بارزا من الأعمال السينمائية ذات القيمة العالية، ودخل تاريخ السينما في العالم باعتباره الرائد الحقيقي للتيار الواقعي في السينما الهندية، ومن معطفه خرج معظم السينمائيين الهنود الذين انشغلوا في افلامهم بمناقشة تناقضات الواقع وقضاياه ومحاولة البحث عن جماليات واشكال فنية جديدة تتخلص من القوالب الفنية التقليدية الثابتة في الافلام الهندية التجارية.
بيئة عريقة
ولد “ساتيا جيت راي” الذي يعني اسمه في لغة المقاطعة التي ينتمي لها «الجوهرة»، في 21 مايو عام 1921 في احدى قرى مقاطعة البنغال، لأسرة ثرية عرفت بمساهماتها في حقل الثقافة والفنون الرفيعة. كان والده كاتبا ومصورا ورساما، وكان جده لأبيه صديقا مقربا من شاعر الهند الأكبر طاغور.
تخرج راي من جامعة كلكوتا بعد أن حصل على الدرجة العليا في الاقتصاد، ثم درس تاريخ الفن، ثم التحق بالعمل في وكالة للإعلانات بكلكوتا، بعد أن قبل عرضا منها بإعداد رسوم عن رواية «باتر بانشالي» وجذبه تحويل الرواية الى صور وهو المحب لعالم الصور المتحركة فأخذ يحلم بتحويلها الى فيلم سينمائي يخرجه هو رغم ما يمثله هذا بالنسبة لأي مخرج مبتدئ من تحد، ورغم تشككه في امكانية ان يجد فيلما من هذا النوع من يشاهده.
وفي عام 1949 رحل راي الى لندن موفدا من قبل الوكالة التي يعمل بها. وهناك قضى نحو عام يتردد على دور العرض السينمائي، يشاهد عشرات الافلام الكلاسيكية والحديثة، وكان أكثرها تأثيرا عليه كما اعترف فيما بعد، الفيلم الايطالي «سارقو الدراجات» لفيتوريو دي سيكا من روائع حركة الواقعية الجديدة. وعاد راي الى الهند يفكر جديا في التحول الى صنع الافلام. وكان المخرج الفرنسي الكبير جان رينوار يقوم في ذلك الوقت بتصوير فيلمه الشهير «النهر» في الهند، فسعى راي الى لقائه، وعمل معه كمساعد للإخراج، وشجعه رينوار على الاخراج. وعلى الفور قام راي ببيع مجوهرات زوجته ثم شرع في تصوير رواية «باتر بانشالي»( ومعناها «أنين الممر»).
وعندما كان المال ينفذ كان ينتظر الى ان يدبر بعضا منه. واستمر في عمله الأصلي وكان يقوم بالتصوير أثناء عطلات نهاية الاسبوع. ثم توقف التصوير بشكل تام. وفي ذلك الوقت قام مدير متحف الفن الحديث في نيويورك بزيارة الهند، وسارع راي يعرض عليه صورا من الفيلم وبعض الأجزاء التي انتهى من تصويرها. وتحمس الرجل كثيرا لما شاهده، وقرر ادراج الفيلم في الموسم المقبل لعروض المتحف. وعندما وصل الأمر الى المسؤولين في بلدية كلكوتا، تشجعوا على صرف منحة مالية لاستكمال التصوير. وعُرض الفيلم بالفعل في متحف الفن الحديث بنيويورك وشاهده وقتها مدير مهرجان كان السينمائي، فقرر عرضه في المهرجان. وحقق نجاحا كبيرا وحصل على احدى الجوائز، وكانت تلك أول مرة يحصل فيها فيلم هندي على جائزة دولية. ومن يومها أصبح راي مخرجا يعرفه العالم كله.
العذابات الخاصة
يستعيد راي في كتابه «أفلامنا وأفلامهم» الذي يروي فيه مذكراته، ذكرياته عن العمل في الفيلم فيقول: «حين أعود وأتأمل مراحل إنتاج فيلم «باتر بانشالي» أجدني غير واثق مما إذا كان قد حمل لي من الألم أكثر مما حمل لي من السرور. اذ يصعب علي ان أصف العذابات الخاصة التي يعنيها البدء في إنتاج فيلم مع الافتقار للمال. فالفترات الزمنية الطويلة من البطالة المضاعفة لا تترك في النفس شيئا سوى أعمق مشاعر الاكتئاب. إن مجرد رؤيتك للسيناريو يصيبك بالمرض، فضلا عن الأفكار التي تراودك حول توشيته ببعض التفاصيل او إضفاء بعض اللمسات على الحوار».
وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققه الفيلم خارج الهند، الا أنه فشل فشلا ذريعا في عروضه التجارية في الهند، بسبب واقعيته الشديدة وابتعاده عن الميلودراما والمبالغات الشائعة في السينما الهندية مما جعله يبدو غريبا في أنظار المشاهدين.
وفي العام التالي عاد راي لإخراج الجزء الثاني من ثلاثية «عالم آبو»، وهو فيلم «اباراجيتو» الذي يستكمل فيه حكاية «آبو» الطفل الصغير الذي ذهب مع أبيه للعيش في المدينة بعد موت الأم، ثم يموت الأب أيضا، وتنتقل الاسرة الصغيرة الى قرية اخرى للعيش مع الخال، ويلتحق آبو الشاب بالدراسة في كلكوتا. وفي الجزء الثالث والأخير الذي أخرجه عام 1958، ينهي آبو دراسته لكنه يفشل في العثور على عمل، وبصحبة صديق له يذهب الى الريف لحضور حفل زواج صديق لهما، لكن الصديق يصاب اثناء الحفل بنوبة جنون، فيتزوج «آبو» من العروس، وتحمل الزوجة منه، لكنها تموت اثناء الولادة، ويهيم آبو على وجهه في حالة أقرب الى الجنون، الى ان يلتقي بابنه للمرة الأولى.
ساهمت افلام الثلاثية في ترسيخ صورة راي كمخرج واقعي على غرار المخرج الايطالي دي سيكا، رائد الواقعية الجديدة، الذي تأثر به راي كثيرا، فقد كان مثله، يصور في أفلامه الفقراء والهامشيين في أحلامهم البسيطة التي يمكن أن تتحطم فجأة، لكن من دون مبالغة في العاطفية أو الميلودرامية، فقد تميز أسلوب راي بالرصانة والهدوء، وعكست أفلامه الأولى اهتماما واضحا بجماليات الصورة السينمائية: العلاقة بين الضوء والظل، وبين الشخصيات والمكان، دون افراط في استخراج الدلالات من تعاقب اللقطات. لكن أفلام راي بشكل عام فشلت حتى الستينيات، في تغطية نفقاتها من عروضها في الهند رغم ان تكلفة أي فيلم منها لم تتجاوز 20 ألف دولار.
استمر راي في صنع الأفلام، واستمرت خلافاته مع النقاد السينمائيين في الهند على الرغم من الصدى الايجابي الذي لاقته أفلامه في اوروبا، فقد اتهمه النقاد أولا بالمتاجرة بالواقع الهندي الفقير سينمائيا من أجل ارضاء حفنة من المثقفين. وفي أفلامه التالية الناجحة مثل ««حجرة الموسيقى» و«لاعبو الشطرنج» و«شارولاتا» و«أيام وليال في الغابة»، اتجه راي الى تناول موضوعات أكثر انسانية في أبعادها العامة، مع اهتمامه الاثير بالعلاقات الاجتماعية. في «حجرة الموسيقى» مثلا الذي اخرجه عام 1958 يصور راي معاناة أحد ملاك الأراضي بسبب علاقته مع الفلاحين مما يؤدي به الى الاحساس بعبثية كل ما مر به في حياته وما سعى لتحقيقه، فيعتزل العالم داخل حجرة في منزله بعد أن يهمل زراعته وارضه، يقرأ الشعر ويستمع للموسيقى. وفي «شارولاتا» (1963) الذي اقتبسه عن قصة لطاغور تدور احداثها في القرن التاسع عشر، يصور معاناة امرأة تنتمي للطبقة الوسطى في الهند، قصة امرأة تشعر بالاضطراب في حياتها الزوجية بسبب اهمال زوجها لها وسخريته من طموحاتها الثقافية، فهي مهتمة بالكتابة والشعر، ولذا فإنها تقع في غرام ابن عم زوجها الشاعر الذي يحقق لها ما تصبو اليه من الاهتمام بمحاولاتها الأدبية، لكنها تكتشف في النهاية مدى الوهم الذي وقعت فيه.
أخرج راي فيلم «حجرة الموسيقى» وهو في أشد لحظات المرض. فقد كانت ساقه اليمنى مثبتة بالجص إثر سقوطه على درج حجري في بناراس. وقد صور الفيلم في مكان يدعى قصر «نيميتا» وصفه له رجل عجوز في قرية لالغولا على بعد 150 ميلا من كلكوتا.
أما فيلم «أيام وليال في الغابة» ففيه يصور أربعة من الشباب يهجرون المدينة الى الريف، في محاولة للعثور على جوهر السعادة. وفي فيلم «لاعبو الشطرنج» أول افلامه باللغة الهندوسية، يروي حكاية رجلين انشغلا الى حد الهوس بلعبة الشطرنج لاهين عما يتعرض له اهلهما وما تتعرض له البلد بأكملها من غزو جنود الاحتلال البريطاني.
لكن هذا التحول من جانب راي الى السينما الذهنية التي تبتعد عن القضايا والموضوعات الواقعية المباشرة، دفع الكثير من النقاد في الهند الى اتهامه بتجاهل القضايا السياسية والاجتماعية المتفجرة في الهند، والجري وراء موضوعات «مستغربة» أي مصنوعة على مقاس الذوق السينمائي الأوروبي. لكن راي رفض هذه الآراء مؤكدا على واقعيته ذات البعد الانساني في عدد من افلامه التالية مثل «شركة محدودة» (1970) الذي يصور فيه نمو الطبقة الجديدة في الهند أي طبقة رجال الاعمال والمديرين من خلال قصة شاب اراد الالتحاق بصفوف هذه الطبقة مقدما كل التنازلات الممكنة غير انه يفقد في النهاية احترامه لنفسه واحترام الآخرين له. وعلى نفس النغمة يقدم راي فيلمه «الرجل المتوسط» الذي يسخر فيه بمرارة من اخفاقات شاب اراد الوصول الى وظيفة عليا، مقدما تنازلات لا يمكن تخيلها الى ان يعمل قوادا محترفا ويظل طوال الوقت يبرر افعاله!
والى عالم طاغور الأثير الى نفسه، يعود راي عام 1984 بفيلم «المنزل والعالم» الذي يروي فيه مرة أخرى قصة امرأة من الطبقة الوسطى زوجة لأحد الاقطاعيين مغرمة بالقراءة والأدب والسياسة، زوجها يشجع صديقا له على تبادل الآراء معها لأنه لا يستطيع ولا يرغب، وسرعان ما تنشأ علاقة عاطفية بين الزوجة والصديق، دون أن يدرك الزوج مغبة مسلكه اللاهي عن ادراك ما يدور حوله. هذا الفيلم كان يحمل الكثير من الدلالات الاجتماعية والسياسية حول الوضع في الهند تحت الاحتلال. وأثناء تصويره اصيب راي بعدة نوبات قلبية واجريت له عملية جراحية في القلب وأصبح يعمل بعد ذلك على مقعد متحرك وتحت الرقابة الطبية المنتظمة.
توفي راي في 23 أبريل 1992 بعد صراع طويل مع المرض، وكان قد عجز قبل شهر واحد من وفاته، عن السفر إلى لوس أنجليس لكي يستلم جائزة الأوسكار الشرفية التي منحتها له أكاديمية علوم وفنون السينما تقديرا واعترافا بعطائه الكبير طوال مشواره السينمائي. لكنهم أرسلوا له الجائزة وظهر في فيديو وهو يمسك بالجائزة في يده بينما كان على فراشه في المستشفى بكلكوتا.