“حكاية الحب والظلام”: محاولة لإخفاء السياسي في قالب شعري

Print Friendly, PDF & Email

وسط ضجة دعائية وإعلامية كبيرة، عرضت الممثلة الأمريكية الإسرائيلية الأصل، ناتالي بورتمان، فيلمها الأول كمخرجة في مهرجان كان السينمائي، وهو فيلم “حكاية الحب والظلام” A Tale of Love and Darknessالذي كتبت له بورتمان السيناريو، عن رواية الكاتب الإسرائيلي الشهير عاموس عوز التي صدرت عام 2000، ثم ترجمها جميل غنايم وصدرت في طبعة عربية تقع في 765 صفحة، عام 2001 عن دار منشورات الجمل، وفيها يروي عوز الكثير من ذكريات طفولته في مدينة القدس، مع والديه، وأفراد عائلته، وهما من المهاجرين البولنديين، ويروي عن العيش في المدينة، وعن بدايات وعيه بالمروع الصهيوني، وعلاقته باللغة العبرية التي لم يكن يتحدث بها والداه لكن والده أصر على تعليمه إياها، كما يصف بالتفصيل التأثير الكبير الذي تركته أمه عليه في طفولته، وكانت سببا في احترافه الكتابة فيما بعد. ويتطرق عوز بالضرورة إلى نشأة إسرائيل، وبدايات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من وجهة نظر طفل صغير، سرعان ما أدرك استحالة الحفاظ على نقاء “الحلم الصهيوني” دون أن يتخلى عن الصهيونية كأساس لبقاء الدولة، أي دون أن ينبذ فكرة “الدولة اليهودية” وسياسات الإقصاء، وهو مأزق عوز وغيره ممن ينتمون لـ “اليسار الصهيوني” الذين يتأرجحون عادة بين تأييد الممارسات الإسرائيلية التي تتذرع بالحفاظ على “أمن إسرائيل”، وبين الدعوة إلى نوع من “السلام” القائم على الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السيادة. فقد أيد عوز مثلا، غزو لبنان عام 2006 واجتياح غزة في 2009 كما أيد اقامة الجدار الفاصل في الضفة الغربية، لكنه مازال يؤيد حل الصراع على أساس الدولتين، من أجل ضمان بقاء إسرائيل كدولة مقبولة في المنطقة.

تتميز رواية عاموس عوز بالإسهاب في الوصف والاستطراد في التفاصيل، لذلك لا أتخيل أن تحويلها إلى سيناريو سينمائي كان عملا سهلا، خاصة وأن سيناريو الفيلم منسوب إلى ناتالي بورتمان نفسها التي ليست لديها خبرة سابقة، لا في الكتابة ولا في الإخراج، فهي ممثلة جيدة ذاع صيتها بعد أدائها دور طفلة بريئة تتعلق بقاتل محترف في فيلم “ليون” (1995)، أمام الممثل الفرنسي جون رينو، وكانت في الثالثة عشرة من عمرها، ثم عادت فتألقت في فيلم “البجعة السوداء” (2010) الذي حصلت عن دورها فيه على جائزة الأوسكار.

سحر الأم الراحلة

اختارت بورتمان بعض المواقف من داخل رواية عوز، بتركيز خاص على شخصية أمه “فانيا”، وجعلت من شخصية عوز نفسه مدخلنا إلى الفيلم، كراوية يسرد الأحداث من الذاكرة بعد أن أصبح اليوم رجلا طاعنا في السن (عوز من مواليد 1939)، ولعل ما جذبها في شخصية “فانيا” أنها ما تتسم به من سحر وغموض، فقد كانت امرأة جميلة، مثقفة، تميل للتأمل والتحرر من القيود الدينية وتمقت السياسة، خاصة وقد رحلت عن العالم مبكرا ولم تكن قد تجاوزت الثامنة والثلاثين.

يتبع السرد في الفيلم خطا متعرجا، يبدأ من الحاضر ليرتد الى الماضي، ويظل يتأرجح بين الماضي والحاضر، في تداعيات تخرج أحيانا إلى لقطات تجريدية للصحراء والسماء والطبيعة والطيور، لتكثيف الهواجس الكثيرة المتزاحمة في رأس “فانيا” على خلفية من الأوصاف الأدبية التي يلقيها أموس عوز بصوته. يبدأ الفيلم في عام 1945، ويصور الأجواء التي سادت بعد الحرب، في زمن الانتداب البريطاني في فلسطين، ويتطرق للرواية الشائعة عن منع البريطانيين وصول مزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ويروي كيف أتت فانيا من روفنو في بولندا التي يتردد أن الألمان النازيين قتلوا نحو 25 ألفا من سكانها اليهود عام 1942، ويتردد في الفيلم (والرواية أيضا) كيف أن خال عاموس تقاعس عن الهجرة الى فلسطين، وكان مصيره الموت. أما والد عاموس “يهودا أريا” وهو من يهود بولندا أيضا، فكان شغوفا بالأدب، يريد أن يصبح كاتبا لكنه فشل وأصبح موظفا في مكتبة الجامعة العبرية. لكن من البداية يبدو زواج فانيا من أريا، زواجا عن غير حب، ويصور الفيلم كيف كانت تحولت فانيا من شخصية متحمسة لبدء حياة جديدة في فلسطين، إلى الانغلاق على نفسها، وأصبحت تعاني من الوحدة والاكتئاب، تسيطر عليها خيالاتها، وتركز كل همها في تنشئة إبنها، بعد أن أصبحت لا تطيق التعامل مع زوجها الذي تترك له حرية تحقيق رغباته الجنسية مع غيرها من النساء (يشاهده عاموس ذات مرة مع امرأة أخرى).

غموض

يرصد الفيلم بدايات الصراع السياسي، أولا في عهد الانتداب، ثم بعد قيام إسرائيل مع صدور قرار الأمم المتحدة بأغلبية الأصوات، ثم نشوب الحرب بين العرب واليهود، وماتلاها من تداعيات. وتستخدم بورتمان الكثير من اللقطات  التسجيلية من الأرشيف السينمائي، للحياة في القدس، للمناوشات بين العرب واليهود، لجلسة التصويت الشهيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، للاحتفالات اليهودية بتأسيس إسرائيل، ثم بالنصر في حرب 1948.

غير أن الفيلم لا يكشف سبب عدم شعور فانيا بالسعادة، ولا يقدم عاموس عوز كراوية للأحداث، تفسيرا لمعاناتها الممتدة التي يعجز زوجها عن فهمها والتي تنتهي بانتحارها، كما لا يبدو عوز شخصية محورية في الفيلم، بل يتركز اهتمام الفيلم على شخصية “فانيا”، لاتاحة الفرصة أمام ناتالي بورتمان للقيام بدورها كبطلة منفردة في الفيلم، بينما يتراجع وجود عوز إلى الهامش.

هناك بعض الإشارات إلى أن “فانيا” لم تكن سعيدة بوجودها في إسرائيل التي أصبحت على غير ما كانت تأمل، هنا تربط ناتالي بورتمان بين موقفها الشخصي والموقف السياسي المعروف لعاموس عوز حتى تبدو متوازنة في طرحها من الناحية السياسية، وبالتالي تضع على لسانه وهو بعد طفل صغير في مشهد مبكر ورئيسي من الفيلم، ما يكشف عن وعي سياسي مبكر للغاية بالنسبة لكفل في الثامنة، عندما يقول لعائشة، إبنة الأسرة الفلسطينية الثرية التي يرزوها مع أفراد أسرته، إنه يرى أن في البلاد متسعا لكل من العرب واليهود.. كما يشي المشهد بنوع من التعاطف مع جانب الطفل “عوز” مع الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه، الإحساس بالغربة عنهم والخوف مما يمكن أن يحدث مستقبلا. هذه الزيارة يصفها عوز في نحو ثلاثين صفحة من روايته، لكننا نراها هنا بتركيز خاص على طبيعة العلاقة الودية التي كانت قائمة بين العرب واليهود، بل وكيف يتسبب الطفل عوز في إصابة طفل من أطفال  الأسرة الفلسطينية إصابة دامية، وكيف كانت عائشة تحدثه بالعبرية بينما كان يخاطبها بعبارات عربية.. وكلها إشارات، منتزعة من سياق الرواية، لإحداث نوع من التوازن في الموقف الصهيوني المتحيز الواضح للفيلم، لكن هذا بالطبع فيلم إسرائيلي من تمويل أمريكي، لا يجب أن نتوقع أن يكون متوازنا في تصويره!

رؤية أحادية

الفيلم مصنوع من وجهة النظر اليهودية التي تسهب في استطرادات كثيرة حول “الهولوكوست” وما وقع لليهود على أيدي النازيين، تبريرا لاستيلائهم على فلسطين، ويصور كيف أصبحت إسرائيل “بلدنا حيث لا يمكن لأحد أن يدوس على  كرامتنا بعد اليوم”، كما يتردد حرفيا في الفيلم والرواية. ولاشك كذلك أن تأرجح الرؤية السياسية بين السرد المستمد من ذاكرة عوز، وبين تبرير الواقع، أدى إلى خلل في البناء السينمائي، فقد جاء الفيلم رغم وجود الكثير من المشاهد الجيدة، مفتعلا بغموضه المصطنع، وانتقالاته في الزمان التي لا تضيف الكثير، ولا تراكم لكي تصل إلى أي لحظة من لحظات الاستنارة، فالغموض بقصد إضفاء الطابع الشعري على الفيلم، يبدو مقصودا لذاته. صحيح أن بورتمان لا تريد أن تروي، بقدر ما تريد أن تصف حالة، إلا أنها تستخدم أيضا الكثير من لقطات الأرشيف القديمة، أي المشاهد التسجيلية، تريد من خلالها أن تشرح وتوضح وتحلل، طبيعة ما حدث في تلك الفترة، لكنها رغم ذلك، تفشل في الاقتراب من تلك الحالة الذهنية المشوشة لدى “فانيا” فنحن نخرج من الفيلم دون أن نفهم بالضبط لماذا كانت “فانيا” حزينة يائسة هكذا، وهل كان ذلك بسبب ما وقع لذويها في “الشتات”، أم لأنها فشلت في التأقلم مع الحياة في إسرائيل كما يراد لنا أن نفهم دون أن “تتورط” بورتمان في أي نوع من الإدانة المباشرة لإسرائيل بالطبع!

يبقى من الفيلم بلاشك، ذلك الأداء البديع من جانب بورتمان التي تبرع في أداء دور فانيا، بملامحها المميزة، وحزنها الدفين، وغموض ملامحها، وسحرها الذي يعبر الأماكن والأشياء، خاصة مع اللمسات الفنية البارعة من جانب مدير التصوير البولندي سلاومير إتزياك، التي تضفي على المشاهد نوعا من ضبابية الحلم، مع كثير من الظلال.

عن جريدة “العرب” اللندنية

Visited 64 times, 1 visit(s) today