وليد سيف يكتب عن الفيلم الوثائقي “كراسى جلد”

Print Friendly, PDF & Email

إنتهى المخرج المصري عماد أرنست من تصوير فيلمه التسجيلى “كراسى جلد” قبل 25 يناير بعدة أيام. والفيلم لا يتضمن أى مشاهد من ثورة التحرير على طريقة القص واللصق أو من باب الترقيع السائد لركوب الموجة العفنة. ولكنه على الرغم من ذلك أو ربما بفضله، يحظى بأعلى نسبة مشاهدة وعروض واهتمام من قبل مختلف المواقع و الجمعيات السينمائية.

يحمل “كراسى جلد” رسالة نقدية هادئة النبرة خفيضة الصوت والانفعال ولكنها عالية التأثير، شديدة القوة عن الإهمال الذى عاناه هذا الوطن، والتهميش الذى واجهه أبناء هذا البلد المنكوب المنهوب، والحرمان الذى فرض على الملايين من أقل الحقوق الإنسانية فى كوب ماء نظيف ولقمة عيش شريفة وجو صحى خال من التلوث.

و إذا كان الفيلم ينتقد نظام ما قبل الثورة إلا أنه لا يفقد أهميته وجدواه بعد  قيامها، بصوتها العالى المكتسح وبفعلها الجاد و إصرارها القوى على إزاحة رؤس النظام، قبل أن تنتكس ويسعى كدابين الزفة إلى إختزالها فى شوية أعلام وبرانيط و شعارات.

وفى تقديرى أن قيمة هذا الفيلم تكمن فى عدة أسباب ليس أهمها أن الفساد الذى يفضحه بالصوت والصورة لم يزول كما يتصور السفهاء والبلهاء .

 وليس أيضا لأنه يجيب ببلاغة على كل من يتحدث، لهوى فى نفسه أو نتيجة لهفته على مصالحه، عن التدهور الإقتصادى وخطر الإفلاس وشبح إنهيار الدولة بعد قيام ثورة 25 يناير، فمن خلال هذا الفيلم نتأكد تماما من أنه لم تكن هناك أى دولة أصلا، بل مجرد كراسى جلد لا يجلس عليها سوى أشباح وقتله ومصاصين دماء. إلى هؤلاء أهدى هذا الفيلم مع الإعتذار لصاحب الحق الكامل مخرجه ومنتجه و كاتبه ومصوره فارس الأفلام المستقلة عماد أرنست.

رجال و كراسى

 ولكن ليس هذا فى رأيى أيضا أهم ما تحققه مشاهدة كراسى جلد، الذى تكمن قيمته الحقيقية فى هذه القدرة البارعة على تلمس روح الفن و فى التمكن البليغ من مفردات الفيلم التسجيلى وفى الكشف عن جوانب جديدة من إمكانيات فنان كنا نعتقد أن موهبته لا تتجلى إلا فى الأفلام الطليعية ذات الطابع التجريبى، ولكنه هنا يحقق فيلما تسجيليا وثائقيا محكما موظفا فيه كل خبراته وتجاربه وأساليبه، دون أن يحيد عن هدفه ودون أن يتشتت بين الأساليب إلا قليلا. فهو كالربان الماهر المخلص المتفانى فى عمله الذى يدرك جيدا كيف يستفيد من حركة الريح والموج دون أن يتوه عن الطريق.

عبر ثلاث مناطق تنتقل بك الصورة إلى عالمنا و حكاياتنا وأهالينا فى السويس والإسماعيلية. قد يرى البعض أن أحداث الفيلم التسجيلى عموما ترتبط بالتوازى ولكن عماد أرنست ينجح فى أن يحقق الشكل الفنى للفيلم بالإرتباط الصاعد بين المشاهد التى تبدأ من الأطراف فى عالم الأراضى المستصلحة لتتجول على الشواطىء حيث الصيادين وأرزاقهم المعلقة بالشباك فى قلب البحر ثم لتنقض إلى داخل الأحياء الفقيرة حيث مياه المجارى تحيط بالبيوت والعشش والأكشاك الخشبية وكأنك فى مدينة عائمة على القذارة. ويظل هذا التتبع لقطع و تلويث المياه التى خلق الله منها كل شىء حى وكأنه بحث وراء خطه لقتل البشر وإمتهان كرامتهم ومحاصرتهم بالماء الآسن وكأن هذه هى مكافأة شعب الأبطال فى السويس.

هكذا أنت تنتقل من بداية العالم إلى نهايته التى لم تكن تعنى سوى ثورة. وكأن الصورة من فرط صدقها قد تنبأت بمكمن الغضب فى السويس التى قدمت للثورة بالفعل أول إثنين من شهدائها. ولكن عماد بحس واع لا يقدم فيلما عن أزمة مدينة محددة، لهذا فالصورة تتسع من السويس إلى الإسماعيلية. وحدة المكان ليست هى التى تحقق وحدة الموضوع و لكنها وحدة الروح و الحالة و الهم المشترك الممتد من أقصى مصر إلى أدناها و التى إكتفى عماد بالتركيز على مواقع بمحافظتين منها ليعكس حال وطن بأكمله . وكما يصنع عماد إيقاعه فى بنائه العام بهذا الإحكام ينسج التفاصيل بنفس المهارة.

وجوه و شهادات

ربما تغيب أحيانا جماليات الصورة أو لا يهتم المخرج حتى بدرامية التكوين، على الرغم من إرتباط  تجاربه السابقة بالتجريب فى جماليات الصورة . ولكن درامية التتابع وتواصل البناء البصرى للمشاهد يتوالى فى نسيج نادر ومحبوك تصيغه وجوه مصرية حقيقية لشيوخ و شباب ورجال ونساء وأطفال. تتوالى الشهادات ويمتلىء شريط الصوت بحوارات الناس ولكنك لا تجد معلومة تتكرر ولا حديثا مملا ولا صوتا لا يشارك فى إضافة إضاءة أو تنوير للصورة.

فيلم “كراسى جلد” ليس ريبورتاجا بالمعنى المفهوم والمتكامل فهو يخلو من عرض وجهة النظر الأخرى للمسئولين. وهو أيضا لا يمكن إعتباره فيلما تعبيريا يعتمد على لغة الصورة لتوصيل المعلومة فشريط الصوت مليء بالقصص والحكايات والشكاوى على ألسنة الشخصيات. ولكن ما لا أوافق عماد أرنست عليه هو الإفراط فى نشر المادة الإخبارية ومانشيتات الصحف فتكرارها لا يدعم الصورة كثيرا. ويبدو كما لو كان نتيجة رغبة من الفنان فى توثيق جهوده البحثية و ليس لأسباب فنية.

وفى مقابل هذا الحرص الوثائقى الزائد لا يخلو الفيلم من نزعة تعبيرية فى حدود تكثيف وجهة النظر والسخرية من الجانب المقابل الذى لا نراه أبدا. فقد قرر عماد بذكاء فنى أننا لسنا فى حاجة لأن نرى وجوه المسئولين اللزجة القبيحة ولا أقفيتهم الخشنة الغليظة. يكفى أن نرى مقاعدهم الجلدية الوثيرة من حين لآخر وكفاصل بين المشاهد، لإلتقاط الأنفاس وللقطع بين فقرة و أخرى أو لفرض حالة من التأمل حول هذا الغياب المتعمد و المريب لمسئولين غائبين عن الوجود والفعل بدوافع الجهل أو العجز أو التواطوء لإغتيال شعب هذا الوطن . فالمؤكد أنهم يروا أنه لا توجد ميزانيات لإنقاذ الأهالى من وضع كارثى و لكن يظل بالإمكان دائما شراء كراسى جلد ليجلسوا عليها و يسترخوا و يظلوا جاثمين على  صدر هذا الوطن.

شحنة حب للوطن

كانت لقطات عماد داخل البيوت وفى المكاتب تحيد بنا عن هذه الصورة الثرية المعبرة البليغة فى شوارع المدن و حواريها. و كنت أفضل أن يجرى التصوير خارجيا فيتوفر عمق المجال ولا تغيب الحالة عن الصورة فى بيوت تقليدية. و كنت أفضل أن يتجنب ظهور المحامى المدافع عن حقوق الغلابة جالسا على كرسى جلد شبيه بالكرسى الذى يصوره فى الفواصل فيصنع تشتيتا ذهنيا بين مضمون الكلام ومدلول الصورة. قد يجلس صديقى الناقد أيضا على مقعده الجلدى  أو الخشبى أو حتى على كنبته البلدى ينتقد نقص المادة المصورة أحيانا أو عدم إستيفائها لبعض الجوانب أو يلوم المخرج على لقطات كانت بحاجة إلى إحكام أو سيطرة أكثر على التكوين.

ولكن كل هذه فى رأيى أمور ثانوية فى مقابل الجهد الجبار الذى بذله عماد أرنست بإمكانياته البسيطة وشجاعته الفائقة وإعتماده الكامل على ذاته كوحدة متكاملة ليقوم بكل الأدوار . لا يوازى الجهد الكبير المبذول فى جمع المادة العلمية لهذا الفيلم إلا هذا التوغل الرائع فى قلب المأساة فى مدينة وصلت إلى أعلى درجات الغليان و كانت توشك بالفعل على الإنفجار.

أستطيع أن أدرك جهد عماد و مغامراته فى إقتحام هذه المناطق و النفاذ من عيون الأمن والمحليات وكافة الأجهزة المتعفنة المتربصة بكل من يشكون فى أنه يسعى لفضحهم. فيقدم هذا الفيلم المشحون بحب حقيقى لهذا الوطن وغيرة حقيقية على أبنائه الفقراء الضعفاء بلا مسند أو سند الذين، أصبحت كلمة مهمشين أقل بكثير من حجم معاناتهم فهم محتقرين و مضطهدين و كنا نخالهم منسحقين.

ستر وغطاء

يستوى فى الصورة والهم  ناس مستورين مكافحون وضعوا مدخراتهم فى قطعة أرض ليصلحوها بأيديهم وأسنانهم، فيحرموا من الماء بلا رحمة، ليحترق زرعهم و كدهم وتبور أراضيهم لصالح بهوات كبار لهم صلات و اتصالات. ومن نفس الكأس يشرب صيادون فقراء يكادون أن يتضوروا جوعا نتيجة لفساد مياه المصايد بصرف المجارى. وبعد هؤلاء يأتى الموتى الأحياء الذين أغرقتهم المجارى وانهكتهم الشكوى وأذلهم التجاهل و الإهمال.

 “كراسى جلد” هو النموذج المثالى للفيلم التسجيلى طبقا للناقد السينمائي الراحل مصطفي عبد الوهاب فى كتابه سينما الحقائق البسيطة  “إن فنان الفيلم التسجيلي فى حقيقة الأمر لا يقدم لنا الواقع المرئي وإنما يعرض لنا رؤيته الذاتية لهذا الواقع وهى رؤية تحتوى علي قيمه وولاءاته وإنتماءاته وإنفعالاته بما يطرحه عليه الواقع من صور وحكايات ومواقف إنسانية. الفيلم التسجيلى فى أرقى صوره يسعى إلى التنوير بقيمة العلم و المعرفة والإرتقاء بالوعى بأساليب فنية.. وهو لا يعتمد على قصة مبتدعة من خيال المؤلف أو  مستمدة أو مستلهمة من الواقع و إنما إعتمادا على هذا الواقع ذاته بشخوصه الحقيقية و صوره الموحية و مفارقاته و تناقضاته الظاهرة و المضيئة . وعندما نستمع إلى الناس يتحدثون فيه نتعرف على ملامحهم النفسية وواقعهم و ظروفهم فنقترب من حياتهم بكل ما فيها من سعادة و ألم و طموحات و شقاء و آمال”.

ملحوظة: الحديث عن سينما الحقيقة فى عنوان هذا المقال ليس له علاقة بنوع أو أسلوب أو مدرسة فنية ولكنه عن سينما ترتبط بالحقيقة ولا تتأثر بتغير الواقع.. سينما لا تكذب ولا تتجمل ولا تنافق شعبا ولا ثورة.. سينما يمكنك أن تشاهدها أمس و اليوم وغدا.

Visited 33 times, 1 visit(s) today