“المَغسلة” وثائق بنما تُروى بالكوميديا

فيلم “The Laundromat” يدور عن حادثة الفضائح الشهيرة المُسمَّاة “وثائق بنما”. قد تبدو لك هذه العبارة بسيطة ومريحة. لكن الأمر ليس على هذه الدرجة من البساطة. الحديث عن هذا الفيلم قد يبدو مُحيِّرًا؛ بسبب الذكاء الشديد الذي كُتب به وأُخرج، وبسبب ما تدور حوله أحداث الفيلم “وثائق بنما”، وبسبب الأبعاد التي يطرحها. واختصارًا لهذا سأقسِّم الحديث إلى أجزاء تبعًا لهذه الحيرة إلى ثلاثة أقسام بعد تفاصيل الفيلم.

الفيلم من إنتاج “Netflix” شهر “سبتمبر”، عام 2019م. مأخوذ عن كتاب “Secrecy World” لمؤلفه “جيك بيرنشتاين”. صاغه للسينما السينارست والمخرج “سكوت بيرنز”، وأخرجه المخرج الكبير “ستيفن زودربرج” (صاحب سلسلة أوشن). ومن بطولة نخبة من النجوم مثل “ميريل ستريب”، “جاري أولدمان”، “أنطونيو بانديرس”، وغيرهم. الفيلم من تصنيف كوميديا، جريمة، تاريخ.

أولاً: ما هي “وثائق بنما”؟ وغسيل الأموال؟

في صباح من صباحات عام 2016م أفاق العالم على هزة عنيفة! لمْ تكنْ من أثر زلزال قادم من اليابان؛ إنَّما كانت لزلزال صحفيّ هائل. حيث نشرت الجرائد تباعًا عددًا ضخمًا من الوثائق تمَّ تسريبه من شركة محاماة في “بنما” تدعى “موساك فونسيكا”. بلغت هذه الوثائق ما يفوق 11 مليون وثيقة. تثبت تورُّط مسئولين حكوميين كبارًا، وبعض رؤساء الدول العربيَّة والأجنبيَّة، وكثير من الأغنياء، وتجار المخدرات والأسلحة، ولاعبي الكرة العالميين مع هذه الشركة. ولكنْ ماذا تفعل هذه الشركة؟!

شركة “موساك فونسيكا” شركة أسسها شريكان منذ السبعينات. وهي شركة احتيال ماليّ مهمتها الأساسيَّة صنع شركات وهميَّة للأغنياء والمسئولين الحكوميين؛ بهدف التلاعب الماليّ وخداع منظومات العدالة في بلادهم. حيث يتفق معها أحد هؤلاء على إنشاء شركة ليس لها وجود إلا في الأوراق الرسميَّة فقط. فهي مجرد اسم وشعار وحزمة من الأوراق لا غير. ومن خلال هذه الشركة يقوم هؤلاء الأشخاص المتعاملون بعديد من العمليات الماليَّة التي تساعدهم في الكسب السريع للأموال، وعمليَّة “غسيل الأموال”. وذلك بدلاً عن إبقاء أموالهم في بلادهم، والتعرُّض للمُساءلة القانونيَّة: من أين لك هذا؟ أو أين ضرائب هذه الأموال؟ ويختار هؤلاء التعامل مع هذه الشركة أو شبيهاتها استغلالاً لموقعها في دولة “بنما” التي تمتاز بضعف منظومة العدالة، وانخفاض نسبة الضرائب هناك. وكذلك في عدد من الدول الأخرى الصغيرة. وإنْ سألت لماذا كل هذا المجهود أقلْ لك لشيئَيْن أساسيين:

  • غسيل الأموال: وهي عمليَّة إدخال مال ناتج عن تجارات فاسدة، مثل المخدرات، الدعارة، الأسلحة، أو ناتج عن رشاوى للمسئولين الحكوميين، أو ناتج عن سرقة أموال الشعوب في عمليَّات تجاريَّة سليمة -حقيقيَّة أو وهميَّة- لينتج عنها الأموال نفسها وأكثر. لكن الآن قد اكتسبت صفة “الشرعيَّة”؛ فقد أصبحت أموالاً قانونيَّة ناتجة عن تجارات يسمح بها القانون.
  • التهرُّب الضريبيّ أو “التجنُّب الضريبيّ” حيث يكتنز أحد هؤلاء أمواله في بلاد مثل هذه لا تطلب إلا قليلاً جدًّا من الضرائب، مُقارنةً ببلده الأصيل الذي يفرض أضعافًا مضاعفةً من الضرائب. وبهذا يتهرَّب من الضرائب، لكن في صيغة شبه قانونيَّة.
  • إخفاء الأموال عن الشعوب وهذا في حالة أموال الرؤساء والمسئولين الحكوميين>

ولعلَّ القارئ الآن قد علم لِمَ تمَّت تسمية الفيلم باسم “المَغسلة”. فهي من أكبر عمليات غسيل الأموال وإخفائها في التاريخ.

ثانيًا: كيف صنعوا الفيلم:

كثير من الأفلام التي دارت حول موضوعات ماليَّة وتعقيدات اقتصاديَّة وقعت في محظورَيْن: إمَّا التعقيد الزائد وإمَّا التسطيح المُفسِد. التعقيد الزائد يضغط على المؤلف بمزيد من الشرح والتوضيح حتى يخرج الأمر عن الحد، والتسطيح يطيح بفكرة قيمة العمل من الأساس. لهذا كان الفيلم حذرًا كي لا يقع في هذيْن المحظورَيْن. بل كان أذكى من التصور الذي يعادل بين التعقيد والتسطيح فقد استخدم إمكانات العمل الدراميّ، وقوَّة الفضيحة، وتعقيدات والتفافات عالم المال ليصل إلى أهداف أبعد. هي توعية المشاهدين لخدعة الاقتصاد والأموال عمومًا، والانتقاد الشديد والبارع للولايات المتحدة الأمريكيَّة وسياساتها الماليَّة، وادعائها تحقيق النموذج الأكمل للرقي والنجاح.

وقد اعتمد على كثير من الفنيات المعقدة -التي تبدو بسيطة جدًّا أمام عين المشاهد-. ولو رحنا في استعراضها لفاض الأمر؛ لذا سأوجزها في نقاط:

  • اختيار نموذج إنساني واحد لسيدة اسمها “إلين” (ميريل ستريب) لتعزيز الطابع الدراميّ، وكذلك الاستفادة منها في صنع التواء مع نهاية الفيلم.
  • بثّ عدد من القصص الجزئيَّة بين ثنايا الفيلم. توظيفًا لمزيد من الإيضاح، وإثراءً للدراما العامة، وصنعًا لمزيد من الكوميديا والإضحاك.
  • تعدد مستويات السرد. وقد يبدو أمام العين أنها مستويات عديدة ومتشعِّبة. وهي في الحقيقة مستويان رئيسان؛ السرد المباشر الذي قام به “جاري أولدمان” و”أنطونيو بانديرس” اللذان قاما بدَورَيْ “موساك” و”فونسيكا” (على الترتيب) مؤسسَيْ الشركة الحقيقيَّة. والآخر هو دور “ميريل ستريب” والتي قامت بالدور الأكبر في نهاية الفيلم.
  • تلاعب المخرج البارع مع مسألة تعدد مستويات السرد بالإيهام بكثرة الحوادث. حتى تشعر أنَّ هناك كثيرًا من الأحداث قد مرَّ، وكثيرًا من الوقت قد أنفقته في المشاهدة مع أن زمن الفيلم لا يتعدى ساعة ونصفًا -دون إشارتَيْ البداية والنهاية-.
  • تقسيم الفيلم إلى أقسام على حسب الأسرار المالية التي يرويها البطلان. وهي خمس من الأسرار التي عرضاها لكونها أسرار هذا العالم الماليّ الخفيّ.
  • الكوميديا المتنوعة والجيدة والذكيَّة التي استطاع المؤلف والمخرج أن يضعاها بإحكام طوال أحداث الفيلم.
  • تحطيم الفيلم للحائط الرابع الذي نُفِّذ بجرأة، وإضحاك، براعة من الممثلين الثلاثة الأبطال.
  • الدور الكبير للممثلة القديرة “ميريل ستريب” الذي لنْ يقدَّر إلا مع نهاية الفيلم.
  • مشهد النهاية وحده كفيل بالعرض المنفرد. ويمتاز بالكثير من الفنيات الجريئة والذكيَّة، التي اختتمتْ بلقطة رمزيَّة بارعة. تترك المشاهد وقد أحسَّ كمْ هو فيلم جيد هذا الذي شاهده.

ثالثًا: الأبعاد التي يطرحها الفيلم:

أهم ما يطرحه الفيلم -اختصارًا- بُعدان رئيسيان:

  • هو مستوى النضج الكوميديّ. لا أقصد من هذا أننا نرى مستوى للكوميديا أنضج من غيره، بل أننا نرى ما يمكن للكوميديا الاعتياديَّة، بل الهادئة أن تفعل من تأثير على المشاهد. حتى في ظل وجود بعض التعقيد المطلوب فهمه. ومثل هذه الأعمال تقول بصراحة إن الكوميديا أبدًا لمْ تكنْ وسيلة هزل، بل هي محض وسيلة يقف تقييمها على قوَّة مُستخدِمها، ومدى موهبته وذكائه.
  • الجُرأة التي امتاز بها الفيلم. والجرأة هنا غير جديدة، بل قد تقول: وما الإشكال هناك الكثير من الأفلام ذات الجرأة لأبعد مدى؟! .. الجرأة هنا ميزتها أنها مقدمة في قالب من اللطف والمرح ممزوجًا بالجديَّة في الهدف من طرح الفكرة. وهذا ما يميزها هنا. وأتذكر هنا قول “ميريل استريب” المؤثر؛ وهي تقول في وداعة ولطف: إلهي أعرف أنه قد لا يكون سؤالاً مناسبًا .. ولكنْ متى سيرِثُ المساكينُ الأرضَ كما قلتَ؟!

إننا نقف أمام واحد من أهم أعمال هذا العام. فإنَّ حشد الكثير من المعلومات والرمزيات والإشارات بل النظريات الاقتصاديَّة، جوارَ كثير من القصص الجزئيَّة والممتدَّة في أقل من نصف ساعة، بطابع متنوع في آليات الإضحاك، مع الموازنة بين الإمتاع والهدف؛ كل هذه العناصر تجعل من فيلم “المغسلة” نموذجًا يصلح للتدريس وللاقتداء من سينمانا العربيَّة.  

Visited 102 times, 1 visit(s) today