يوميات مهرجان كان الـ76: (8) الفيلم المغربي “الثلث الخالي”
أمير العمري
أبدى تييري فريمو، مدير مهرجان كان هذا العام اهتماما كبيرا بسينما العرب، فاختار عددا من أحدث الأفلام من العالم العربي أو من تلك التي أخرجها مخرجون ينتمون (ثقافياً) للمنطقة العربية، حتى لو كانت أفلامهم من الإنتاج الفرنسي والتمويل الأوروبي عموما. هذا هو على سبيل المثال حال الفيلم المغربي “عصابات” أول أفلام مخرجه كمال الأزرق الذي عرض في قسم “نظرة ما”، والفيلم الجزائري “بطل الجزائر” أو Omar La Frase (أي عمر الفراولة) وهو الفيلم العربي الوحيد الذي لم أشاهده لتعارض زمن عرضه مع فيلم سكورسيزي الجديد.
كان هناك أيضا في قسم “نظرة ما” فيلم المغربية أسماء المدير “كدب أبيض”، والفيلم السوداني “وداعا جوليا” لمحمد كردوفاني. وطبعا في المسابقة الرسمية، عرض فيلم التونسية كوثر بن هنية، “بنات أولفة”، وهو في رأيي، أضعف هذه الأفلام الروائية العربية جميعها، بل وأضعف أفلام المسابقة عموما، لكن البعض يجد فيه طرافة، وبعض الجدة والتميز. لا بأس، فقد وجدت الأفلام والأعمال الفنية عموما، لكي تثير النقاش والاختلاف. وهو ما يثري النقد شريطة أن يبتعد عن الصبغة الدعائية والتحيز “الشوفيني”!
في تظاهرة “أسبوع النقاد” عرض الفيلم الأردني الممتاز “إن شاء الله ولد” الذي كتبت عنه في المقال الماضي، وفي تظاهرة “نصف شهر المخرجين”، التي جعلوا اسمها منذ هذه الدورة “نصف شهر السينمائيين”، عرض فيلم “الثلث الخالي” كما أطلق عليه مخرجه فوزي بن سعيدي، أو Deserts حسب التسمية الأجنبية. وهو في رأيي، ورغم مشاكله، أفضل أفلام مخرجه الذي بدأ الإخراج السينمائي عام 2003 بفيلم “ألف شهر” الذي عرض في تظاهرة “نظرة ما”. و”الربع الثالث” هو سادس أفلامه الروائية الطويلة (كما أنه شارك بالتمثيل في عدد كبير من الأفلام).
ينتمي الفيلم، خصوصا نصفه الأول، إلى “سينما العبث” إن جاز التعبير، ليس بالمعنى المذهبي، فهو لا يبتعد عن البيئة التي يصورها ويتناول مشاكلها، فهو شديد الارتباط بالمغرب، طبوغرافيا وحياتيا وواقعيا، شخصياته مغربية تماما، وظروف حياتها أيضا تلتصق بالواقع الحالي، لكن معالجته لموضوعه في النصف الأول من الفيلم، تتخذ أبعادا ترتبط أكثر بمسرح العبث، يصيغها في شكل ساخر، في نوع من “الكوميديا السوداء”، التي لا يغيب عنها طوال الوقت، النقد الاجتماعي. وأما التغريب في فيلمه، تغريب المكان وتجريده، ثم تغريب الصورة سوى محاولة للتقريب، وللفت انتباه المتفرج إلى المفارقات التي نتجت عن سوء الأحوال الاقتصادية وفشل الدولة في معالجتها.
أسلوب من هذا النوع من الطبيعي أن يكتسي حينا بالمبالغات، وحينا آخر، بالكاريكاتورية في رسم معالم الشخصيات وتوظيف الإيقاع والحركة السريعة للصورة أحيانا، والقفز السريع من مكان إلى آخر، مع اللقطات القصيرة، في سياق السخرية السوداء خصوصا في مشهد الاجتماع الذي تعقده مديرة الوكالة لتهديد الموظفين والاستغناء عن بعضهم خلال الاجتماع والأمر بطرده من المكان على الفور. لكنه يعود بعد ذلك، إلى شخصياته الرئيسية، والى حواراتهما الغريبة المضحكة ومشاجراتهما حول أشياء تافهة بما يشي أنها واقعان تحت الضغوط.
لدينا هنا شخصيتان رئيسيتان: مهدي وحميد. كلاهما يعمل لدى وكالة إقراض في الدار البيضاء، لكن الواضح أنهما أهملا في أداء عملهما الذي ينحصر في تحصيل أقساط القروض، فتأمرهما مديرة الوكالة بالذهاب لكي يحصلوا من الدائنين المتأخرين مباشرة عن الأقساط المتأخرة من القروض التي حصلوا عليها. وعليهما العودة بما يمكن تحصيله بشكل مقبول وإلا سيتم طردهما من العمل.
وفي سياق كسياق أفلام الطريق، يرحل مهدي وحميد في سيارتهما العتيقة القابلة للعطل بين وقت وآخر، ويذهبان إلى قرى بعيدة في قلب الصحراء المغربية في الجنوب، لكنهما كلما بلغا عنوان أحد “الدائنين” يجدونه شخصا بائسا، فقيرا، يعاني شظف العيش، لا يملك ما يمكنه رده من المال. لكنهما يريدان الحصول على أي شيء. تارة يصادران سجادة وحيدة من منزل أحدهم، رغم مناشدته لهم بالقول انها السجادة الوحيدة التي يرقد فوقها أبناؤه، وتارة أخرى يصادران عنزة، يضعانها في السيارة من الخلف، ومرة ثالثة يستوليان من رجل على مبلغ من المال يقتسمانه.
مهدي وحميد كائنان غريبان في شكلهما ووجودهما على رقعة الصحراء: فهما يصران على ارتداء الملابس الرسمية: البذلة الزرقاء وربطة العنق، يكافحان للسير وسط الرمال، كما لو كانا كائنين قادمين من كوكب آخر الى كوكب الأرض. لكنهما ليسا من “الروبوت” أو بلا مشاعر، فلديهما أيضا، كما يكشف الفيلم، متاعبهما الحياتية الخاصة. كثير من المعاناة والشقاء الاجتماعي والشعور بالغربة والرغبة في الفرار من الواقع.
سنعرف من خلال مشاهد قصيرة، أن زوجة حميد تخلت عنه وهجرته وتركت له ابنتهما الوحيدة التي تركها بدوره في رعاية أمه، لكن الأم التي لا تجد ما تكفل لها وللبنت الحد الأدنى من العيش، تقترح على ولدها بيع البنت، أو بالأحرى، التخلي عنها لأسرة تريد أن تتبناها مقابل المال. وتقول إن هناك وسيطا عرض عليها التوسط في الأمر. أما “مهدي، فهو مرتبط بخطيبته الخاضعة لوالديها: الأب مدمن الخمر والأم المتسلطة، اللذان يطالبانه بما لا يمكنه تحقيقه بسبب حالته المالية البائسة.
الصحراء هي متاهة الحياة، رمز لفقدان الصلة بالعالم الحديث، والسيارة التي هي رمز الحياة الحديثة، شبه عاجزة، بل إنها ترفض في مرحلة ما، أن تتحرك، وعندما يوكلان أمر إصلاحها الى ميكانيكي ينزع سقفها ومقدمتها ثم يقوم بتركيبهما بشكل معاكس. الكوميديا تتفجر من خلال مثل هذه المفارقات الغريبة، ومع حس السخرية، هناك دائما حس النقد الاجتماعي: البطالة والفقر واهمال الدولة للريف والجفاف، وانهيار العلاقات الاجتماعية. ولكن هذا كله في سياق ينطلق من الواقع لكنه يصل الى السريالية في صور عديدة، أي ليس من الممكن تخيلها في الواقع. فهي “خارج الواقع” من ناحية الشكل، وهو السياق الطبيعي لتلك المفارقات التي تبدو مستحيلة.
في النصف الثاني من الفيلم يلتقي مهدي وحميد بشخص ثالث لا اسم له: سجين هارب مقيد اليدين، قبض عليه رجل يعرض أن يسلمه لهما لكي يتوليان بدورهما تسليمه للسلطات في المدينة، مقابل مبلغ من المال. ولم لا؟ فهما في أمس الحاجة للحصول على هذا المال. هذا السجين له قصة مأساوية، فهو يريد العودة الى بلدته لكي ينتقم من الرجل الذي خدعه ولفق له تهمة، ثم استولى على المرأة التي يحبها لنفسه وتزوجها رغم أنفها. وخلال الرحلة يستولي السجين على السيارة ويهرب منهما عائدا الى بلدته لتحقيق انتقامه، وبالتالي يفقدان “المكافأة”. ومن هنا يغيب البطلان مهدي وحميد عن الفيلم لمدة طويلة، ويتوه السرد ويتفرع السيناريو بعيدا عن جوهر الفيلم ويفقد الفيلم إيقاعه ويترهل.
“الصحاري” عنوان الفيلم الأجنبي، هي صحاري الأسى والجفاف والموت، هي الحياة كما أصبحت الآن مع كل ما يحدث في العالم من زحف لقيم العولمة، ثم تهميش الهامش ودفع المهمش أكثر خارج الدنيا العصرية. والنصف الأول من الفيلم يبدو طريفا، تشيع فيه الكوميديا من خلال العبث والصور السريالية والمفارقات، بينما يتجه الفيلم في النصف الثاني تدريجيا نحو التفلسف، وطرح التساؤلات حول معنى العيش، وقيمة الحياة وسط كل هذا الجفاف، جفاف العلاقات ومن ثم، جفاف الروح. ويصبح الفيلم بالتالي تحسرا على المصير الإنساني.
هناك بعد ديني في الفيلم، تساؤلات حول علاقة الانسان بالله، وفكرة التسليم بقضاء الله وقدره، وانتظار الفرج منه، من دون أن يبذل الإنسان جهدا للخلاص من حالة التردي والتدني التي يعيشها. وهناك تساؤلات عن العلاقة مع المرأة، ومع الإبنة، وعن الصداقة والحب، المدينة والهامش، العمل والمكابدة الأبدية.. وغير ذلك.
أراد فوزي بن سعيدي أن يروي القصتين في فيلم واحد، لكن بسبب اختلاف طبيعة القصتين، يعاني الفيلم من غياب وحدة الأسلوب، بين الواقعية السحرية، مع لمسات سريالية، وتغريب بديع، يخدم الفكرة في القسم الأول، إلى نوع من الإثارة وطابع أفلام الجريمة، يكتسي بمسحة من الغموض والضبابية وإن ربطها أيضا بمسألة القروض والديون، فانقسم فيلمه بالتالي، إلى فيلمين، وبدا بعض التفكك في البناء والتكرار والإطالة.
إلا أن عنصر التمثيل يبقي على اهتمام المتفرج بعمل متميز في صوره ومناخه العام: لقطات الصحراء العامة البديعة، التي تكثف ضآلة الانسان وهامشيته، فالصحراء راسخة تتحدى وجود الإنسان نفسه بصمتها الأزلي، ثم اللقطات القريبة من مهدي وحميد، التي تتداعى مع اقترابنا أكثر من التعرف على الخلفية الانسانية لهما. أي بعد أن يصبح وجودهما وجودا محسوسا إنسانيا وليس كاريكاتوريا، والموسيقى التي تضفي طابعا سحريا على الفيلم.
الفيلم تجربة جريئة دون شك، فيها من الطموح كما أن فيها من الاجتهاد في الشكل والتجريب في السرد واستخدام مفردات اللغة السينمائية (علاقة الصوت بالصورة عموما)، والاهتمام الكبير بالحوار، مع الابتعاد عن الاستطراد في الصور الفولكلورية. وقد تميز كثيرا الأداء في الفيلم من جانب ممثلي الدورين الرئيسيين: فهد بن شمسي وعبد الهادي طالب.