الوثائقي “طُليان مَصر”.. دعوة إلى قُبول الآخر
في 80 دقيقة، قدم لنا المُهندس المِعماري والمُخرج المِصري شريف فتحي، فيلمهِ الوثائقي “طُليان مَصر”، ورغم أن المُدة الزمنية في الفيلم تبدو قصيرة نوعا ماً، مُقارنةً بِالموضوع الذي يتناولهُ – مع مُلاحظة أنهُ لاتزال لدى مُخرجهُ مواد أخرى لم يُدرجها في فيلمهُ كما قال – إلا أننا نستطيع أن نقول اجمالاً بِأننا أمام فيلم جيد، مُتقن الصُنع إلى حدٍ كبير، سيطر الجُزء الوثائقي بِشكلٍ كبير على مُخرجهُ.
خرج الفيلم كوثيقة لِتاريخ الإيطاليين في مَصر أكثر مِن كونها وثيقة عن الإيطاليين الذين عاشوا في مِصر، وإن كان هذا شئ لا يُعيب الفيلم، حيثُ هُناك مَجهود بَحثي واضح، استغرق عامين تقريباً قبل تنفيذ الفيلم، وبِخاصة مع عدم مَعرفة الكثيرين بِالمعلومات التفصيلية الدقيقة عن تاريخ الإيطاليين الذين – كما ظهروا في الفيلم – وهم يعتبرون أنفُسهُم مِصريين قبل أن يكونوا ايطاليين، لِدرجة أن السيدة جرازيلا كاليري تقول في الفيلم إن ولادتها في بورسعيد عام 1939 أثرت عليها كثيراً، فهي تشعُر بِالحُرية أكثر في مصر لا في ايطاليا، التي تُقيم فيها حالياً !
يُمكن تقسيم الفيلم إلى عِدة وحِدات اعتمد عليها مُخرجهُ في طرح وتوثيق تاريخ الإيطاليين في مصر، فالوحدة الأولى هي التاريخ البعيد، حيثُ بداية قُدوم الإيطاليين لِمصر في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، وتأثيرهِم على مَناحي الحياة في مِصر، خاصةً في مَجالات الصِناعة والعِمارة والسينما.. أما الوِحدة الثانية فهي التاريخ القريب، حيث بلغت الجالية الإيطالية قِمة مَجدها فى ثلاثينيات القرن العشرين، حتى دُخُول إيطاليا الحرب العالمية الثانية، الحدث الذى دفع بسببه “طُليان مصر” ثمنا باهظاً.
تظهر في هذا الجُزء عِدة شَخصيات ايطالية مِن الجالية التي تبقت داخل مصر الآن أو سافر بعضها لِلخارج، ويقومون بِتوثيق وشرح بعض أحداث التاريخين البعيد والقريب، مع اظهار الفيلم التاريخ الشخصي لِتِلك الشَخصيات. أما الوِحدة الثالثة فهي تدور حول التاريخ الحديث والمُعاصر، من خلال شهادات لبعض الشخصيات المِصرية منها شهادة د. أحمد أبو زيد أستاذ الإنثروبولوجي في كُلية الفُنون الجميلة بِجَامعة الأسكندرية التي تُضيف لأحاديث الإيطاليين عن التاريخين البعيد والقريب، ما يُمكن أن نُسميهِ تحليلاً لِمَا نُعاصرُهُ اليوم، الذي يختلف كُليةً بِالتأكيد عما كان يعيش فيهِ الإيطاليون والمِصريون قديماً.
تقاطع الوحدات
تتقاطع الوِحدات الثلاث، في سرد تاريخ الجالية الإيطالية في مَصر، بِشكل مُباشر والعكس، يتمكن مُخرجهُ شريف فتحي مِن ضبط ايقاعهِ في بعض المَناطق كالحديث عن تأثير الإيطاليين في العِمارة – وانفلات هذا الإيقاع في مَناطق أُخرى كالحديث بِشكلٍ سريع ومُوجز عن تأثير الإيطاليين في صِناعة السينما المِصرية إلا أن هذا “التحكُم الجُزئي” – لا الكُلي – في مَفاصل الفيلم التي قد تبدو “عيباً”، هي هُنا “ميزة” أيضاً.. فمثلاً عندما يشرع مُدير التصوير السينمائي مُصطفى إمام في الحديث عن تأثير مُدير التصوير الإيطالي ألفيزي أورفانللي على السينما المِصرية، وكيف تتلمذ هو على يدهِ، يعود هذا بِنا لِلحديث عن التاريخ البعيد تأثير المُخرج الإيطالي الشهير توجو مِزراحي في السينما المِصرية، وكذلك التاريخ القَريب “تأثر جيل كامل مِن المُصورين بِألفيزي أورفانللي حتى اليوم”، إلا أن التاريخ الحديث هو الذي يلمسنا أكثر، خاصةً حينما قال مُصطفى إمام والدُموع تملأ عينيه: “حينما أتاني خبر وفاة ألفيس أورفانلي لم أُصدقه! .. قُلتُ لِزوجتي إن والدي هو الذي تُوفي اليوم، وأصررُت ألا أتركُهُ، حتى أشيعه بِنفسي إلى مَثواه الأخير”.
ورغم أن “النوستالجيا” هي التي تفور بِها مَشاعرنا عِند مُشاهدتنا لِـ “طُليان مصر”، فـ “صورة مصر مُختلفة”.. الزمن غير الزمن.. الناس غير الناس.. إلا أن التحليل الإجتماعي لِتاريخنا الحديث والمُعاصر يظل هو الأقرب والأهم في هذا الفيلم، حيثُ أنهُ يتزامن مع مُعايشتنا لِلتطورات السياسية الدائمة على السَاحة المِصرية، وازدياد نعرة “الطرف والطرف الآخر”، لهذا تبدو مصر في فيلم شريف فتحي وكأنها كانت غير مصر التي نعيش فيها اليوم، فلم تكن هُناك نعرات قبلية ودعوات الِتحزُب ورفض الآخر وعدم القُبول بِهِ لِمُجرد أنهُ مُختلف، سواء أكان هذا الإختلاف دينياً أو أيديولوجياً أو عِرقياً أو غيرهِ، فتقول “إيولاندا باتيجيلي”: “لم أذكُر يوماً أنني تحدثتُ مع جارتي المِصرية حول الأديان، فأبناؤهُا هُم أبنائي والعكس، وحينما كُنتُ أذهب إلى القُداس كانت تطلُب مِني أن أدعو لها، وحينما كانت تذهب هي لأداء فريضة الحج كُنتُ أطلُب مِنها أن تدعو لي”.. بل أنهُ وقت ظُهور الفاشية الإيطالية في عهد موسوليني، كان الإيطاليون في مِصر يعتبرونها مُجرد احتفالات وبهجة وعروض رياضية، وكانت تُقام في مَصر، و رفضوا تماماً الإنجرار إلى الدعوات التي تلتها بِمُقاطعة اليهود، أي بِرفض الآخر. يؤكد هذا د. أحمد أبو زيد، الذي قال: “كان مِن الطبيعي ألا يكون هُناك شئ اسمُه آخر أو فِتنة في مِصر، فكانت الرحلات المَدرسية لِزيارة المساجد الإسلامية والكنائس المسيحية والمَعابد اليهودية جُزء أصيلا داخلنا”.
أيضاً الرسام الإيطالي سيلفيو بيتشي، الذي تتلمذ على يد والدهِ العديد مِن الفنانين المِصريين، أشهرهُما أدهم وانلي وسيف وانلي، فيقول عنهُما : “كانا يُقدران كثيراً والدي كما كان هو يُقدرهُما”، وكأنها اشارة إلى غلبة لُغة الفن العالمية، التي لا تحتاج الى ترجمة، على اللُغة الداعية إلى قتل وحرق وسحل كُل مَا ومَن هو مُختلف.
الانفتاح على الآخر
وبِجانب أن الإيطاليين في مِصر عاشوا حياة رغدة – عدا فترة الحرب العالمية الثانية – فقد تغلغلت مِصر في نُفوس الإيطاليين، فالطبيعة المِصرية – بِتاريخها وشعبها – مُنذ قديم الأزل كانت تفتح ذراعيها للجميع، لهذا ليس مِن الغريب أن يرفُض بعض الإيطاليين حتى اليوم مُغادرة مِصر، مثل فرانسيسكو موناكو الذي وُلِدَ عام 1952 في الأسكندرية، ولم يستطع تركَها حتى اليوم، وهو الحال نفسُه بِالنِسبة لِأوسفالدور لاتيرزا أو حتى فرانكو جريسو الذي وُلِدَ في الأسكندرية عام 1932 وسافر إلى ايطاليا، ليعود إلى الأسكندرية مرةً أُخرى، لأنهُ يرى مصر، كما يقول بِالعربية التي تمتزج بِالإيطالية: “بلد الجِدعان”!
تأثير الأسكندرية طاغ على الإيطاليين في مِصر والعكس، فمعظمهم يتحدث عن الأسكندرية وكأنها مِصر، وإن كان هذا لا يخلو مِن الإشارات البسيطة كتأثير الإيطاليين في باقي رُبوع مَصر كلقطات المُستشفى الإيطالي بِالقاهرة، ورغم خُفوت هذا التأثير الآن كما خفتت أشياءاً جميلة كثيرة في مِصر لكن آثارها مازالت موجودة، وهو ما يقول عنهُ لويجي بيرجامين مُدير مدرسة “دون بوسكو” الإيطالية في الأسكندرية وهو أيضاً أحد أساتذتها في القاهرة، ان المَدرسة تقوم الآن بِالإعتماد كُليةً على الطلبة المِصريين، لِتخريج دُفعات مِن الطُلاب قادرة بِالفِعل – سواء في مَجال العُلوم أو الصِناعة – على أن تُقدم أفضل المُنتجات، لهذا ليس غريباً حينما تعرف بِأن دُخول هذهِ المَدرسة يلزمها اختبارات قبول.
حاول الفيلم ألا تبتعد كاميرتهُ عن أحضان مِصر، حتى وإن كان هذا لِلتوثيق، بِإستعانتهِ مثلاً بِمارتا بتريشيولي، أُستاذ تاريخ العِلاقات الدولية بِجامعة فلورنسا الإيطالية، كما كانت هُناك عِناية شديدة بِالصُورة، مع شِبه الإعتماد على اللقطات المُتوسطة والقريبة، حتى نقترب أكثر ونتلمس تاريخ الجالية الإيطالية في مِصر، التي تعلمت ليس فقط كيفية التأثير والتأثر في مُختلف المَجالات المِصرية، لكن أيضاً قدمت – بِمعونة المِصريين – رسالة تُؤكد على التسامُح والحُب وقُبول الآخر، ورغم أن الفيلم انتاج مُشترك مع قناة “الجزيرة الوثائقية”، إلا أن شريف فتحي أكد أن سياسة “الجزيرة الوثائقية” مُختلفة تمام الإختلاف عن سياسة قناة “الجزيرة الإخبارية”.. كما أنهُ أشار – في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم – إلى استيائهِ الشديد مِن أن هذهِ النوعية مِن الأفلام التي عُناونها رسائل حُب لِلعالم، لا يهتم بِها كيانات كالإتحاد الأوروبي، الذي رصد مؤخراً – كما قال شريف فتحي – ميزانية ضخمة جِداً لِدعم الأفلام التي تتحدث عن الديمُقراطية في العالم العَربي، أي ميزانية لأجندة تخدم مَصالح الإتحاد لا أكثر ولا أقل.
بعد انتهاء مُشاهدتك لفيلم”طُليان مَصر”، تشعُر وكأن مُخرجهُ كان يُريد أن يقول كُل شئ في فيلمهِ، إلا أنهُ – وهو ما اعترف بِهِ – كان لديهِ مُهمة صعبة، ألا وهي انتقاء العناصر التي يُمكن أن يظهر بِها الفيلم كوحِدة واحدة، لكن يبقى مِن الفيلم شئ هام ومُؤكد، هو ما تقولهُ في خِتامهِ إيولاندا باتيجيلي: “هذا الفيلم هام لأنهُ يحكي ويُوثق قِصصنا وتاريخنا في مِصر، لهذا قبلت الظهور فيهِ، لأني أتمنى مِن كُل مَن يُشاهدهُ ألا ينساني”.
* صحفي من مصر