الملابس والألوان ومصائر الشخصيات في “أرض الخوف”

Print Friendly, PDF & Email

منار خالد

الشخصية السينمائية هي مجموعة خصائص تسير على الشاشة، تتلاحم بها التفاصيل النفسية والاجتماعية والمادي التي تظهرها متفردة دون غيرها، وفقًا لمعطياتها الظاهرية، بجانب معطياتها الداخلية.

فالمظهر جزء لا يتجزأ من التكوين والبناء الذي يساهم في فهم الشخصية وأبعادها ودوافعها، بل وعاداتها وسلوكياتها ومستواها العقلي والفكري والمزاج الشخصي.

وتعتبر الملابس داخل الأفلام عنصر مهم في إظهار هذه الأبعاد، فهي تؤدي مهامَ عدةً من إظهار أو إخفاء سماتٍ ما، كما تتعاون مع العناصر المرئية الأخرى التي تشكل لغة سينمائية خاصة بالفيلم من ديكورات ومصادر إضاءة وألوان، وذلك لضبط إيقاعه إيقاعه، وإيصال فلسفته، بل وضبط تكوين الكادر السينمائي المرئي.

يذكر جاك مانويل في كتاب الموضات والأزياء في الأفلام أن “الملابس على الشاشة هي التي تبرز البطل، وإذا أردنا حقًا أن نعتبر السينما عينًا ثاقبة تحاول حوم الإنسان وتتلصص مواقفه وحركاته وانفعالاته، فإن علينا أن نقر بأن الملابس هي أقرب شئ إلى الفرد، فهي تقترن بشكله أو بالعكس تميزه وتؤكد شخصيته.. وأنها تعد جزءًا من الديكور بوصفها مناظر حية”.

ويعتبر فيلم “أرض الخوف” الذي تم إنتاجه عام ١٩٩٩- سيناريو وإخراج داوود عبد السيد، واحد من أبرز الأفلام في السينما المصرية اهتمامًا بتفاصيل ملابس شخصية البطل أو الشخصية الرئيسية، يحيى المنقبادي/ أحمد زكي.

إنه ذلك الضابط الذي تُسند إليه مهمة الدخول في عالم كبار تجار المخدرات (أرض الخوف) ليصبح جزءًا منهم، وذلك بعد فصله من جهاز الشرطة وسجنه بتهمة الرشوة. ليرسل تقارير سرية تحتوي على تفاصيل هذا العالم، وأثناء مهمته المستمرة مدى الحياة مصرح له بالقتل والسرقة وأي شيء خارج عن القانون، وعليه حماية نفسه ليكون بالفعل تاجر مخدراتٍ وليس ضابطًا يقوم بمهمة رسمية.

يتكون الفيلم بين مجموعة من الأبعاد التأويلية، تبدأ بالغلاف الخارجي لمهمة ذلك الضابط ومحاولات الولوج إلى عالم المخدرات والقتل وأوقاته تأرجحه بين كل من الشخصيتين (الضابط والمجرم)، حتى خروجه من أرض الخوف، كما يحمل الفيلم أبعادًا أخرى أعمق نحو تلك النفس البشرية التي تتاح لها فرصة الخروج عن القانون والوصول لأبعاد نفسية من إرادة قوية نحو القتل والسرقة، وأبعاد تالية أكثر عمقًا حول ذلك المخلوق الإنساني الذي جاء إلى الأرض واختار بكامل إرادته النزول إليها في محاولة جادة منه للبحث عن خالقه أو من كلفه بمهمة النزول.

ويتضح هذا العمق في الكثير من العناصر السينمائية داخل الكادرات وبخاصة الكادر الخاص بأكل البطل للتفاحة مشيرًا لتفاحة آدم، التي تسببت في نزوله إلى الأرض، واختيار الاسم الحركي للضابط الذي سيستخدمه في مراسلة رئيسه وهو “آدم”، وأخيرًا اسم الفيلم بذاته وما يحمله من لفظة “أرض” في إشارة واضحة للنزول إلى الأرض وتجريب الحياة بكل ما تحمله من شهوات وملذات وخطايا.

يفتتح الفيلم بمشهد البطل يحيى العامل بصالة بلياردو بعد رفده من الخدمة، يرتدي قميصًا أبيض اللون وفوقه “جاكيت” أسود، تبدو على ملابسه النظافة والتناسق في الألوان، والحيادية أيضًأ، مما ينم عن حفاظه على مظهره رغم تركه للخدمة بقضية مخلفة للشرف، أي أنه مازال محتفظًا بنزاهته كما أنها ليست ملابس باهظة الثمن بل فقط نظيفة، وهي افتتاحية تعريفية توضح ما بين أقصى السواد وأقصى البياض كلونين متناقضين، كل منهما يحمل دلالة معروفة، كما أنها، إلى جانب أدائه في ذلك المشهد، توضح مدى الملل الذي يعيشه، وذلك الانقسام بين الأبيض والأسود يعادل الانقسام في شخصيته، بين حياة الضابط وحياة عامل صالة البلياردو، وما هو قادم من انقسام أعمق وأشد اختلاطًا بين اللونين.

والأمر لم يتوقف حد الشخصية، بل ينتقل لتكوين الكادرات وتوضيح مدى التناسق بين ألوان الفضاء وبين ملابس البطل، وهذا التكوين له أبعاد كثيرة طوال الفيلم بأكمله، لكنه في ذلك المشهد يظهر تناسقاً تاماً بين حوائط المكان والملابس، حيث يغلب على الكثير من ألوان فضاء المشهد والعديد من كادراته اللونان، الأبيض والأسود. وهو تمهيد لفكرة تواجد الخير والشر معًا، في محاولة لجذب انتباه العين بشكل غير واعي لثيمة الفيلم وصراعات النفس البشرية للبقاء على أي منهما.

ومن جهة أخرى يوفر المشهد الدخول إلى الفيلم بسلاسة وأريحية أكثر، كما أن البعد الدلالي ينم عن تكيف البطل مع المكان، فهو شخص راض بما وصل إليه فقد تحمل الحياة وأصبح جزءًا منها حتى يستطيع العيش. ويظهر ذلك أيضا في مونولجه الداخلي “كم تحملت تلك الحياة المملة المتقشفة، كما تحملت فترة سجني في انتظار شئ لا أعرفه، كنت أراقب العالم الذي تركته وكأنني آتٍ من عالم آخر، أعيش بدون قدرة على التعبير عن مشاعري، أراقب بلا حماس وبكل برود”.

تظهر العديد من المشاهد فيما بعد قبل دخوله لعالم أرض الخوف موضحة مدى رغبته في العودة للسلطة، حيث الانتقال من تلك الألوان المحايدة تدريجيًا والدخول إلى عالم ألوان أكثر رمادية وسواد قاتم. يظهر ذلك في جنازة زميله الضابط التي يذهب لحضورها من بعيد حيث ذهابه في ذاته دليل على تشبثه بعالمه القديم، لكنه في الوقت ذاته يظهر في تكوين يشي برغبته التخفي عن أعين الناس، لكن الكادر يصمم على أن يظهره وبجانبه شخص آخر، وهما يرتديان ملابس ذات ألوان متشابهة بين الأسود والرمادي، مع ألوان الحائط الخلفي التي تنسجم مع نفس الألوان أيضًا.

أما عن مشاهد بدايات دخوله في صفقة أرض الخوف فيبدأ في ظهوره بألوان فاتحة بعض الشئ وبخاصة اللون “البيج، أو البني الفاتح” الملائم لأولوان وديكورات المكان الذي يعقد فيه الاتفاق، حيث تتدرج ألوان الحوائط وديكورات المكان مع درجات اللون البني، تمهيدًا لذلك الانصهار الذي سيعيشه داخل ذلك العالم بعد أن يوافق على دخوله.

بدايات منفرة ونهايات منصهرة

تبدأ أولى خطوات رحلة آدم في أرض الخوف بالتعرف على الراقصة رباب/ صفوة، التي اعتبرها أولى خطوات السلم الذي سيصعده ليصنع سمعة سيئة تؤهله للدخول إلى ذلك العالم، يأتي مشهده الأول معها وهو يرتدي ملابس ذات ألوان فاتحة للغاية بين الرمادي والوردي- وهي ألوان مبهجة تحمل الأمل وربما البهجة إلا أنها غير متسقة تمامًا من حيث درجاتها مع درجات فضاء المكان وملابس الشخصية المقابلة له، حيث تغلب الألوان الحمراء على فضاء غرفة الراقصة وكذلك على بذلة الرقص الخاصة بها، مما يؤكد عدم انسجامه بعد مع ذلك العالم.

وشخصية يحيى طوال الفيلم بأكمله وفي أغلب المشاهد تحافظ على ارتداء البذلة، وغالبًا ربطة العنق، للحفاظ على تلك الهيبة. هي فقط متغيرة الألوان وفقًا لطبيعة المكان ومدى قدرته على التناغم معه، لكن ذلك التناقض بين ألوانه وألوان الراقصة، سرعان ما يتحول لتوافق تام من حيث الدرجات، وذلك بعد واقعة ضرب “بسيوني” رجل الأعمال الذي أراد لقاء الراقصة رغمًا عن يحيى، وبخطة ذكية منه يقرر أن يستغل تلك الواقعة في صالحه ليكسب ود رباب ويستعد للانتقام من بسيوني بهدوء شديد، أي تخطيط كامل للإنصهار داخل عالم أرض الخوف، ومنها يحضر مشهدا منسجم الألوان تظهر به “تشكيلة لونية” كاملة متدرجة بين الأبيض والرمادي وبخاصة في كادر يحدد وجوده داخل المستشفى بعد واقعة الضرب، حيث يرتدي هو الرمادي الفاتح المائل للأبيض، وترتدي الراقصة الأبيض، مع خلفية بيضاء أيضا. ثم هناك كادر ضيق داخل سيارة رباب، خلفيته بيضاء أيضًا وتجمعهما معًا الألوان نفسها أثناء عرض رباب الزواج منه، وذلك يعتبر تلاحما قويا داخل دائرة الألوان وتأكيدًا كليًا على الموافقة قبل أن تنطق حواريًا.

سار تدرج الألوان على ذلك النحو في العديد من المشاهد التالية، كما احتفظ البطل كثيرا، باللون الأسود القاتم وحده كاختيار قاطع بل وانصهار كامل داخل لون واحد فقط من بين الخيارين الذي افتتح بهم الفيلم وظهر ذلك بقوة في مشهد قتله لبسيوني، وفي مونولوجه الداخلي الذي يؤكد على أن قتله بسيوني لم يكن فقط خطوة من خطوات دخوله لعالم أرض الخوف، بينما ورغبة كامنة لديه.

عالم المعلم هدهد

تخلى يحيى عن بذلته في مشهد زواجه من هناء/ زينة، بعدما دخل إلى عالم المعلم هدهد/ حمدي غيث، الذي يرتدي دائمًا الجلباب والعباءة، فشخصية يحيى قادرة على التأقلم والانخراط داخل أي عالم طالما أن ذلك سيحقق مبتغاه، ومنها أن يرتدى جلبابا وهو داخل ذلك العالم لكنه سرعان ما تخلى عنه وعاد لبذلته فور خروجه منه وهوما دفع هدهد للتعليق: “أنت عامل زي اللي بيعوم وهو لابس بذلة وجزمة.

عالم فريدة

ينتقل يحيى بعد ذلك إلى عالم آخر هو عالم فريدة/ فيدرا، التي يظهرها الفيلم كمسكن له وحبه الوحيد النقي البعيد عن ذلك العالم المخيف.

في لقائه الأول معه داخل مكتبها الهندسي، المميز بديكورات ملونة ولوحات تحمل الكثير من الدوائر نحو اللانهائية لتلك العلاقة، يدخل وهو يرتدي ألوانًا غير منسجمة تمامًا مع ألوان عالمها، يجلس في عمق أريكتها بل وينعس فوقها، يظهر في ذلك التكوين وهو داخل الأريكة بُبعد بؤري عميق، داخلها فعليًا وليس جالسًا عليها فقط، ثم يأتي في صباح اليوم التالي مباشرة، وهو يرتدي “ربطة عنق” تمثل جزءًا من هذا العالم الذي غاص في داخله، (وهي تحمل نقوشًا مشابهة كثيرا لنقوش الأريكة). ويمكن إسناد ذلك لعدة تفسيرات، حيث أن ربطة العنق تمثل “تجزئة”، أي اقتطاع جزء من الكل وكأنه قرر أن يأخذ جزءًا من عالم فريدة، أو ربما يشغل جزءًا به، وفي الوقت ذاته هي تلتف حول عنقه، أي أن جزءاً من عالم فريدة سيطر عليه وبدأ يتحكم فيه، تمهيدُا لعلاقة الحب العميقة التي سيعيشها معها، وذلك مقارنة بعلاقته بهناء التي لم تتجاوز حدود البراح والجلباب.

تتجلى قراءة ربطة العنق أيضًا في علاقته بفريدا بعد تركه أرض الخوف، فهو يذهب لها دون هذه الربطة من الأساس، فلا شئ يطوق عنقه إطلاقًا ولا يحكمه، على العكس من مظهره في أغلب مشاهد الفيلم.

وهذا وفقا لجملة يحيى حين قال “تقابلنا كالغرباء تقريبا” فلا شئ يحكم هذه العلاقة، ولا أحد منهما يريد السيطرة على الآخر كما حدث مسبقًا. كما أنه لم يذهب إليها من دون “الكرافت” فقط بل بنفس اللونين اللذين بدأ منهما الفيلم أي (الأبيض والأسود) كعودة جديدة لحياة عليه أن يختار فيها مجددًا، ثم بالفعل ينتهي الفيلم وهو يرتدي لونًا فاتحًا مائلًا للأبيض إشارة إلى حالة السكون التي عاشها، والاختيار الذي ارتضاه بالابتعاد عن ذلك العالم.

Visited 1 times, 1 visit(s) today