الفيلم القصير “أباجورة”: متي تصل وكيف تُجرب؟

Print Friendly, PDF & Email

“ماذا أقول في هؤلاء الذين ولوا ظهورهم للشمس، فلا يرون غير ظلالهم..

“جبران خليل جبران”

يحمل الإنسان في تكوينه خبايا كثيرة يصعب إدراكها بصورة كُلية، ومن أصعب تلك التكوينات “النفس”. فالنفس البشرية التي يقام علي أساسها الكثير من حياة الإنسان ككل، ليس من السهل أن يستحوذ علي فهمها العقل بصورة مُيسرة.

فكل إنسان منا لا يستطيع أن يعترف أنه يملك نفسه، يفهمها ويتحكم فيها ويروضها كما يريد، وعلي الرغم من ذلك تكمن نصف راحة الإنسان في إدراك وفهم ذاته بصورة صحيحة، ففهم النفس أو الذات يكون كالضوء يسير الإنسان علي هداه.

الفيلم القصير ” أباجورة” (19 دقيقة) للمخرج فادي جمال عطا الله، يحاول تجسيد ومناقشة تلك الفكرة ” هل تري النور؟ لم لا؟ لأنني لا أدرك نفسي”.

تدور قصة الفيلم حول شاب يخاف الظلام منذ صغره حتي تولدت عنده عقدة داخلية جعلته في انتظار دائم للنور، هو مثل أي شاب يحلم أحلاما مستقبلية كثيرة يحاول تحقيقها، ولكنها لا تتحقق، فيصبر وينتظر النور وفي كل مراحل الانتظار يعتمد علي كيان آخر متمثل في وجود ” امرأة” تحدث عنده معادلا موضوعيا للشعور بالحياة ( توجد العاطفة إذن يوجد محرك لاستكمال الحياة)، ولكنه يسقط بسبب فشله في الجانب العاطفي في دائرة من التحول والاكتشاف، أي يتحول من شخصية ثابتة تؤدي دور الضحية إلي شخصية متطورة تذهب للنور ولا تنتظره  “تنحل العقدة “.

 نحن في  بداية حياتنا كشباب تكون الاخفاقات هي سر معرفة الطريق، فكثرة الفشل والألم تجعلنا ننسلخ من رغباتنا الداخلية طوال مرحلة المراهقة والبناء لنصل إلي ذات تستطيع أن تري الكون من حولها بصورة أكثر عقلانية، وما يحدث داخلنا في هذه المرحلة يجعلنا في رحلة استكشافية توصلنا إلي نضج الحقيقي يأخذ بأيدينا لمواصلة الطريق.

فبعد متوالية من فشل رامي نتيجة شخصيته المملة والكثيرة التشاؤم والخوف، يتوقف عند جملة من محبوبته دينا قذفتها في وجهه “الضلمة مش حواليك الضلمة جواك”.

يمكن أن نطلق عليها جملة التحول  التي كشفت الغطاء عن سر الظلام الحقيقي لهذه الشخصية (يحدث معنا جميعاُ  حيث يلقي لنا القدر بكلمات تكون فيها بدايتنا أو…).

 ونعود للنفس البشرية عندما يسير الإنسان وهو غير مدرك لنفسه تكون مرآة عينيه عمياء، فالذي يحرك الإنسان في مسيرته ليست رؤية عينيه، بل رؤية القلب/ النفس لمشتملات الحياة من حوله، فالبصيرة تأتي من الداخل أولاً.

ونتسآءل كيف يعيش الإنسان  حياته وهو محتجب عن الرؤية الداخلية؟

يرد الفيلم علينا من خلال تصوير البطل داخل غرفة مظلمة، هذه الغرفة المظلمة ترمز إلي نفسه / بصيرته الداخلية المحتجه، وكلما يشتد ظلام النفس يشتد مرضها وتخاف أن تستقبل الضوء كما حدث للبطل، وهذا الضوء الذي يصعب مواجهته يكون متمثلا في مراحل الفشل التي يمر بها الإنسان والتي تصل به في النهاية إلي باب النور.

 وهنا لمحة فلسفية خفية في حياتنا، تكمن في القدرة الإلهية التي تُجبر الإنسان على أن يسير- علي سبيل المثال- في طريق به الكثير من الصعوبات كلما يتخطي صعوبة يجد أخري حتي يجد أمامه فجأة بابا، عندما يفتحه يجد من يقول له ” أنت لم تحصل علي كل أحلامك بالرغم من طول الطريق الوعر ولكنك حصلت علي أنا فقط.. وأنا من سأجعلك تصل إلي كل شئ: أنا .. نفسك”.

الذات المريضة

كل ما  واجهه رامي يعتبر إعادة تدوير لتلك الذات المريضة، التي كانت تسقط كل عيوبها خارج نفسها (الإسقاط النفسي حيلة دفاعية ضد أي هجوم علي النفس)، حتي دخل عالما من الأوهام النفسية شل حياته بأكملها (البطل لا يستطيع أن يقوم بالفعل، بل دائما ينتظره)، ولكنه  في النهاية يقرر أن يخرج ويسير في الطريق بكل ثبات وقوة ويقين، ولتكرار جملة “مش هستني النور” في الحكي دلالة جمالية تعبر عن وصول هذه النفس إلى سبب أزمتها، ويقينها بأن لا رجعة إلي الوراء/ الظلام مرة ثانية، فمن يصل إلي هذه الحقيقة مهما واجه من صعوبات لا يعود.

 استطاع الفيلم أن يعمق تجسيد فكرته ببعض لمحات التجريب في الشكل، فالخروج من الإطار التقليدي لتجسيد الأحداث كنسق واقعي بحيث أضاف نوعاُ من التجديد، ظهر في المزج بين لقطات الجرافيك وبين الصورة الحية، ودخول مشاهد كرتونية كمشهد التلفاز الذي استخدمه المخرج كفلاش باك وكأن ذاكرة البطل هي تلفاز يعرض للماضي المسجل فيه، بإلاضافة إلي الاعتماد علي بعض الرمزية، كما تبدت عين البطل وهو في حجرته المظلمة وكأن عليها غمامة، أو كأن هيأتها ليست طبيعية.

والصورة الإيحائية المؤثرة التي تحاول أن تتفاعل مع السرد، كانت متغيرة تتبع وتتمثل كلمات البطل التي ينطقها، مما جعل الصورة السينمائية  مثل شخصية من الشخصيات تؤدي دورا تمثيليا في الفيلم، وأيضاً الاعتماد علي الموسيقي المتنوعة بين الصعود والهبوط أو التوقف تبعاً للحالة.

Visited 45 times, 1 visit(s) today