“بذرة التين المقدسة”.. تغريبة رسولوف الأخيرة!
هيثم مفيد
قد تبدو الإبادة القائمة على قطاع غزة حاليًا لا علاقة لها بسطور هذا المقال، لكنها بلا شك كانت فاضحة للكثير من الفظائع التي ظلت طي الكتمان لسنوات طويلة. لعل ما كشفته هذه المجازر المستمرة لأكثر من عام، هي الازدواجية التي يعاني منها النظام الإيراني، الذي لم يتردد في دخول الحرب بحجة المطالبة بحرية الشعب الفلسطيني. ولكن السؤال الذي شغل ذهني أثناء مشاهدة أحدث أفلام المخرج الإيراني محمد رسولوف، هو: كيف تطالب بحرية شعب آخر وأنت تقهر شعبك في الأساس؟
إن قضية قمع الحريات وبطش السلطة التي يطرحها رسولوف في فيلمه الأحدث “بذرة التين المقدسة” The Seed of the Sacred Fig)، (الذي عرض مؤخرا بالدورةا السابعة من مهرجان الجونة السينمائي)، والمتمثلة في حالة الغليان الشعبي والحراك الشبابي التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني على يد الشرطة بسبب عدم التزامها بارتداء الحجاب، والتي شغلت النصف الأول من الفيلم تقريبا، تتماس بشكل شخصي مع ما اختبره رسولوف نفسه مع هذا النظام الذي أذاقه مرارة السجن أكثر من مرة بسبب آراءه السياسية في أفلامه. وبسبب بذرته المقدسة، صدر حكم بسجنه لثماني سنوات، لكنه نجح بالفرار سيرًا على الأقدام خارج حدود هذا السجن المُسمى “إيران”، ليضيف رسولوف طبقة مكثفة من مأساته الواقعية إلى طبقات فيلمه المُفعم بالجرأة والقوة.
لسنوات طويلة قضاها رسولوف خلف قضبان سجون سيئة السمعة، ظلت تراوده أسئلة حول آلية عمل النظام القضائي الإيراني. كيف يعمل النظام؟ ومن هم الأشخاص وراءه؟ ما هي حالتهم العقلية ودوافعهم تجاه ما يفعلون؟ .. ولأنه حصل على فرصة لمعايشة هذه التفاصيل عن قرب، فقد تمكن من مراقبتهم محاولاً إيجاد إجابات لتلك الأسئلة، ولم يجد أفضل من شخصية المفتش “إيمان”، ذلك الجلاد الذي يؤيد أحكام الإعدام بحق المعارضين المزعومين، ليكون بوابته لهذا العالم النفسي المعقد.
ينصب تركيز رسولوف في البداية على جعل نبرة فيلمه أكثر هدوءًا من خلال دفع المشاهد باتجاه ما يبدو أنها دراما عائلية، حيث تحتفل نجمة وابنتيها رضوان وسناء بالترقية التي حصل عليها رب الأسرة إيمان، والتي تَعده بمكانة أفضل في السلك القضائي وتَعدهم أيضًا بشقة أكبر وحياة برجوازية أكثر رغدًا.
هذه التورية التي عمِد رسولوف من خلالها إضفاء طابعًا إنسانيًا على شخصياته وبالأخص إيمان، بتصويره في البداية كأب حنون محاصر بين ضغوط العمل ومتطلبات الأسرة ورغبتهم في الترقي الطبقي، ما هي إلا قشرة هشة تبدأ في التفكك والتصدع مع إندلاع احتجاجات طلابية واسعة في شوارع إيران بعد مقتل مهسا أميني، لتكشف لنا عن الوجه الحقيقي لهذا الجلاد الذي لا يتردد في إرسال هؤلاء المحتجون إلى المشانق، وكأن ثمن الترقية التي نالها إيمان هو السير على جثث هؤلاء الأبرياء، على عكس سلفه الذي رفض الخضوع للأوامر قبل أن يُطرد من وظيفته.
على مدار مسيرته السينمائية الممتدة لأكثر من عقدين، كافح رسولوف في أفلامه لكشف وحشية النظام القمعي الإيراني إذا ما فكر أحدهم في الخروج عن النص المرسوم له، وتترسخ هذه الأسلوبية في فيلميه الأخيرين “رجل النزاهة” و”لا يوجد شر”، الحائز على دب برلين الذهبي في 2020. هذا النهج المتبع في أفلام رسولوف كان يتم تقديمه غالبًا من منظور الرجال، من خلال سرد معاناتهم مع الظلم ورغبتهم الملحة في العدالة. لكنه في “بذرة التين المقدسة”، حَلَّق بعيدًا عن مناطق راحته. فمن جهة حافظ على نبرته السياسية المعتادة في أعماله، لكنه في نفس الوقت اختار تقديمها من منظور نسائي، ولا سيما وأن الشرارة التي أججت فيلمه – وكذلك إيران – كانت بدايتها عن طريق شابة عشرينية قُتلت لعدم ارتدائها الحجاب.
هذه التوترات التي أشعلت غضب الكثيرين داخل إيران، هى ذاتها التي أزاحت الستار عن قدسية هذه العائلة المحافظة المستقرة نسبيًا. بداية من الزوجة نجمة، التي تعتبر بمثابة ظلاً لإيمان داخل المنزل. تكافح نجمة في البداية بكامل قوتها من أجل إنجاح ترقية زوجها لأنها تعلم جيدًا مكتسبات هذا الترقي، فنراها تفرض قيودًا صارمة على الفتاتين داخل المنزل، كيف تتصرفان، وكيف ترتديان ملابسهما، وكيف تختاران رفقتهما وتحديدًا الفتاة الثورية صدف، صديقة ابنتها الكبرى، والتي تُشكل أفكارها وزيارتها المتكررة مصدر خطر للأم، التي ترى أن هؤلاء المحتجون “ليسوا بشرًا، بل بلطجية”، وهى نفس الأكاذيب التي يرددها التلفزيون الرسمي، وإيمان نفسه.
ما ركز عليه رسولوف في هذه المرحلة هى الحالة الثورية النسائية التي تتشكل ببطئ داخل هذا المنزل لدى الفتاتين، وبالأخص الكبرى رضوان، التي لا تتوانى عن طرح الأسئلة وخوض النقاشات الجريئة المليئة بالغضب مع الأب. يأتي رد الفعل هذا كنتيجة طبيعية لحالة الوعي التي تشكلت خلف شاشات الموبايل، إضافة إلى ما اختبرته بصورة شخصية مع صديقتها المقربة صدف، التي شُوَّه وجهها البريء بكرات حديدية صغيرة منطلقة من فوهة بندقية أحد رجال الشرطة.
إن صراع الأجيال والاختلاف في المنظور بين الآباء ذوي العقلية المحافظة وأبنائهم الأكثر ميلاً إلى التغيير، ما هو إلا طبقة ثانية ينزعها رسولوف بحذر ليكشف عن أخرى أكثر عمقًا. فكل ما سبق كان بمثابة مقدمة لحالة الرعب النفسي التي تهيمن على النصف الثاني من الفيلم، وتحديدًا عندما يختفي مسدس إيمان الشخصي. هنا يبدأ الشك في التهام عقله، فبالنسبة لإيمان فقدان السلاح يعني خسارة الوظيفة والسجن.
إن الرمزية التي يمثلها السلاح هنا ريما تكون أعمق بكثير من هذه المخاوف السطحية، فهو بمثابة رمز القوة المطلق لهذا الشخص (النظام) والذي بغيابه يفقد السيطرة. ولكن، ماذا لو أن أحد أفراد أسرته يعبث معه؟ وماذا سيحدث إذا حاول أحدهم العبث مع النظام؟ .. بالتأكيد، سيجن جنونه.
إن الفقاعة التي أحاط بها إيمان عائلته لسنوات طويلة بحجة الحفاظ على أمان الأسرة، يتضح فيما بعد أنها لم تكن سوى أكذوبة كبرى، الغرض الأساسي منها هو الحفاظ على سلامة النظام وليس العائلة. فعندما تصبح حياة النظام (إيمان) على المحك، فإنه لن يتردد ثانية في التضحية بمواطنيه (العائلة).
وهذا ما يبلوره رسولوف ببراعة في أحد مشاهد فيلمه القاسية، عندما يصطحب إيمان عائلته إلى محقق خاص لاستجوابهم بشكل مهين عن مكان اختفاء السلاح، وعندما تعترض نجمة على سلوك المحقق – الذي لطالما اعتبرته صديقًا للعائلة – يخبرها بنبرة تحمل رعبًا دفين، بأنه “لم يُعامل شخص هنا بهذا الاحترام من قبل”.
بداية من هذه اللحظة تتصدع معتقدات نجمة، التي ظلت لسنوات طويلة في حالة خضوع واستسلام، لتبدأ تدريجيًا بفقدان الثقة في ذلك النظام الأبوي الصارم الذي يقف على قمة هرمه زوجًا مريضًا بجنون العظمة. هذه الرسائل هي ما ينجح رسولوف بتمريرها طوال أحداث الفيلم، فكل ما تمر به هذه الأسرة هو صورة مُصغرة لما يحدث في إيران.
حالة الجنون والرعب النفسي تلك لا تكتمل إلا عندما يقرر إيمان اصطحاب أسرته إلى منزل طفولته بإحدى القرى الجبلية النائية، بعد أن كُشفت هويته وبات مطاردًا من الثوار بسبب سجله العنيف. في الفصل الأخير من الفيلم، تلتقط عدسة مدير التصوير بويان أغابابايي، أطلال هذه القرية الأشبه بالمتاهة المتداعية، لنتأمل ما كانت عليه إيران يومًا ما وكيف صارت الآن. وهذا ما نلمحه في أحد المشاهد حين تعثر الابنة الصغرى سناء على شريط كاسيت قديم لوالدها يحتوي على أغنية قديمة محظورة تتغزل في شعر المرأة.
هذه الرابطة النسائية التي تشكلت لحماية نفسها، ربما حاولت إثناء إيمان عن المنحدر السريع الذي يسير باتجاهه وتذكيره بحالة السلام والدفء التي أنارت الأسرة في الماضي. ولكن معتقدات هذا الرجل الثابتة وقناعاته الراسخة بجنون السيطرة هي ما تقوده نحو هلاكه المحتوم.
برغم خصوصية العمل وظروف إنتاجه المستحيلة، إلا أن “بذرة التين المقدسة” لا يُعد أقوى أعمال مخرجه. فقد طال الفيلم شيئًا من التخبط والمباشرة بالتنقل بين الأنواع الفيلمية وتعدد أساليب السرد. بداية من العنوان الذي يرمز إلى القمع الذي يَطبق على المجتمع كبذور شجرة التين التي تخنق ببطيء كل ما حولها كي تنمو، مرورًا بدمجه لمقاطع فيديو للاحتجاجات التي وقعت عقب مقتل أميني. هذه العثرات لم تقلل من قوة الفيلم ولا خصوصية الرحلة، فهو مشروعًا جريئًا أنجزه رسولوف سرًا بعيدًا عن أعين النظام، وظل يسابق الزمن لإتمامه وهو على بعد خطوات من المعتقل، وكأن بطله إيمان الذي يطارد عائلته للتنكيل بهم، يفعل الشيء ذاته معه.
ربما يكون “بذرة التين المقدسة” أخر ما تبقى لرسولوف من إيران في منفاه الإجباري. فلا شك أن عودة الرجل – الذي ظل لعقودٍ صوتًا لمن لا صوت لهم – إلى بلاده، ستظل مقترنة بسقوط نظام الملالي، الذي، وإن طال الوقت، فمصيره إلى زوال تمامًا مثل إيمان، أسفل أطلال قرية مهجورة.