الصندوق الأسود.. ودراما المكان الواحد

Print Friendly, PDF & Email

فى تجربة سينمائية شبيهة بفيلم “أسوار القمر” تعود النجمة مني زكي إلى جمهورها، بعد فترة انقطاع دامت أربع سنوات، بفيلم ” الصندوق الأسود”، الذى أخرجه محمود كامل، وكتب له القصة هيثم مصطفى الدهان وأحمد الدهان، وشارك في البطولة محمد فراج، ومصطفى خاطر، وظهور خاص لشريف سلامة.

يتشابه الفيلم مع “أسوار القمر” في عدة نواح، منها غلبة البعد النفسي للصراع الدائر بين رجلين وامرأة، مني زكي في الفيلمين، وعمرو سعد وآسر ياسين في” أسوار القمر”، ومحمد فراج ومصطفى خاطر في “الصندوق الأسود”. لحظات الذروة تحدث في مكان ضيق ومغلق، الفيلا في أحدهما والسفينة في الآخر. اختلاف الطباع بين الشخصيات الرجالية، فدائماً أحدهما طيب والآخر شرير، غير أن الصراع فى “أسوار القمر” كان بين الرجلين، بينما في” الصندوق الاسود” كان بين الرجلين من ناحية وبين مني زكي من ناحية أخرى. وفى كلتا الحالتين، كانت الشخصية التي تؤديها مني زكي تعانى من علة ما، تزيد من جرعة الإثارة، وترفع من درجة التوتر والعبء النفسي على الشخصية، ففي “أسوار القمر” كانت تعانى من فقدان البصر، وفى “الصندوق الأسود” تعانى من آلام الحمل.

دراما المكان الواحد تتميز، عادة، بقلة عدد الشخصيات، والقصة المثيرة، و تنتمى، في الغالب، لما يعرف بأفلام الكوارث مثل أفلام المطارات والكوارث الطبيعية، واشتهر منها، في السينما المصرية، “الطائرة المفقودة”، و” القطار”، و “ساعة ونص”. كما ترتبط  بأفلام الجريمة، التي ينتمى إليها فيلم “الصندوق الأسود”. وقد عرفت السينما العالمية هذا اللون من الدراما السينمائية فى مرحلة مبكرة من تاريخها، ولعل أبرزها فيلمي “الحبل”  Rope  و “النافذة الخلفية” Rear windowاللذين أخرجهما ألفريد هيتشكوك عامي ١٩٤٨، ١٩٥٤. وفيلم “١٢ رجل غاضبون” 12 Angry Men،الذى أخرجه سيدني لوميت عام 1957. وتوالت الأفلام بعد ذلك، حتى زادت جرعة التحدى ومساحة الإثارة في الألفية الثالثة بحيث وصل الأمر إلى إنتاج أفلام يقوم ببطولتها شخص واحد، وتدور أحداثها في مكان ضيق جداً مثل فيلم Hours 127 ، الذى أخرجه داني بويل عام 2010 وفيلم “مدفون” Buried، الذي أخرجه رودريجو كورتز فى العام نفسه.

غير أن التجربة أثبتت فشلها، جماهيرياً، في كثير من الأفلام المصرية، التي اعتمدت على دراما المكان الواحد، خاصة في بداياتها كما حدث مع فيلم “بين السماء والأرض” الذى أخرجه صلاح أبو سيف عام ١٩٥٩، وهو الذى كرر نفس التجربة عام ١٩٨٦  في فيلم “البداية”، ولم يحقق، أيضاً، النجاح الجماهيري المنتظر. وتأتي المفارقة عندما ينجح المخرج محمد أبو سيف، نجل صلاح أبي سيف، فى تقديم فيلم أكثر جماهيرية من هذه النوعية، وهو فيلم” نهر الخوف” عام ١٩٨٨ ، الذى دارت أحداثه كلها داخل أتوبيس نهري. ولعل سبب النجاح، النسبي، هو القصة التي كانت تدور حول واقعة اغتصاب ومحاولة الثأر، ظلماً، من مجموعة من الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالحادث سوى الصدفة البحتة، في  وقت كانت فيه حوادث الاغتصاب منتشرة في المجتمع، بالإضافة إلى وجود نجم بحجم محمود عبد العزيز، وكان في قمة نجوميته فى ذلك الوقت. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن التجربة الناجحة التي قدمها شريف عرفة عام ١٩٩٢  فى فيلم “الإرهاب والكباب”، الذى كان يتناول موضوع التطرف الديني في وقت كانت فيه ظاهرة التطرف والعنف منتشرة فى المجتمع، كما كان لوجود عادل امام بشعبيته الكاسحة سبباً مباشراً في نجاح الفيلم جماهيرياً وفنياً.

والحقيقة أن عزوف الجمهور العربي عن مشاهدة هذا اللون من الأفلام فى السينما المصرية، إنما يرجع في الغالب إلى ضعف الإنتاج من ناحية، وغياب الحبكة السينمائية الجيدة التي تتوفر فيها عناصر الجذب الجماهيري من ناحية أخرى، كما شاهدنا فى الكثير من الأفلام الأمريكية. فهذه العناصر هي التي تجعل الموضوع سينمائياً، وإلا يكون الوسيط التليفزيوني هو الأنسب لعرض هذه النوعية من الأفلام، ويؤكد كلامنا نجاحها في التليفزيون بعد فشلها فى دور العرض السينمائية.

وفى هذا السياق، يأتي فيلم “الصندوق الأسود” الذى يعتبر تحدياً للظروف الفنية التي ذكرناها من ناحية، ولتوقيت عرضه، في ظل جائحة كورونا وما استتبعها من توقف عجلة الإنتاج السينمائي وضعف الإقبال الجماهيري، من ناحية أخرى. فإلى أى مدى نجح الفيلم فى هذا التحدى؟

يفتقر الفيلم إلى عنصرين مهمين من عناصر نجاح أفلام دراما المكان الواحد، وهى سخاء الإنتاج ووجود نجم جماهيري كبير، هذا بالرغم من وجود مني زكي، إلا إن الجمهور العربي لا يحتشد أمام شباك التذاكر إلا في حالة النجوم الرجال لا النساء، حتى في حالة نادية الجندي الاستثنائية كان الإقبال الجماهيري يستند على وجود حشد كبير من النجوم الرجال في أفلامها .

وبهذا المعنى، يعتمد فيلم “الصندوق الأسود” كثيراً على القصة المثيرة وأسلوب معالجتها سينمائياً، وكذا أداء الممثلين، الذى يكون مركز الثقل في دراما المكان الواحد. والحقيقة أن كافة الممثلين أجادوا فى أدائهم بما فيهم شريف سلامة الذى لم يظهر إلا في مشهد واحد تقريباً، وأسماء جلال التي لم تظهر إلا في عدة مشاهد تمهيدية قصيرة فى بداية الأحداث. فقد نجحت مني زكى فى تجسيد دور المرأة التي تعيش وحيدة في فيلا كبيرة في منطقة نائية وتتعرض للسطو المسلح ليلاً، وذلك من خلال النظرات وتعبيرات الوجه وكذلك الأداء الحركي الذى تطلبته بعض المواقف الصعبة، لكننا لا يمكن أن نعتبره إضافة حقيقية لرصيدها السينمائي، لأنها لعبت هذا الدور من قبل وفى ظروف درامية أكثر تعقيداً.

كما نجح محمد فراج فى أداء دور الشرير البلطجي إلى حد كبير لولا بعض المبالغات، وربما لا يضيف إليه الدور كثيراً، لكنه يؤكد أنه ممثل شامل يمكن أن يجيد فى أي دور.

وكذا نجح مصطفى خاطر في أداء دور معقد جسد فيه الصراع الداخلي بين كونه شخصاً مسالماً لا يميل إلى الشر، وبين كونه أداة يستخدمها الآخرون لتنفيذ أغراضهم غير المشروعة. ويؤكد خاطر بهذا الدور أنه قادر على أداء الأدوار التراجيدية بجانب الأدوار الكوميدية على نحو ما شاهدناه فى “حرب كرموز”.

القصة مثيرة، وقد نجح محمود كامل في التحدي الذى يواجه أى مخرج يتصدى لإخراج فيلم يدور في مكان واحد وفى فترة زمنية قصيرة لا تتعدى ساعات الليل، وهو القدرة على كسر الرتابة والملل المتوقع أن يستشعره المشاهد في مثل هذه النوعية من الأفلام، من خلال الانتقالات السريعة بين المشاهد واللقطات، والتحكم فى ايقاع الأحداث من البطء إلى السرعة والعكس. ساعده في ذلك السيناريو الذى حرص على تقديم مفاجآته تدريجياً، بحيث ظل المشاهد منذ البداية وحتى النهاية مشدوداً لمعرفة مصير الشخصيات الذى تعقّد في الثلث الأخير من الفيلم وصار منذراً بصدام مروع أو حقيقة كبرى ستنكشف.

لعبت الصدفة دوراً كبيراً في دفع الأحداث نحو بلوغ ذروتها، منذ عودة مني زكي إلى فيلتها على غير المعتاد فى هذا التوقيت واكتشاف اللصوص لوجودها بالفيلا، وحتى اختبائها فى الغرفة الخاصة التي كان يحتفظ فيها الزوج بأسراره التي لا تعرفها الزوجة. وهى مصادفات موظّفة تذكرنا بفيلم “لصوص لكن ظرفاء” غير أن الطابع الكوميدي لهذا الأخير جعل الفيلم يمضى فى طريق مختلفة.

لم يستفد السيناريو من رمزية فكرة “الصندوق الأسود” التي تجعل لكل إنسان صندوقاً أسود في حياته، يحوي كل أسراره، ولا يمكن لأحد أن يطلع عليه لأنه يمثل الوجه الآخر لكل منا. غير أن السيناريو، فيما يبدو، اكتفي بالفكرة البوليسية ولم يطمح إلى تحميل الفيلم بأية أفكار ذات أبعاد فلسفية أو اجتماعية أو سياسية، عدا الإشارة السريعة إلى أن الزوج كان متورطاً فى قضية فساد.

بالرغم من أن أفلام دراما المكان الواحد تميل فى بنيتها الدرامية إلى توحيد الشخصيات من أجل مواجهة خطر مشترك يحدق بالمكان الذى يضمهم، إلا أن سفر الزوج، وبقاء الزوجة وحيدة فى الفيلا، جعل الموبايل هو وسيلتها الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي، فمن خلاله شاركها الزوج عيد ميلادها عن طريق رسالة صوتية ومرئية، وكذلك تواصلها مع الأب ومع الصديقة والسوبر ماركت، غير أن هذه الوسائل فشلت في إنقاذها عندما تعرضت للخطر، ولم تستطع أن تحسم صراعها مع اللصوص ومع زوجها إلا بمجهودها الذاتي ونضالها الشخصي من أجل الحفاظ على حياتها وحياة الجنين الذى في بطنها.

وفى كل الأحوال، يستحق فيلم “الصندوق الأسود” المشاهدة، لكن دون مجهود، لأنه لا يمثل صندوقاً أسود يحتاج إلى من يفض أسراره، فهو مكشوف للمشاهد منذ البداية، ولا يخفي شيئاً يستوجب عناء التفكير!

Visited 45 times, 1 visit(s) today