تجليات الغريب فى مومياء شادى عبد السلام

Print Friendly, PDF & Email

تلاحق صفة “الغريب” فيلم المومياء كالقدر.

هو فى تاريخ السينما المصرية غريب تمتد جذوره  خارج تراثها، وهو غريب فى موضوعه وارتباطه بعالم الآثار الفرعونية، غريب فى لغته الفنية البعيدة عن النموذج الواقعى وتقاليده المتأصلة فى السينما المصرية.

كذلك فإن الغريب عنصر من عناصر السرد يتردد فى مكونات الشخصية الفيلمية.على الجانب الآخر يستحضر الفيلم التاريخ بقوة بوصفه أداة من أدوات البحث عن الذات وبوصفه دعامة لهوية يسعى الفيلم لإعادة تشكيلها. يقول شادى عبد السلام : ” التاريخ عندى قطعة حية، التاريخ فى داخلى، لا أشعر أن هناك ماض بعيد و ماضى قريب، ذلك أننا نعيش على قمة آلاف أحداث صنعت هذه اللحظة الآن. [1]

هذا الجمع بين تجليات الغرابة بعناصرها الفنية والموضوعية، وقضية البحث عن الذات التى تتمثل فى تلك العودة للتاريخ القديم ينطوى على مفارقة تدعونا للتساؤل عن الدور الذى يلعبه مفهوم الغريب فى رحلة البحث عن الذات بين دهاليز التاريخ.

الواقعة التاريخية وزمن الفيلم

على خلفية قصة اكتشاف علماء الآثار لمجموعة كبيرة من مومياوات الأسرات الملكية المصرية القديمة ، يتتبع الفيلم سيرة يوم واحد فى حياة ونيس ابن شيخ قبيلة الحربات. توفى كبير القبيلة وأدرك وريثاه  سر الخبيئة الفرعونية المدفونة فى بطن الجبل و التى تعيش القبيلة على الإتجار بمحتوياتها. يبدأ الفيلم وهذه الخبيئة سرا لا يعرفه سوى شيوخ القبيلة وينتهى وخبرها قد أذيع بعد أن أبلغ ونيس “الأفندية” مفتشى الآثار بمكانها. بين البداية والنهاية حدث التحول الذى طال وعى الشخصية الرئيسية، حيث تشكل أزمة ونيس مع ذاته الصراع الرئيسى المحرك للأحداث فى الفيلم.

 الفيلم مأخوذ عن واقعة تاريخية حقيقية دونها عالم المصريات ماسبيروفي كتابه المومياوات الملكية، بدأت أحداثها فى عام 1010 قبل الميلاد، حين قرر كهنة آمون إعادة تكفين فراعنة الدولة الحديثة في توابيت جديدة  حفاظا عليها من ناهبى القبور و نقلوها في سرية إلى مقبرة مهجورة للأميرة “أتحابى”. في 1871 إكتشف أفراد عائلة عبد الرسول الذين يعيشون في صعيد مصر المقبرة  و استأنفوا مسلسل السرقات التى لم يوقفها مرور 3000 عاما فى تاريخ مصر. و بسبب خلافات دبت بين أفراد أسرة عبد الرسول، قام أحد أبنائها بإفشاء سر المقبرة وما تحتويه من كنوز، فأرشد محمد عبد الرسول  في 6  يونيو 1881 عددامن علماء الآثار ومفتشيها إلى المقبرة السرية، و تم اكتشاف خبيئة تحتوى على أربعين تابوتا تنتمى في معظمها لملوك الدولة الحديثة. واعتبر اكتشاف تلك الخبيئة هو أهم حدث أثرى في نهاية القرن التاسع عشر.[2]

حول شادى عبد السلام هذه الواقعة التاريخية إلى فيلم حديث أنتج في 1969، فخلق وحدة زمنية مركبة من عدة طبقات تاريخية تنتمى كل منها إلى زمن مختلف. نجد أولا الزمن المرجعى، زمن التاريخ الفرعونى وتحديدا عصر الأسرات من الثامنة عشر إلى الواحدة والعشرين، وهو الزمن الذى تنتمى اليه المومياوات محل تجارة أهل قبيلة الحربات. ثانيا نجد زمن القص ، ذلك الذى تدور فيه أحداث الفيلم 1881: مصر قبل عام واحد من وقوعها تحت احتلال بريطانى سيدوم 72 عاما. ثالثا زمن صناعة الفيلم  1969 ، مصر الناصرية، الدولة القومية التى هزتها هزيمة 1967. التقط  شادى عبد السلام التاريخ من خلال ثلاث فترات زمنية تفصل كل منها عن الأخرى طبقات من الزمن فوضع المشاهد أمام أنا تاريخية  تضرب بجذورها في ماضى سحيق. والفيلم يضع المشاهد أمام تساؤل هام عن العلاقة التى تربط هذه الأزمنة ببعضها البعض. يقول بيير نورا أن التاريخ “هو إعادة بناء لها طابع اشكالي ومنقوص لما لم يعد موجودا.”[3] فالتاريخ الذى يستدعيه شادى عبد السلام ليس وحدة متماسكة انما يبدو كنتف أو شظايا أو جزيئات تائهة في الزمن يسعى الفيلم من خلال رحلة البحث عن الذات التى يخوضها ونيس إلى لم شتاتها. فهل ينجح في ذلك وما الدور الذى يلعبه عنصر الغريب في تلك الرحلة؟ 

تعريف الغريب

الغريب هو وجه من وجوه الآخر، ومعناه يتحدد فى عدة مستويات. كلمة الغريب أولا لها بعد اجتماعى هو “شخص لا يعرفه أحد، قادم من خارج الجماعة،”[4] لا يشاركها سماتها (الشكلية، اللغوية، الدينية…) هذا الشخص قد لا يثير اشكاليات إذا كان سيأتى اليوم و يذهب غدا، كما يقول جورج سيميل.[5] لكن من المؤكد أن بعض المشكلات قد تظهر إذا أتى هذا الغريب ولم يذهب. مفهوم الغريب على المستوى المجازى، يقترب أيضا من فكرة “الغرابة” والتى يقول شاكر عبد الحميد “أنها فى  جوهرها خبرة خاصة تتعلق بالفقدان للاتجاه و للتوجه وللتبصر.” [6] وترتبط بها حالات من التباس المعانى التى يسيطر عليها الغموض ومن ثم الشك وانعدام الشعور بالأمان الذى قد يصل إلى حد الاحساس بالتهديد.” [7] بينما الغرابة فى الفن هى مفهوم ارتبط بتطور الفنون فى أواخر القرن التاسع عشر عامة و بظهور الفن الطليعى منذ أوائل القرن العشرين خاصة وقد جاءت “كأداة لنزع الألفة عن المألوف.” [8] على المستوى اللغوى تنتمى كلمة الغريب إلى فصيل من الألفاظ يسمى “المعينات” أى تلك الكلمات التى لا يتضح معناها إلا بإحالتها للسياق الذى تم النطق بها فيه. و السياق يحدد هوية المتكلم و المكان و الزمان الذى تقال فيه الكلمة المقصودة. مثال على ذلك كلمة ” أنا” و “هنا” و “الآن”… وكلها كلمات لا نستطيع أن نعرف ما الذى تحيل إليه بشكل دقيق إلا إذا تعرفنا على المتكلم و مكانه و زمانه. هذا هو الحال مع كلمة “الغريب” لأن معنى “الغريب” ودلالته لن يتحدد سوى بالإحالة للسياق المرجعى لمن يتلفظ بها . فالغريب مفهوم يتغير محتواه تبعا لتصور الأنا عن ذاتها. هذا الربط بين كلمة “الغريب” وهوية المتكلم يتضمن علاقة وثيقة بين مفهومى “الأنا” و “الآخر” وهو يضع خطوطا تحت منطقة التداخل بينهما و دور مساحة التداخل تلك فى تحديد كلا المفهومين.

إذا انتقلنا من هذا المستوى النظرى للمستوى التطبيقى بالنظر إلى فيلم “المومياء” فسنجد أن تلك المعانى والدلالات جميعها تتجلى فى فيلم شادى عبد السلام وكلها تساهم فى تشكيل معنى الغريب  تردداته. 

أهل الجبل : ثنائية القبيلة /الفرد

قبيلة الحربات: هم ” بعض الرعاة الذين يرجع تاريخهم إلى خمسة قرون… هم لا يتركون الجبل أبدا.. ولا علاقة لهم بأهل الوادى.” هكذا يعرف قائد الحرس أهل الجبل لعالم الآثار أحمد كمال،  يعرفهم بعملهم وتاريخهم وعلاقتهم العضوية بالمكان : الجبل. يعرفهم كذلك بعلاقتهم بالآخر التى تتسم بالانغلاق على الذات: “لا علاقة لهم بأهل الوادى”. لكن هذا التعريف الذى يأتى على لسان واحد من “الغرباء” لا يشي سوى بجزء من حقيقة هؤلاء، حيث أن سبيل عيش قبيلة الحربات هو التجارة وليس الرعى، و بالتحديد تجارة الآثار. هذه المعلومة الغائبة عن الشخصية يسمح للمشاهد بمعرفتها فى مشهد كشف “سر الخبيئة” حين يطلع العم أولاد أخيه المتوفى على مصدر عيشهم. وإذا كان الانغلاق هو السمة المميزة لأهل الجبل فى علاقتهم بالآخر فان العلاقات الداخلية بين أفراد القبيلة مبنية على مفهوم أبوى كهنوتى لا مكان فيه للفردية و لا للتمرد. (جزاء أخو ونيس القتل جراء معارضته لأعمامه ورفضه تجارتهم.)

أما النظام السردى للشخصيات  فيتشكل من خلال ثنائيتين تتشابكان : ثنائية الشيوخ/ الشباب و ثنائية القبيلة / الفرد. سر الخبيئة لا يعرفه سوى كبار قبيلة الحربات وخروج هذا السر من نطاق جماعتهم إلى نطاق الفرد متمثلا فى ونيس وأخيه الممثلين أيضا لجيل جديد هو فى النهاية الذى أزاح الكهنوتية و كشف السر و قضى على التجارة و بالتالى أصاب وجود القبيلة فى مقتل.  وإذا كانت الشخصية السردية تتحدد سماتها بالهدف الذى تسعى اليه، فيمكننا القول أن هدف شيوخ القبيلة هو الحفاظ على سر الخبيئة لأنه هو الضمان الوحيد لاستمرار الوجود وهو الهدف الذى يدمره الشاب ونيس  بمفرده.

إن أول ما يستوقفنا فى شخصية “ونيس” هو اسمها، ومصدره “الأنس” بمعنى الألفة، بالتضاد مع الوحشة و الغربة. بالنسبة للمشاهد الأول لهذا الفيلم، يحتوى اختيار ممثل غير معروف – أحمد مرعى –  لتقديم هذه الشخصية على معانى عدة: أولا هو يجعل من الشخصية وعاء فارغا من أى دلالات كان من الممكن أن ترتبط بأدوار سابقة قام بها الممثل، وبالتالي فإن وجهه “الغريب” – بمعنى غير المعروف – يصب فى تشكيل علاقة المشاهد بالشخصية. ثانيا إن هذا التجهيل يتعارض مع معنى الاسم “ونيس” و الذى يحيل كما سبق إلى التآلف و المؤانسة. و فى هذا التعارض ما يقدم للشخصية و يعلن عن  التناقضات التى تتصارع بداخلها كما سوف نرى.

لقطة  من فيلم “المومياء”

وونيس هو الابن الأصغر ووريث كبير القبيلة الذى يبدأ الفيلم بوفاته. تميزه حداثة سنه التى تمنحه صفة “غلام” يصفه بها عمه. ونيس شخصية وحيدة ،مهمومة، قليلة الكلام، كثيرة الحركة و التفقد و التفكر. هو الوحيد من أبناء قبيلته الذى يدخل فى علاقات مع الغرباء وهى العلاقات التى يستنكرها أولاد عمومته : “و هل من الحكمة أن يثق زعيمنا بالغرباء؟” يرد ونيس : “لست فى حاجة إلى كلماتكم لأعرف من أنا.”  وهو الرد الذى يؤكد العلاقة بين قضية الغريب وقضية الهوية.  وبقدر ما يبدو ونيس مشمئزا من أهل قبيلته رافضا ل “عيش الضباع” الذين يقتسمون موتاهم،  بقدرما يبدو مشدودا للغريب بتنوعاته (قريبة مراد الجميلة – الفلاح ابن الوادى – الأفندية ممثلين فى أحمد كمال.)

على المستوى الجمالى للصورة تنعكس غرائبية ما على علاقة الشخصية بالمكان حيث دائما ما تظهر فى كادراتمجردة من أى بهرجه أو أى إيحاء بالواقع سواء فى الأماكن الداخلية حيث الحجرات المنحوتة فى الجبل و التى تخلو من أى ديكور سوى الحيطان و الأسقف و الإضاءات البنية التى تعكس على وجه الشخصية انكسارات ضوء الشمس، أو فى الأماكن الخارجية حيث يظهر ونيس فى الغالب وحيدا معزولا بين الكثبان الرملية أو وسط مساحات رملية شاسعة أو ضئيل تحت أقدام التماثيل الضخمة.

تدور أحداث الفيلم على مدار يوم واحد لكنه فى مسيرة الشخصية يوازى عمرا. لا يعرف المشاهد شيئا عن تاريخ ونيس قبل وفاة الأب. لكن الوفاة والاطلاع على سر القبيلة ينقلان الشخصية من مرحلة الصبا إلى مرحلة جديدة : “أطلعتني على مصير مظلم.. صحراء على أن أسيرها وحدى”  يقول لأخيه الأكبر. يفتح الأخ الباب الأول لونيس على طريق الادراك والوعى، و يمثل انكشاف السر لحظة غير مسبوقة فى حياته فيقود تطور وعى الشخصية وفعلها منذ تلك اللحظة الحدث الرئيسى فى الفيلم. فمسار السرد هو مسار الادراك (ادراك سر الخبيئة والوعى بالخطيئة التى تلوث أساس الوجود) ومن ثم التحول (الرغبة فى الخلاص والتطهر بإبلاغ الأفندية (الغرباء) عن مكان الخبيئة). وهنا نعود لطرح السؤال الرئيسى: ما الدور الذى يلعبه الغريب بأشكاله وعناصره فى عملية التحول هذه وكيف يتشكل الجدل بين الأنا والآخر فى وعى ونيس ؟

دوائر من الغرباء

الغريب كما سبق و ذكرنا يتحدد بهوية الأنا و بمفهومه عن الآخر. من وجهة نظر هذه القبيلة التى تحتمى بالجبل وتتشبث بأسرارها و تفرض العزلة على نفسها ، الغرباء هم كل المحيطين. إذا أردنا تصنيف الشخصيات وإدراجها فى أنساق سنجد أن هؤلاء الغرباء ينتظمون فى دوائر متداخلة تزداد اتساعا كلما ابتعدنا عن المركز. الدائرة الأولى من الغرباء وهى الأكثر قربا من القبيلة تضم أيوب تاجر الآثار ومراد تابع أيوب القواد والفتيات اللاتى تصاحبن مراد.  يقر مراد  بغربته عن المكان وأهله فيقول عن نفسه مشيرا إلى أيوب: ” جاء بى إلى هنا وحيدا وغريبا كالكلب.”  هم غرباء عن قبيلة الحربات حتى لو كان التعامل بين الأفراد يتم بشكل يومى. فبينهم وبين أهل الجبل علاقات محدودة مبنية على المصلحة المشتركة، لكن هذه العلاقات مشوبة بالتوجس و تحيط بها مجموعة من القيم والمعانى السلبية (البيع و التجارة  : بيع الموتى والتجارة فى الأعراض…الخ) يصف ونيس هذه التعاملات بالوضاعة : “أنا هنا معكم .. أخدمكم” يقول مراد، فيرد ونيس : “خدمة وضيعة – ربما لكن أيوب هو الذى علمنى هكذا بدأ أيوب هنا.” لا يمنع ذلك ونيس من استخدام مراد فى التواصل مع الأفندية الذين يقعون فى الدائرة الأكثر بعدا والتى لا يجرؤ ونيس على الاقتراب منها بدون وسطاء، حيث ينقل مراد لونيس سبب مجيئ الأفندية المفاجئ وفى غير التوقيت السنوى المعتاد وهو التساؤل الذى يؤرقه.

الدائرة الثانية من الغرباء يمثلها الفلاح القادم من الوادى ويظهر فى الفيلم باسم “الغريب” فيصبح نعته اسما له. ينضم إليه كذلك فى تلك الدائرة أولئك الرجال المنحوتة تماثيلهم حيث دائما ما يكون ظهوره مقترنا بلقطات للآثار القديمة داخل المعابد بعواميدها و تماثيلها الضخمة. تميز الغريب ملابسه البيضاء فيرتسم تعارضا بصريا بينه وبينه أهل الجبل لابسى السواد. وتميزه أيضا حداثة سنه التى تقربه من ونيس و كذلك تشابها فى الملامح بينهما يبدو مقصودا من قبل المخرج. هذا الفلاح القادم من الوادى الأخضر يأتى باحثا عن عمل ولكن ينتهى به الأمر جريحا، مطرودا ومهددا من قبل أهل الجبل الرافضين لوجوده. الوحيد الذى يقيم علاقة مع هذا الفلاح هو ونيس. بالإضافة إلى ذلك هو يشكل همزة وصل ثانية  بين ونيس والأفندية، حيث يسأله ونيس نفس السؤال الذى يؤرقه ويبحث عن إجابته: “ماذا يفعل هؤلاء الأفندية عند سفح الجبل؟” فيردد الغريب على مسامع ونيس ما يقوله الأفندية عن الآثار القديمة.

يظهر الفلاح الغريب فى الجزء الثانى من الفيلم فى مقطعين من المقاطع الهامة، وفى كل مرة يشاركه الظهور ونيس و يدور حوارا بينهما محوره هؤلاء الرجال “من شيدوا كل هذه  القصور و التصاوير” وأطلال تماثيلهم، و يكون الحوار أداة من أدوات تشكيل وعى ونيس.  “لا وجوه لهم” يقول الفلاح عنهم. الوجه هو موضع الهوية ومن لا وجه له لا اسم له، هكذا تبدو تماثيل الفراعنة للغريب تثير الرهبة والاستغراب وتخيفه بأحجامها وأجزائها المتناثرة.  “أليس فى الوادى عندكم مثل هؤﻻء ؟” يسأله ونيس الذى عاش بين تلك التماثيل و لعب واختبأ مع أخيه بينها. “لا” يرد الغريب. تتماهى الكاميرا مع وجهة نظره فنرى فى لقطات كبيرة وزاويا غير عادية وفى تكوينات مدهشة تستخدم التضاد بين الكتل والفراغ، مشهد تلك الوجوه والأكف والأجسام الضخمة، المبتورة، الملقاة على الرمال. يتبع ونيس الغريب فى تفقده المتعجب للمكان، فتبدأ تساؤلاته تحيل المعتاد لمدهش تزيل اعتيادية تلك الاحجار، فالكف الحجرية تصير “كفا تقبض على مصير صاحبها” وحكايات كل من شيدوا تلك المعابد، وكأن نظرة الآخر الذى لا ينتمى للمكان تدعو ونيس لإعادة النظر فى مسلماته. هذا ما يتأكد فى اللقاء الثانى بين ونيس والغريب. الجبل بما يحويه من جثث جافة لموتى قدماء لا أحد يعرف لهم آباء ولا أبناء، تتحول هويته بعد أن يجيب الغريب على أسئلة ونيس حول ما يبحث عنه الأفندية فى الجبل.  تدب حياة فى تلك الأحجار أمام أعين ونيس المعذب بأسئلة لا يجد لها ردودا. ينظر  للنقوش المبهمة على جدران المعبد العالية  فتفصح عن وجود جديد لها لا يتحمل ونيس غرابته. 

يقولون أنهم يبحثون

عن قوم نعيش اليوم على

أطﻼلهم .. يسمونهم الجدود  

ويقرءون على الحجر كتاباتهم

وأسماءهم .. ويهتمون بهم

ويحافظون على …

ونيس : كفى .. إنهم موتى ..

موتى ﻻ..  أحد يعرف لهم أباء أو

أبناء . كفى ماقلت جعلت اﻷحجار  تبدو حية أمامى[9]

لقطة من فيلم “الفلاح الفصيح”

نجد أنفسنا أمام تلك المفارقة: هذا الفلاح الغريب الذى ينقل أخبار الأفندية الغرباء يفصح لونيس عن حقيقة العلاقة بينه وبين من كان يظنهم تماثيلا وآثارا لأناس غرباء، فيتضح له أنهم أجداده. يلعب الغريب إذا دور الوسيط بين ونيس و جذوره.

الدائرة الثالثة من الغرباء وهى الأكثر بعدا عن المركز الذى يمثله أهل الجبل ، تضم الأفندية ومن يرتبطون بهم من عمال وحراس ومن ورائهم قوى بعيدة موجوده فى القاهرة. بالنسبة لأهل الجبل الأفندية هم أبعد الغرباء و أخطرهم. على مستوى السرد الفيلمى تظهر هذه المجموعة  مرة فى أول الفيلم فى اجتماع لنخبة من علماء الآثار داخل حجرة مغلقة مظلمة، ثم مرتين –  شأنها فى ذلك شأن الفلاح القادم من الوادى – منذ أن ينتقل السرد إلى أرض طيبة. عند الظهور الأول نرى ماسبيرو عالم المصريات الفرنسى  يترأس اجتماعا يضم مجموعة من علماء الآثار فى القاهرة. تكرس الخصائص البصرية لهذا المشهد غرابة المكان. فهذا المكان الداخلى المغلق لا تظهر له معالم حيث يغلفه الظلام إلا من مصدر إضاءة يتوسط مائدة الاجتماعات التى نرى من خلفها تابوتا ضخما. يلتف الحضور حول المائدة و يظهرون بأزيائهم الغريبة: سترات سوداء وقمصان بيضاء وطرابيش حمراء وكأنه زى موحد. على مستوى الصوت، يقرأ ماسبيرو مقطع من كتاب الموتى بينما تتردد فى الخلفية موسيقى هارمونية خافتة تزيد من شعور المشاهد بالتوجس.مأما

على مستوى الشخصيات يتشكل توازى بين عالم المصريات الفرنسى ماسبيرو وأحمد أفندى كمال الأثرى المصرى فى الحوار الدائر بينهما. “الغريب” بالمعنى القومى هو ماسبيرو الفرنسى، لكن الهوية الأجنبية لماسبيرو تمر دون أن يشعر بها المشاهد لعدة أسباب. أولا على الجانب البصرى لا يوجد اختلاف جوهرى فى الشكل أو الملامح أو الملبس يرسم المعارضة بين الأنا والآخر الأجنبي فى الشخصيات التى يراها المشاهد….  ثانيا ومن حيث الحوار يحيد استخدام اللغة العربية الفصحى من قبل جميع المتحدثين الفروق اللغوية المرتبطة بمفهوم القومية.  ثالثا توجد وحدة للهدف لدى كل أعضاء هذه المجموعة من العلماء (اكتشاف المقابر الفرعونية الموجودة بالدير البحرى ومنع الإتجار بها) ، هو هدف يتجاوز اختلاف القوميات بإعلائه لمنظومة من القيم الثقافية الانسانية. هذا ما يؤكده ماسبيرو فى حواره عندما يستخدم نون الجماعة فى قوله : “لا يملك متحفنا المصرى للأسف سوى هذه الصورة”. فيبدو وكأن الانتماء الأول للموجودين على اختلاف أجناسهم هو للتاريخ كقيمة مطلقة و لمفهوم الأثر بكل ما له من قدسية.

عندما ينتقل الحدث إلى أرض طيبة، يظهر الأفندية كغرباء  من وجهة نظر أهل الجبل. “الأفندية المتكبرون” يقول ابن العم ، “الغرباء الاثرياء” يردد مراد.”إنهم ﻻ يبالون بنا .. وﻻ يحترمون القانون” يقول قائد الحرس لأحمد كمال. زى عسكرى أبيض افرنجي ، طرابيش حمراء: هم ممثلو الدولة يمتلكون القوة: الحرس ، البواخر ، الخيول ، حرية الحركة والتنقل تحت حماية السلاح وبسلطة القانون، بينما يتوارى أهل الجبل وراء حيطانهم. يمتلك الأفندية العلم : ما يراه ونيس جبلا ترتفع قمته وتحيط به كثبانا فتزيد من شعوره بالعجز يراه الأفندية رسما بيانيا على خريطة للمنطقة يشيرون على مواضع فيها بعصيهم الرفيعة. هم يفكون طلاسم الكتابة على المعابد ويقرأون رسالة كهنة آمون على ظهور التوابيت الموجهة لمن سيأتى فى زمن مجهول. هؤلاء الأفندية يعرفون أيضا تاريخ الأسرات و يسردونه فى حوار  شبه تعليمى يأتى على لسان قائد الحرس:

 “الثامنة عشرة والتاسعة عشرة  والعشرين  فقط .. وكلهم نهبوا منذ ثﻼثة  آﻻف سنة عندما إنهارتاﻹمبراطورية الفرعونية  . قائد الحرس : وكانوا أعظم  الفراعنة .. أى مصير لقيه هؤﻻء جميعاً.. أحمس محرر وادى النيل .. وإبنه أمنحتب وكل اﻷسرات  التى تلتها .. أمر عليهم فأجد مقابرهم خالية ومظلمة .. ككهوف فى بطن الجبل .” [10] و يرد  أحمد كمال : “كجراح غائرة فى بطن الجبل وهناك على طول الوادى.” هذه المعرفة التاريخية التى يستعرضها عالم الآثار و قائد الحرس هى التى تسلمهما للتساؤل الوجودى عن الأصول و المصير : “مقابر خالية و مظلمة كجروح فى بطن الجبل” : يربطون ما بين الأثر القديم و الكينونة.

الأنا والآخر

“عشت لكى أرى إبن سليم يتكلم لغة اﻷفندية” يقول العم عندما يعلن الإبن رفضه لتجارة الآباء. أول شرخ فى العلاقة يحدث بين ونيس و أخيه من جهة و كبار القبيلة من جهة أخرى يقترن بهذا الآخر الغريب الذى يشير اليه العم ب ” لغة الافندية”. يتسبب رفض الأخوان لتجارة الآباء  فى حدوث ثغرة فى الحدود بين الأنا والآخر فيصبح الغريب أقرب لونيس من أهل قبيلته لسببين الأول أخلاقى والثانى معرفى. الجانب الأخلاقى والقانونى يرتبط بقضية سرقة الآثار واستغلال جثث الموتى، أما الصراع المعرفى فهو يطرح قضية فكرية: ” هؤﻻء الذين تسميهم الموتى ليسوا إﻻ رماداًأو خشباًمن آﻻف السنين.”[11]  يقول العم.  هناك إذا من يجدون جذورا حية وراء بقايا التاريخ ، يبحثون عن الزمن فى جوف المكان، و عن الانسان فى قلب الزمن وهناك من يرون فى تلك البقايا رمادا  خشبا أى موتا متراكما قيمته الوحيدة هى قيمة سوقية: “عيناً ميتة بها ذهب يطعم مائة فم” يقول العم حيث تقبع الحياة بالنسبة له فى موضع آخر، موضع العيش الذى يدفعه ومعه كبار القبيلة للتغاضى عن المشكلة الأخلاقية فى التجارة الممنوعة. لكن هذا التغاضى لم يكن ممكنا لو لم يستند على منظومة قيمية لا تعترف بالتاريخ كعنصر من عناصر الهوية. لا يقدم الفيلم أهل الجبل الذين عاشوا على نهب القبور بوصفهم مجموعة من اللصوص بل بوصفهم أفراد قبيلة ينتمون إلى عالم له خصوصيته الثقافية وقيمه. فالجلال الذى قدمت به تلك الشخصيات والمهابة التى تكللها تتنافى مع فكرة كونهم مجرد لصوص آثار. اللص الحقيقى هو أيوب التاجر ولذى يؤكد الحوار مرارا على أنه يستغل أهل القبيلة كما يأتى على لسان مراد، يستغل حاجتهم  لمصادر الرزق كى يروج لتجارة ضخمة  تنتشر في كل أسواق العالم كما يقول ماسبيرو في بداية الفيلم.

 استطاع ونيس الافلات من المنظومة المغلقة لقيم القبيلة واختراقها بسبب تمسكه بالمنظور الأخلاقى في قضية استغلال المومياوات مما جعل الباب مفتوحا بدرجة ما للتواصل مع الغرباء والتعرف على منظورهم المعرفى.  طرح هذا الجانب المعرفىتساؤلات وجودية لدى ونيس عن الجذور والأجداد، تساؤلات أصبحت هى محرك الشخصية والدافع لتحولها. يقول ونيس لمراد قبل أن يتوجه للقاء أحمد كمال  والأسى يملؤه :” هل رأيت الموتى يا مراد؟” و فى حديثه مع فلاح الوادى يقول “آﻻمى هى كل العمرالذى عشته .. آﻻم أعجز عن فهمها”. هل هذه الآلام هى ما دفع ونيس للكشف عن سر الخبيئة للأفندية ومنحهم ثقته؟ هل هو ادراكه لهوية الموتى وللماضى الذى هو جزء من الأنا؟ أم رغبته فى التطهر من تاريخ ملوث أي ان كانت النتائج؟ أم هو خوفه على حياته التى أصبحت مهددة بعد مقتل أخيه؟ لا يجيب الفيلم بشكل واضح عن هذه التساؤلات بل يترك المشاهد أمام احتمالات عدة.

شادي عبد السلام

فى الواقع لا يمكننا فهم فعل ونيس و كشفه سر الخبيئة للأفندية الغرباء إلا فى من خلال إدراج هذا الفعل كحلقة من حلقات “العمر المجدول بالآلام المجهولة” التى يحدثنا عنها ونيس. لقد رأت العديد من القراءات الأيديولوجية للفيلم درسا فى انتصار العلم على الجهل والحديث على القديم وجيل الشباب على جيل الآباء. واجتمعت تلك القراءات على أن كشف سر الخبيئة والقطيعة مع ماضى فاسد بحثا عن تاريخ اندثر قادر على بعث الحاضر ومنح الأمل فى مستقبل أفضل. واعتمدت على الثلاثى ونيس والفلاح وعالم الآثار كنواة لجيل جديد مختلف يتطلع إلى مستقبل يتم فيه التخلص من ميراث الجهل اللصيق بجيل الآباء والالتفات لعصر جديد يعلى من قيم المعرفة ويستلهم تاريخ الأجداد القدماء فى نهضة حديثة. وبهذا تصبح المعرفة التاريخية هى الخيط الرفيع المشترك الذى يلتقى على جانبيه الأنا والآخر الغريب ، ونيس المتمرد على قيم القبيلة الباحث عن ذاته والأفندية الباحثين عن آثار الأسرات المدفونة. و يشكل اللقاء أفقا مفتوحا على امكانية تقارب بين الأنا والآخر الغريب يعيد تشكيل الهويات.

إلا أن الأمر قد لا يبدو بهذه البساطة.  فوجود بعض العلامات فى النسيج الفيلمى تدعونا للتفكير فى اتجاه مغاير وتجعلنا نضع عدة علامات استفهام على تلك القراءة. فالثلاثى ونيس الثائر وفلاح الوادى و الأفندى عالم الآثار أحمد كمال الذين رأى فيهم البعض رمزا لجيل جديد قادر على تشكيل هوية جديدة يمكنها تغيير مسار التاريخ والانتقال للمستقبل هو ثلاثى لا يجتمع فعليا على مستوى الدراما. فهذه الشخصيات لا تلتقى جميعها أبدا فى الفيلم بل يلتقى ونيس بكل منهما على حدة وسريعا ما يفترقون . لا يشير الفيلم فى أى لحظة لمستقبل ما يضمهم، بل على العكس من ذلك.يأتى الفلاح  إلى حيز ونيس ويتجول معه فى أمان بين الآثار فى ظهوره الأول، لكنه فى الظهور الثانى يكون مذعورا مجروحا ومطاردا يسعى للهروب ثم يختفى. أما ونيس فعندما يقرر الذهاب إلى الأفندية ويعبر المكان ليلا باتجاه الحيز الخاص بهم ، تلك  السفينة الأنيقة المنيرة ذات الجدران البيضاء – أرض الأفندية – يصبح غريبا. ونيس ابن سليم كبير القبيلة  يصير “رجلا فى ثياب مهلهلة” كما يقول الحارس، يتخبط فى الظلام ويتعثر فى خطواته محبوس فى دائرة من الضوء تنبعث من المصباح الكهربائى المسلط عليه. هو شخص غريب فى أرض غريبة يسعى للحديث مع غرباء. وفى نهاية الفيلم نرى ونيس يجرى جنوبا عكس اتجاه السفينة التى تبحر إلى الشمال يخفى وجهه بين يديه ممزق الملابس يفر من مصيره. فتبدو اللحظات التى جمعت هذه الشخصيات الثلاث وأذابت غربتها عن بعضها البعض أشبه بصدفة قدرية، يعود بعدها كل منهم غريبا عن الآخر. أما المشهد الأخير الذى يتم فيه نقل التوابيت بتكويناته وألوانه وموسيقاه والحزن المخيم فهو مشهد جنائزى بامتياز يتعارض فى معناه مع الجملة الأخيرة من كتاب الموتى التى تقول” إنهض فلن تفنى لقد نوديت بإسمك لقد بعثت .”

الغريب بين قضية الهوية/  قضية العيش

ترسم هذه النهاية ذات المعانى الملتبسة مقابلة بين مفهومين للمومياء: الأول يصبح فيها للأثر الذى تمثله المومياء قدسية تاريخية والثاني ينطلق من رؤية براجماتية نفعية. الأول مرتبط بأيديولوجيات “نخبوية” والثاني باحتياجات اجتماعية. هل نستطيع أن نفصل بين عيش هذه القبيلة من “تجارة  الموتى” وتاريخ طويل من بيع محتويات المقابر تشير إليه شخصيات الفيلم في حوارها؟ يقول العم : “كانت هذه طريقتنا فى الحياة،  كانت وستظل طريقتنا فى الحياة.” إن التلازم التاريخى بين دفن المصريين القدماء لموتاهم ومعهم كنوزهم وفقا لدياناتهم وبين السرقات المنتظمة لهذه المقابر على مر العصور منذ الدولة القديمة يدعونا لقراءة اجتماعية لهذه السرقات المرتبطة بتاريخ طويل من غياب العدالة وهو التاريخ الذى يستدعيه شادى عبد السلام فى فيلمه التالى “شكاوى الفلاح الفصيح”. تفضح بردية شكاوى الفلاح الفصيح المكتوبة  فى ما بين عهدي الأسرتين التاسعة و العاشرة عن الظلم الاجتماعى الذى يمارسه الحكام على المحكومين والذى تعبر عنه تلك السطور حيث يوجه الفلاح نقدا لاذعا لممثل السلطة : “الإنسان يضع ثقته فيك  لكنك أصبحت معتديا” [12]،  “إنك تملك حقلك فى الريف  ومكافأتك فى ضياع الملك  وخبزك فى المخبز  والحكام يعطونك  مع ذلك تغتصب.”[13]

 لا يختلف في واقع الأمر نقل المومياوات من مخبئها في الدير البحرى حيث تعيش قبيلة الحربات إلى المتحف المصرى وهو الحدث الكبير الذى ينتهى به فيلم المومياء ، عن نقلها من مقابرها الأصلية إلى مخبئها في بطن الجبل وهى المهمة التى قام بها كهنة آمون. بين الحالين تشابها كبيرا، فالأمر يتعلق أولا بنفس مومياوات الأسرات الملكية التى تم نقلها من مكان لمكان على مر الأزمنة. ثانيا، إن من يقوم بالنقل هم ممثلو السلطة سواء كانت دينية في مصر القديمة (كهنة آمون) أم سياسية في مصر الحديثة (ممثلو الدولة من العلماء والعسكر). وفي الحالتين يتم النقل لنفس الأسباب : الحفاظ علي المومياوات من سارقى القبور. أما هذه الرغبة في الحفاظ عليها فهى نابعة من مجموعة من القيم التى تضفى علي المومياء قدسية (دينية في مصر القديمة، تاريخية في مصر الحديثة). التشابه الأخير يتعلق بالسارق فهو لم يتوقف ولم يتغير : المحتاجون من أبناء هذا الشعب الذين لا يعبؤون بالمقدسات أو الأيديولوجيات ولا بالسلطات التى تمثلها والتى استمرت في تجاهلهم على مر التاريخ تارة باسم الدين و تارة باسم الهوية والتاريخ.  

لقد توقف الكثير من الدارسين عند تلك العلاقة  بين تأسيس الدولة القومية الحديثة ومفهوم الهوية، ومن هنا كانت القراءات التى رأت فى الفيلم انتصارا للأفندية ممثلى الدولة على معسكر أهل القبيلة والتى ربطت بين استخراج الخبيئة وإعادة اكتشاف أنا قومية تستلهم ذاتها من ميراثها الفرعونى.[14] يرى الناقد إليوت كولا النزعة الفرعونية في سينما شادى بمثابة تعبير عن أنا قومية حديثة بزغت في النصف الأول من القرن العشرين وكان فيلم المومياء آخر تردداتها : “شخصيات مصر القديمة كانت سلبية في التقليد الأدبى الأقدم زمنا،[القرن التاسع عشر]  الذى ساوى الفرعون بالحكم الاستبدادى و الغزو و تدنيس المقدسات… وبينما انتهى القرن التاسع عشر بازدواجية حقيقية عن مكانة الآثار القديمة في الثقافة المصرية، إلا أنه بحلول العقد الثالث من القرن العشرين، وبخاصة بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، تقبل المثقفون العلمانيون رموزا من مصر القديمة وكانت فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين هى نقطة الذروة للحركات السياسية والأدبية التى استخلصت الإلهام من الماضى العتيق، في مسرح توفيق الحكيم، وشعر أحمد شوقى، وآخرين، وفي روايات الحكيم ونجيب محفوظ وآخرين وفي تماثيل مختار، وأخيرا في مقالات ومذكرات لطفى السيد، ومحمد حسين هيكل… و في خلال هذه الفترة انبثقت ثقافة … تجد فيها دولة مصر العصرية أصولها في رموز مصر القديمة.”[15]

 لا يبدو من الصعب أن نصل إلى نتيجة مفادها أن هذه العلاقة التى أراد الفيلم أن يعقدها بين اعادة الوعى بالتاريخ الفرعونى وقيام الدولة القومية الحديثة لم تنجح لا في الواقع ولا في الفن. ففشل مشروع الدولة القومية الحديثة الذى سعى المصريون إلى تحقيقه منذ دولة محمد على يوحى الينا بأن هذا الغريب في الفيلم سواء كان  ماسبيرو أو أحمد أفندى كمال أوغيرهم من ممثلى الدولة قد أحاطوا الأثر وما يمثله من قيم فكرية بهالة من القدسية التى تجاهلت الإشكاليات الحقيقية المتسببة في تواصل حلقات هذا التاريخ الطويل من السرقات.  انتفت صفة الغريب فى الفيلم عن الأجنبى (ماسبيرو)، الذى يشترك مع الأنا التى يمثلها أحمد كمال (مصر الشابة المتعلمة) فى تلك الهوية المعرفية ذات الصبغة الانسانية ، بينما فشل اللقاء الذى جمعهم بونيس الذى يعيش مع أحمد كمال على نفس الأرض.  

ومن هنا تبدو الجماعة المصرية التى تضم أهل القبيلة من جهة والأفندية من جهة أخرى كيانا مأزوما تضرب وحدته موازين قوى مختلة وصراعات طبقية واجتماعية وثقافية توطن الغريب فى قلب الذات : فالمال والسلطة، والعلم، من يملكهم ومن لا يملكهم، يشكلون عناصر أساسية فى التصورات المتبادلة بين الأنا والآخر. وما المعرفة التاريخية وانعكاسها على قضية الهوية سوى عنصر من عناصر تلك المواجهة. من منظور أهل الجبل، الغرباء هم من يملكون كل ذلك. ومن وجهة نظر الأفندية، الغرباء هم من لا يشاركونهم فى كل هذا. التقى المنظوران فى المساحة التى وفرها تمرد ونيس وانفتاحه على الآخر ، فكانت لحظة التحول فى وعى الشخصية التى ساهم فيها دون شك ذلك الجدل بين الأنا والآخر.

لكن ما الذى أسفر عنه هذا اللقاء؟ هل هو بعث جديد مبنى على تعرف ونيس على أجداده القدماء وانقاذه تاريخهم؟ يقول ِشادى عبد السلام “فى وقت ما لابد أن يعود الشيء إلى من يستطيع صيانته.. وهذا هو البعث.”[16] و نتساءل بدورنا “هل هذا هو البعث ؟” لقد ذهب الأفندية بغنيمتهم من الآثار وتحركت سفينتهم صوب القاهرة. ما الذى جناه ونيس من تلك المعرفة وذلك الكشف؟ سار ونيس في طريق التقى فيه بالعديد من الغرباء ، كلهم تجاوزوه. لم يجد المتمرد مكانا له فى ذلك الفجر الجديد الذى تبشر به كلمات البردية الأخيرة فى الفيلم : “إنهض فلن تفنى لقد نوديت بإسمك لقد بعثت.”لقد ترك الأفندية ونيس منبوذا محطما وانتهى الفيلم على لحظة حداد جديدة وقد تحول ونيس إلى بطل تراجيدى، أما أهل الجبل فقدتركوا في عراء الجهل والفقر ينتظرون بعثا آخر لم يأتى. لقد ذهب الشيئ إلى من يستطيع صيانته كما تمنى شادى عبد السلام ، لقد بعث الموتى في الفيلم وامتلأت قاعات المتاحف بموامياتهم ، أما الأحياء قد انتهى بهم الأمر إلى مصير مجهول يكرس الغربة. وكأن تلك الغربة مصيرا لا يختلف كثيرا عن غربة فيلم المومياء فى تاريخ السينما المصرية ولا عن موقع شادى عبد السلام ذاته فى هذا التاريخ. لقد أتى فأضاء فتوهج ثم ما لبث أن خفت الضوء فأصبح كالماسة النادرة فى انتظار بعث جديد.

هوامش الدراسة


[1] -“لقاء مع شادى عبد السلام – حصاد  نصف قرن” أجرى الحوار كمال رمزى –  نشرة نادى السينما 5/5/1980، ص. 318 .

[2]–  مجدى عبد الرحمن، ” يا من تذهب ستعود” مجلة القاهرة – ديسمبر 1994، ص. 232.

[3]– ترجمة كاتبة المقال من كتاب :

  Pierre Nora, Les lieux de mémoire 1 , La République, Paris, Gallimard, 1984, p. XIX

[4]– شاكر عبد الحميد، الفن و الغرابة، مقدمة فى تجليات الغريب فى الفن و الحياة، ميريت، القاهرة، 2010 ، ص. 39

[5] – المصدر السابق.

 [6]- نفس المصدر ، ص. 19.

[7]–  نفس المصدر، ص. 21   

[8] – نفس المصدر، ص. 140.

[9]– سيناريو فيلم المومياء، موقع مدرسة السينما و التلفزيون : http://www.arabfilmtvschool.edu.eg/

[10]– المصدر السابق

[11] – نفس المصدر

[12]– سليم حسن، الأدب المصرى القديم أدب الفراعنة، مطبوعات كتاب اليوم، مؤسسة الأخبار، ديسمبر 1990، ص. 75

[13] –  المصدر السابق، ص. 78

[14]– انظر مجدى عبد الرحمن ، ص. 235 .

[15]– اليوت كولا، “المومياء”، ترجمة حسن حسين شكرى، أخبار الأدب، العدد 428، 23 سبتمبر 2001، ص.7  

[16]–  سامى السلامونى، ” المومياء”، نشرة نادى سينما القاهرة، 16/12/  1969، ص. 74

Visited 140 times, 1 visit(s) today