يوميات الموسترا (1): الاختيار الإنساني في زمن الحرب
أمير العمري- فينيسيا
يقام “الموسترا” سنويا في جزيرة الليدو المطلة على “البحر الادرياتيكي” من جهة، وعلى اللاجون الفينيسي الكبير من الجهة الأخرى حيث تتوقف الحافلات المائية التي تحمل الركاب وتنقلهم بين الجزر المختلفة مثل سان ماركو ومورانو وبورانو وغيرها.
وقد استقر مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في جزيرة الليدو منذ تأسيسه عام 1932، باستثناء عامين خلال الحرب، حينما نقل إلى فينيسيا سان ماركو، خشية تعرض الجزيرة للقصف الجوي، وكان المهرجان قد نشأ من البداية، ضمن “البينالي الدولي للفنون” الذي تأسس عام 1895، وأطلق مؤسس المهرجان، الكونت فولبي عليه صفة “الموسترا”، أي المعرض الدولي للسينما، فقد كانت السينما كفن أصبحت تعامل كالفن التشكيلي. وظل اسم الموسترا قائما حتى يومنا هذا.
وصلت إلى جزيرة الليدو حيث أقيم باستمرار في كل الدورات التي أحضرها في المهرجان السينمائي الكبير منذ 37 سنة. لم تتغير الجزيرة الصغيرة كثيرا، فقد بقيت معظم فنادقها على ما كانت عليه، وعددها محدود للغاية ولم يتم التوسع بسبب ضيق مساحة الأرض، مما يجعلهم يبالغون كثيرا في رفع الأسعار خلال فترة المهرجان استغلالا للهجوم الذي يقع سنويا من جانب الصحفيين والعاملين في شركات الإنتاج والتوزيع الترويج وغير ذلك.
لكن الكثير من التحسينات والتوسعات، لحق بمنشآت المهرجان نفسها، فقد زاد عدد القاعات المزودة بشاشات وأنظمة صوت ومقاعد مريحة، ونجح المهرجان في استعادة رونق وبهاء القاعة الكبرى (صالة جراندا) الواقعة في قصر المهرجان، وإعادتها إلى ما كانت عليه عند افتتاحها عام 1937 من حيث الديكورات والألوان والتناسق والمقاعد، وهي القاعة التي تقام فيها العروض الرسمية للمهرجان وحفلا الافتتاح والختام.
وصلت هذا العام كما أفعل دائما، قبل يوم من الافتتاح أي يوم 29 أغسطس، وعادة ومنذ سنوات، يخصص المهرجان عرضا لفيلم من كلاسيكيات السينما، من الأفلام الصامتة التي تعرض مصحوبة بعزف موسيقي حي تؤديه فرقة موسيقية، في استعادة لذلك التقليد القديم الذي صاحب السينما عند نشأتها، وهو ما أعتبره حدثا كبيرا شديد الخصوصية كنت أحرص دائما على حضوره.
إلا أن المهرجان افتقد هذا العام ذلك الفيلم الصامت الكلاسيكي، وبدلا منه عرض المهرجان الفيلم الإيطالي الناطق “الزوجة الضالة The Wayward Wife الذي قامت ببطولته جينا لولوبريجيدا، وأخرجه الايطالي ماريو سولداتي عام 1953. والعرض الخاص الذي يحضره عادة 1600 من أفراد الجمهور والضيوف، خُصص لتذكر النجمة الإيطالية التي رحلت عن عالمنا في يناير من العام الجاري.
وأتذكر أنني عندما حضرت لأول مرة إلى المهرجان في عام 1986، كان المهرجان يكرم جينا لولو بريجيدا، وكانت حاضرة وشاءت الصدفة أن أجلس وراءها مباشرة في القسم العلوي من “صالة جراندا” عندما كانت الدنيا غير الدنيا، وكان مسموحا للنقاد بحضور حفل الافتتاح والجلوس أينما يشاءون ولم تكن قد فرضت القيود كما هو الآن، فقد كان عدد الصحفيين والنقاد في ذلك الوقت لا يتجاوز 400 شخص، والآن قارب الـ 4 آلاف شخص. وفي تلك المناسبة، أي في حفل افتتاح دورة 1986، عرض المهرجان فيلما تسجيليا قصيرا كان قد تم اكتشافه مؤخرا في أحد أقبية الأفلام في باريس، هو الفيلم الذي صوره وـأخرجه المخرج الأمريكي العملاق أورسون ويلز عام 1958 وأطلق عليه “بورتريه لجينا” (26 دقيقة). وقد عاد المهرجان هذا العام فعرض الفيلم نفسه في احتفالية تذكر جينا لولو بريجيدا جنيا إلى جنب مع فيلمها الروائي الطويل “الزوجة الضالة”.
أما فيلم الافتتاح فكان الفيلم الإيطالي “القبطان” Comandante وهو من إخراج إدواردو دو أنجليس، وهو مخرج غير معروف كثيرا، إلا أنه يثبت بهذا الفيلم أنه مخرج كبير، يتمتع بحساسية خاصة، وقدرة على تقديم عمل كبير بكل المقاييس: تصميم المشاهد، الصورة، الأجواء التاريخية، السيطرة على الأداء التمثيلي، الانتقال السلس بين الأزمنة، واتقان مشاهد الحركة والأكشن، لكن فيلمه لا يعتبر من أفلام الأكشن الحربية، بل هو في الحقيقة قصيدة شعر مرئية بديعة عن الاختيار الإنساني في زمن الحرب، فهو يستند إلى وقائع حقيقية أثناء الحرب العالمية الثانية في أوائل الأربعينات، عندما كانت إيطاليا الفاشية منغمسة في الحرب إلى جانب ألمانيا النازية ، ضد الحلفاء.
عنوان الفيلم يحمل معنى مزدوجا، فهو الاسم الأول للغواصة الإيطالية الشهيرة Comandante Cappellini، كما أنه يعني أيضا “القبطان”، أي قائد تلك الغواصة، الضابط البحري سلفاتور تودارو.
يروي الفيلم القصة الحقيقية لسلفاتور تودارو (يقوم بدوره بييرفرانسيسكو فابيانو)، الذي أنقذ حياة عددا من البحارة البلجيكيين بعد أن أغرق سفينتهم التجارية بعد أن أطلقت النار على الغواصة- وأصر على الاحتفاظ بهم رغم احتمال أن تتعرض غواصته التي أصبحت تبحر طافية فوق سطح الماء، لنيران الأسطول الانجليزي، وهو موقف إنساني يعلي من أخلاقيات التضامن البشري فوق مقتضيات البروتوكول العسكري.
ليس هذا فقط، بل تمكن هذا القائد صاحب الشخصية الكاريزمية التي تكتسي بقدر من النبل والغموض، من إتمام مهمته التي كلف بها حتى النهاية ثم فقد بعد ذلك حياته كما كان يعلم عن يقين وقد تنبأ بموته، وبأنه لن يعود من البحر، وهو ما نعرفه من خلال ما يكتب على الشاشة دون أن يصوره الفيلم.
وكما ذكرت، رغم أن الفيلم يدور في معظمه خلال الحرب وداخل الغواصة إلا أنه لا يعتبر فيلما حربيا بالمعنى التقليدي، فهو يركز على شخصية هذا القائد واختياره الإنساني، ويعود إلى حياته الخاصة، مع زوجته الجميلة، التي تنتظر طفلا يعرف عن يقين أنه لن يراه. وهناك لقطات تتداعى في ذاكرته لزوجته التي ترتدي قبعة عسكرية وتتخذ وضعا شبيها بما عرفناه في شخصية شارلوت رامبلنج في فيلم ليليانا كافاني الشهير “الحارس الليلي” Night Porter، ولكن المشابهة هنا ليست واضحة!
الفيلم يمكن اعتباره دراسة لشخصية القبطان “تودارو” فهو يجعله عسكريا شديد الالتزام بتقاليد العسكرية الحقة كما تعلمها، وليس مجرد “فاشي” يتبع بشكل أعمى تقاليد الفاشية وأوامر موسوليني وتعليمات قواده بضرورة إبادة الأعداء. إنه رجل يمارس “اليوجا”، ويلعب الشطرنج، ويخيط الجرح القطعي بنفسه لأحد البحارة، ويمتلك القدرة على التنبؤ عندما يأمر أحد المتطوعين في بداية الفيلم، بالعودة إلى بلدته رافضا ضمه للخدمة، وسنعرف فيما بعد أن هذا الشاب مصاب بمرض كان يمكن أن يؤدي إلى وفاته لولا أن صرفه القبطان فتلقى العلاج في المستشفى ونجا من الموت.
تودارو يمتلك القدرة على التسامي والتأمل، عالمه هو البحر، وليس ميدان السياسة على الأرض. وهو يغضب غضبا شديدا عندما يصفه أحد بحارة السفينة البلجيكية بالفاشي.
كانت السفينة التجارية البلجيكية “كابالو” تحمل شحنة من المواد العسكرية للبريطانيين رغم أن بلجيكا لم تكن قد أعلنت رسميا انضمامها للحلفاء في الحرب، وقد فتحت النيران على الغواصة الإيطالية، مما جعل تودارو يأمر بقصفها بالمدافع وإغراقها ثم يأمر بانتشال 26 بحارا بلجيكيا من الذين نجوا من الموت وكانوا سيغرقون في الماء، ويضمهم إلى غواصته الجبارة التي كانت تعتبر فخرا للبحرية الإيطالية. وقد اتخذ قراراه هذا رغم معارضة نائبه، ويظل على موقفه حتى بعد أن يتآمر اثنان من البحارة البلجيكيين ويحاولان السيطرة على الغواصة.
الموقف الإنساني النبيل للقائد، يجعل البلجيكيين الآخرين يدركون أنهم أمام شخصية غير عادية، كما تتطور العلاقة بينهم وبين أقرانهم البحارة الإيطاليين، وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها تعبيرا عن التآخي الإنساني، يقوم البلجيكيون بتعليم الايطاليين تقطيع وقلي رقائق البطاطس (التشيبس) التي لم تكن معروفة لهم في ذلك الوقت، في حين يحتفل الفيلم بالطبع بالأطعمة الإيطالية، والأغاني وتنوع اللهجات في اللغة الإيطالية، ويصور أيضا بعض النماذج الإنسانية للبحارة باعتبارهم كائنات بشرية تتمتع بالحس الإنساني أبعد ما تكون عن القتل وثقافة العنف، ومن أهم تلك الشخصيات طباخ الغواصة “جيوسيبي” الذي يعزف على آلة الأوكورديون ويغني الأغاني الإيطالية الشعبية، والغواص الذي سيلقى مصيره بعد أن ينقذ الغواصة من مصير مظلم، في أحد أكثر المشاهد شاعرية وتعبيرا عن فكرة القدر الإنساني.. فهو لن يغرق بل سيترك نفسه طواعية خارج الغواصة دون أن يقدر على العودة إليها بعد أن نجح في تخليصها من اللغم الذي كاد أن يدمرها، وترك نفسه لمصيره في أعماق المحيط في صورة تذكرنا كثيرا بصورة مماثلة من فيلم “أوديسا الفضاء” لكوبريك، لكن بدلا من متاهة الفضاء الشاسع المجهول، فالغواص يغرق هنا في أعماق المحيط.
توفرت لهذا الفيلم جميع عناصر النجاح، من التصوير البديع الذي يهتم برصد أدق التفاصيل، خصوصا الديكور الهائل للغواصة الذي صمم لها كما تعاونت البحرية الإيطالية في توفير الكثير من المعدات للفيلم، إلى الموسيقى التي تعتبر جزءا أصيلا من الفيلم، تخلق الأجواء، من الترقب إلى الاسترخاء، من المواجهة، إلى التسامي. ويبرع الممثل العملاق بييرفرانسيسكو فابيانو في أداء دور القبطان، بالتعبير بوجهه وعينيه في اللقطات القريبة، ومحاكاته الدقيقة لشخصية القبطان الممزق بين انتمائه الأرضي، إلى زوجته والتفكير في طفله المنتظر، وعلاقته بالبحارة على متن غواصته، وقدرته على التحكم في مشاعره، وتغليب الشعور الإنساني على الكراهية، فهو أقرب إلى شاعر، بل إنه يقرأ أيضا بعض أبيات الشعر.
قد يرى البعض من خارج إيطاليا، أن الفيلم يسعى لتجميل وجه إيطاليا الفاشية، واستعادة صورة إيطاليا العسكرية وإعادة ضخها في صورة إنسانية، إلا أنني لا أتفق مع هذه النظرة التي تأتي تحديدا من جانب المعسكر الذي كان مناهضا أثناء الحرب، فالفيلم يعلو بالقيم الإنسانية، مصورا مأزق الإنسان الوجودي أثناء الصراع المسلح، وكيف يعلو الحس الإنساني على القسوة والأيديولوجية، وهو جانب مجهول مغمور في الأدب وفي السينما عموما، من تلك الفترة التي شهد خلالها العالم أشرس أنواع الصراعات المسلحة.
إنه فيلم عذب بديع، وقصيدة بصرية مدهشة، عن الحب، عن التضحية، والتسامي، وعمل متكامل من جميع العناصر السينمائية، لذلك اعتبره تحفة من تحف هذه الدورة.