موسيقى السينما: إبداع موريكوني الخالد

حسن عرب
يا لعظمة الموسيقى عندما تُصبح صوتًا للأفلام، وصديقًا صامتًا يهمس بما يعجز الحوار عن نقله.
ولدت السينما الصامتة، ورافقتها الموسيقى كعنصر لا يُستغنى عنه، إذ بدأت بجمل بسيطة، تعزفها فرق صغيرة في صالات العرض، تساعد في تعزيز المشاهد وإضافة طبقات من التوتر والحب والسعادة. كان البيانو أو الأوركسترا الصغيرة تقدم أصواتًا تعبر عن لغة خفية تربط بين مشاعر الشخصيات بدلاً من الحوار. ومع بزوغ عهد السينما الناطقة في الثلاثينيات، أخذت الموسيقى دورًا جديدًا، وأصبح بإمكانها أن تروي مشاعر غير مرئية، تقدم الإيقاع للقصص، وتترك بصمة لا تمحى في ذاكرة الجمهور.
على مدار السنين، تطور الفن الموسيقي في الأفلام ليصبح جزءًا متكاملًا من القصة نفسها. بات المخرجون يستعينون بالمؤلفين الموسيقيين كجزء من طاقم العمل، حيث تجري النقاشات عن طابع الفيلم وأجوائه، وتُستحضر مشاعر الشخصيات بلمسات من النغمات التي تحاكي المشهد ذاته. موسيقى الأفلام أصبحت علما دقيقًا يراعي تفاصيل كل لحظة، بدءًا من الموسيقى التصويرية التي تضفي عمقًا على المشهد، إلى “الثيمات” التي تعلق بالأذهان وتميز الأفلام العظيمة. كل مقطوعة أصبحت تلهم وتؤطر، صداها يبقى في الذاكرة حتى بعد انتهاء الفيلم.

ومع ظهور روائع المبدعين مثل إنيو موريكوني وجون ويليامز وهانز زيمر، أصبحت الموسيقى السينمائية أعجوبة فنية، تحاكي عبقرية السيناريو وعمق الإخراج، وأصبحت لغة متكاملة تسهم في بناء القصة نفسها، تصوغ لحظات الألم والشوق والنصر والفراق، تمنح المشهد روحه وتضفي عليه بعدًا فنيا وصبغة جديدة.
عندما نذكر روائع الموسيقى السينمائية، لا بد أن نتوقف عند إنجازات إنيو موريكوني، الذي رسخ موسيقاه في تاريخ الأفلام كعلامة فارقة غيرت طريقة رؤيتنا وسماعنا للسينما، ونقشها في أرواحنا كأثر لا يزول، من النغمات البسيطة في الخلفية إلى المقطوعات المعقدة التي تشبه لوحات فنية. هذا العبقري الإيطالي الذي نقل الموسيقى السينمائية إلى فضاءات لم تطأها من قبل. موريكوني كان صانع سحر، وراوٍ للأحلام، وصل بإبداعاته إلى قلوب الجماهير، وأثرى كثيرا من أعمال مخرجين عظماء، وجدوا في موسيقاه الرائعة رفيقًا لا غنى عنه.

موسيقى إنيو موريكوني هذه الأنغام الساحرة هي بطلة في المشهد. كل نغمة لها قصة، وكل لحن حكاية. رحلة تنقلنا بين أحاسيس متضاربة، كان حكيمًا يقص علينا بصوت الأوتار، يرسم المدن والأماكن التي لم نزرها، يجعلنا نشعر بالحرارة في قلب الصحراء، أو ببرودة الخيانة في غرفة مغلقة.
في فيلم “ذات مرة في الغرب”، يمزج موريكوني بين النغمات الحزينة والمشاهد الصامتة، ليحكي قصة بلدة وسيدة، ويغدو صوته صوت أنفاس الصحراء القاسية. كان الجيتار يئن باللوعة، والكمان يبكي كأمٍ تبحث عن ولدها، موسيقاه تلك المعروفة بأنها “بطلة الفيلم الصامتة”، بدأت من لحنٍ رئيسي، أهداه لوجه الممثلة كلوديا كاردينالي الذي يحكي قصة مليئة بالحب واليأس والانتقام دون كلمة واحدة، مستخدمًا الجيتار والكمان لخلق جو صحراوي شاسع وموحش.
نلتفت أيضًا إلى أصوات الطبول في “ويبلاش”، الموسيقى هناك ليست أغنية بل معركة، تعبير عن الصراع والتضحية والعزلة التي يعيشها العازف الشاب، مما يجعل كل ضربة طبل خطوة لاهثة وراء حلم مفعم بالدماء والإرهاق.
موسيقى موريكوني لم تكن أبدًا انعكاسًا سطحياً للدراما، بل هي شريكة في بناء العالم السينمائي ذاته،
وروحًا إضافية تحوم فوق القصة، تضيف طبقة خفية من العمق، تُشعرنا وكأننا نتنفس مع الشخصية، نحمل عبء مشاعرها، ونغرق في تناقضاتها. كانت ألحانه تتجاوز الصورة، لتصل إلى تلك المساحة الغامضة حيث يختبئ اللاوعي، لتروي أصدق الحكايات دون كلمات. لا أتخيلها موسيقى للأفلام وحسب، هي أفلام في حد ذاتها، قصص مكتملة تحكي عن حب مفقود، وأمل يعيد ترميم ما تحطّم. أحسستُ وأنا أكتب عنه، كأني أكتب عن جزء مني، عن تلك الذكريات والمشاعر التي أيقظتها ألحانه فينا، عن السينما كملاذ وحلم.

تأمل مثلاً “الجيد، السيئ، والقبيح”، تلك النغمات التي تحاكي صوت الريح، وصرخات الحنين تتصارع مع صمت الموت. الموسيقى هي جزء من النسيج، تطلق صرخات صامتة لأرواح تبحث عن خلاص في عالم لا يرحم. تلك الموسيقى هي التي جعلت من الصحراء ساحة حياة ونبض، ملأت الفراغ بجمال قاتم، وأعطت كل شخصية صوتها.
القصة بدأت في عام 1966، كان موريكوني، ذلك الساحر الموسيقي الذي يسكنه هوس التفاصيل، يعتكف في استوديو صغير في روما. أوراق مبعثرة، آلات متناثرة كأنها جنود تستعد لمعركة، وعقل لا يهدأ، يبحث عن نغمة لا تشبه شيئًا سمعناه من قبل، نغمة سترافق مشهدًا سيخلده الزمن: المبارزة الثلاثية في فيلم “The Good, The Bad and The Ugly”. مشهد بسيط في ظاهره، ثلاث شخصيات تقف في مواجهة الموت، نظرات متشابكة، وصمت أثقل من الرصاص الذي يوشك أن يخترق السكون. كان يعلم أن هذا المشهد لن يكتمل دون موسيقى تحمل التوتر والقسوة والعزلة.
موريكوني وجد نفسه في مأزق: كيف يصنع موسيقى تحكي صراعًا نفسيًا بهذه الحدة، موسيقى تكون خفيفة كالنسيم لكنها تخترق الروح كالسكين؟ جرب الأفكار التقليدية، لكنها لم تكن تكفي. كان يدرك أن هذا المشهد يتطلب شيئًا جديدًا، لغة موسيقية لم تُسمع من قبل.
دعا إلى الاستوديو صديقًا له، عازفًا لآلة الأوكارينا، تلك الآلة البسيطة التي تحمل صوت الرياح الهائمة. قال له: “لا أريد موسيقى، أريد صوت الصحراء، صوت الريح التي تطارد أرواحًا ضائعة”. بدأ العازف بتجربة النغمات، لكنها بدت ناقصة. توقف موريكوني فجأة وقال: “نحتاج إلى الصفير”. وهكذا، جاء ألفيس أندرياني، الرجل الذي سيصبح صوته أيقونة. صافرة بسيطة، لكنها كانت كأنها همسة الموت.
لم يكن هذا كافيًا. المشهد يحتاج إلى أنفاس الطبيعة، إلى شيء ينبض بالرعب والوحشة. خطر في ذهن موريكوني فكرة جنونية: عواء الذئاب. استدعى المغنية السوبرانو إددا ديل أورتو، وطلب منها أن تطلق أصواتًا كأنها ذئب يتوعد الليل. عندما سألته: “هل تريد موسيقى؟”، أجاب: “لا، أريدك أن تخيفينني”. وبالفعل، أطلقت إددا تلك الأصوات التي تمازجت مع الصفير والأوكارينا، لتخلق عالمًا موسيقيًا يقطر توترًا وغموضًا.
استغرق تسجيل الموسيقى أيامًا طويلة، كل نغمة كانت تعاد مرات ومرات، وكل صوت كان يُسكب فيه من روح موريكوني ليعيش أبديًا. سيرجيو ليوني، المخرج الذي لا يقل عبقرية، كان يستمع بصمت، يراقب تلك الولادة الموسيقية. وعندما انتهى العمل، استمع ليوني إلى المقطوعة كاملة، ثم التفت إلى موريكوني وقال: “لقد صنعت شيئًا لا يشبه الموسيقى، بل يشبه الخلود”.
لاحقًا، اعترف موريكوني بابتسامة خجولة أن كل تلك الأصوات التي أبهرت العالم ولدت من عجزه عن العثور على اللحن المناسب. وهكذا، وُلدت موسيقى المبارزة الثلاثية، موسيقى أصبحت روحًا تسكن الفيلم وتُخلد معه.

وفي “جنة السينما”، كان يغزل ألحانًا كأنها دفتر طفولة يُطوى بحنان، يد تربت على أكتاف ذكرياتنا، أغنية حب للزمن الذي مضى، كانت الحياة هناك تختبئ في كل نغمة، وفي كل لحن، كانت الطفولة تبتسم، موريكوني كان فيلسوف النغمات، عالمًا في كيمياء المشاعر، يجعلنا نعود إلى طفولتنا التي اكتشفنا فيها العالم.
كانت مهمته في فيلم “جنة السينما” واضحة لكنها شاقة. أراد لحنًا يحمل في طياته ذاكرة، بل إحساس يشبه عبق الماضي الذي يعيدك في لحظة واحدة إلى بيت جدتك، إلى مكان دافئ، مليء بالحب، لكنه ممزوج بشعور من الحنين.
أسابيع مرّت، وموريكوني يرفض الأفكار التقليدية. حاول أن يعزف موسيقى بسيطة لطفولة بطل الفيلم، لكنه توقف مرارًا. القصة ليست عن الطفولة فقط، إنها عن الزمن، عن فقدان الأشياء التي نحبها، عن استعادة ما لا يمكن استعادته. في تلك اللحظات، كان يدرك أن الموسيقى يجب أن تكون كروح الفيلم، ناعمة، تمس القلب دون أن تقتحم، تحملها الريح لكنها تبقى كوشم.
بعد أن أرهقه التفكير، جلس أمام البيانو، وكأنه يتحدث معه، كأنهما يبحثان معًا عن لغة جديدة. وُلدت أولى النغمات، ثم لحقتها أخرى، وكأن البيانو نفسه يبوح له بسرٍ قديم. عندما انتهى من عزف ما سيُعرف لاحقًا بـ “Love Theme”، بقي موريكوني جالسًا، يحدّق في الفراغ. لم يظهر عليه شعور بالانتصار. كان الأمر أشبه برحلة انتهت لكنه لم يدرك بعد ما إذا كان قد وصل.
همس لنفسه، بصوت خافت: “هذا ليس ما كنت أبحث عنه… لكنه أفضل مما كنت أحلم به.” كان يعلم في تلك اللحظة ما يعنيه أن تكون موسيقى الفيلم خالدة. إنها لحظات تُحفر في الذاكرة، كأنها مرآة تعكس روح كل من يسمعها. وهكذا، وُلدت واحدة من أعظم المقطوعات الموسيقية في تاريخ السينما، ولدت كما يولد السحر: من الصمت، ومن انتظار طويل للحظة الإلهام التي تُغير كل شيء.
موريكوني أدرك أن الموسيقى ليست رفاهية للمشهد، بل هي النبض الذي يجعل السينما حية. في عوالمه، كنا نسمع الحزن يتكلم، واللحظات العابرة تصبح أبدية. كانت الموسيقى صوتًا خفيًا للألم، للحنين، للصمت الذي يصرخ في أعماق الشخصيات، تدخل المشهد كهمسة، ثم تتحول إلى عاصفة، موسيقاه لغة سرية، لكنها لا تحتاج إلى ترجمة، تجعلنا نرى في كل مشهد قصة أخرى لم تُروَ، أو فصلا جديدا.

تحدث ذات مرة عن الموسيقى كأنها كيان حي، يخترق الظلام ويمدّ يدًا خفية لأرواحنا؛ هو كان يرى النغمات أرواحًا تتحدث في صمت. ولعل هذه النظرة هي التي جعلت من ألحانه تعبيرًا غير عادي عن الحياة، إذ كانت تعزف أبعادًا نفسية لم تكتبها القصة، ولا روَتها الكاميرات. كانت هذه النغمات تختار لحظاتها بعناية، لتأخذ المشهد من مستوى الرؤية إلى مستوى الشعور، أتخيل أن آلاته الموسيقية كانت في الحقيقة تعزف على مشاعرنا لا على الأوتار.
ربما في فيلم مثل “المهمة” The Mission نجد أفضل مثال على هذا البُعد؛ حينما تعلو أصوات الأوركسترا ويأتي عزف الكمان محملاً برائحة الأرض والأمل، لنشعر وكأننا نعيش اختبارًا إنسانيًا عميقًا بين السماء والأرض. وفي “الممنوع لمسهم” The Untouchables، تجده يُبدع موسيقى مفعمة بالشجن والتحدي، تشبه صدى أقدام المقاتلين، تسير فوق الحافة بين الخطر والانتصار.
إن موسيقى موريكوني تمثّل أكثر من فن، إنها اختصار لمعنى الحياة في لحن، تأخذنا إلى عالمٍ يتجاوز الشاشة، وتخاطب فينا الجانب الخفيّ، ذلك الجانب الذي لا نعرفه لكننا نشعر به، كأنما كل نغمة هي همسة هاربة من عوالم سحرية.
في “ذات مرة في أميركا”، تسير ألحانه في ثنايا الزمن وكأنها تُعيدنا إلى وجوهٍ منسية، وإلى لحظات طُمست في غبار الذاكرة. هذا الساحر الذي يعرف كيف يُحلق فوق الأبعاد المادية للسينما، ليوقظ فينا جمالاً خفياً، وأحلاماً ما كانت لتظهر لولا ألحانه. موسيقى تُخلق كما تُخلق الأرواح، وصداها يسرد حكايات جديدة كلما عدنا للاستماع إليها. استخدم موريكوني موسيقى تتدرج بين النوستالجيا والشجن، وكل نغمة فيها تحمل نوعًا من الثقل الذي يُحاكي حياة البطل “نودلز” والعلاقة المعقدة التي يحملها نحو ماضيه وأصدقائه. كل مقطع موسيقي يروي حكاية مؤلمة من الحب والخيانة والندم.
أما موسيقى “أماديوس” فهي مثال آخر، حيث تمتزج موسيقى موتسارت الكلاسيكية مع حبكة الفيلم، والألحان هنا تبني القصة وتوجهها، ليعيش المتلقي كل لحظة من التوتر بين موتسارت وساليري كما لو كان المشهد نوتة موسيقية صاخبة. بهذا الأسلوب تصبح الموسيقى في السينما حلما يمر بين كلمات السيناريو وصورة المخرج، لتضفي على الفيلم سحرا وجمالا.
الفيلم الإيطالي “أسطورة ١٩٠٠”، الذي أخرجه جوزيبي تورناتوري. يحكي قصة عازف البيانو الموهوب “داني بودمان تي. دي ليمون 1900″ الذي وُلد وعاش حياته كلها على متن سفينة ضخمة تجوب المحيط. موسيقى إنيو موريكوني التصويرية، تعتبر جزءًا لا يتجزأ من القصة، فهي تحمل الطابع الحالم والشاعري لعالم البطل ذو الإسم الغريب” 1900″. كل قطعة موسيقية تعبر عن تقلبات حياة البطل بين عزلته وعشقه للعزف، وتجسد أحاسيسه وصراعاته.

المشهد الأيقوني عندما يعزف البطل موسيقى ارتجالية على البيانو بينما تتمايل السفينة خلال العاصفة، يظهر ارتباطه العميق بالمحيط والموسيقى، فهو يلعب بأصابعه على المفاتيح كما لو كان يحاول الإمساك بأمواج البحر، معزوفاته حلمٌ سرمدي. ورغم الموهبة الخارقة التي يمتلكها، إلا إنه يبقى منعزلًا على سطح السفينة، ويرفض النزول إلى البر، وكأن عالمه لا يوجد إلا بين حركة أمواج البحر وأصوات البيانو، لقد ابدع موريكوني في خلق موسيقى تليق بالمشهد.
موريكوني استطاع أن يصنع موسيقى تجعلنا نشعر وكأنها جزء من ذاكرتنا العاطفية. كان يبدع بفضل قدرته الاستثنائية على فهم القصص والشخصيات من منظور موسيقي. لم يكن يعمل فقط مع صورة أو نص، بل كان يخلق عوالم سماعية تستنطق المشاعر المخفية خلف الكاميرا. أسلوبه المتناغم الذي يتلاعب بالطبقات الصوتية يلامس القلب مباشرة.
كان ينظر إلى موسيقاه كأنها امتداد لصوته الداخلي، كروحٍ تتحدث من خلال أوتار وألحان. قال موريكوني ذات مرة: “الموسيقى التصويرية هي الشخصية الصامتة للفيلم، إنها حوار غير منطوق، تقول ما لا يقوله المشهد وتعبّر عمّا يعجز السيناريو عن سرده.” لقد كانت هذه نظرته الخاصة للموسيقى؛ هي بطلٌ خفيٌّ له دوره وسرده الخاص في القصة.
وتحدّث في لقاء آخر عن عملية الإبداع قائلاً: “عندما أبدأ بتأليف الموسيقى، أبحث في عمق المشهد والشخصيات، أحاول أن أكون الشخصية ذاتها وأن أسمع ما تسمعه وتحتاج إليه. أريد للموسيقى أن تصبح العاطفة الخفية للشخصية، ورفيقها الذي يفهمها بصمت.” انظروا وتأملوا تلك الروح التي كان يضفيها على الألحان.
عن فيلم “الجيد، السيئ، والقبيح”، قال موريكوني مرة: “الألحان هنا تعكس القسوة والشجاعة، صدى الصمت المدوي في مواجهة الحياة. كانت النغمة روح الصحراء نفسها، غضبها وسكينتها، وخوفها وأملها.” لذلك، كانت ألحانه في هذا الفيلم تشعرنا بوزن الأرض وصدى الهواء الجاف، وكأنها تحكي قصة الأرض قبل أن يستوطنها الإنسان.

وحين سُئل عن مقطوعته الشهيرة لفيلم “سينما باراديسو”، قال: “كان لحنًا صادقًا ينبع من الحنين للبراءة، لتلك الأيام التي كانت فيها السينما ملاذًا وسحرًا يُدخلنا لعالم آخر. أردت أن أبتكر موسيقى تحتضن ذكرياتنا الأولى، رائحة الأفلام القديمة، ذلك الشغف الطفولي الذي يظل في القلب ولا يغادره أبداً.” وفي لحظة من التأمل، قال موريكوني: “أعتقد أن الموسيقى التي تبقى هي تلك التي تُكتب بروح الحب، التي لا تهاب المرور في مساحات الصمت، بل تستمد قوتها من صمتها.”
موسيقى موريكوني كانت بوابات إلى عالمٍ عميق من المشاعر. وكأنه أراد لكل قطعة أن تظل حية، كخفقات تُعيدنا إلى لحظاتنا الأشد صدقًا. ترك موريكوني إرثًا موسيقيًا يحاكي أعماق النفس، إرثًا يلامس أرواحنا في كل مرة نستمع فيه، يجعلنا نعيش الحلم مرة أخرى، ونشعر كما لو أن تلك النغمات تُحدثنا، وتغني لنا، بأغانٍ لم تُغنَّ بعد.
لم يكن يعرف للحدود معنى، حين يكتب، كانت ألحانه تطير، كأنها ترفرف فوق سماء روما، تطوف بخيالاته وتجلب أصواتًا من عوالم خيالية. يقول عنه من عرفوه إن عمله لم يكن بالنسبة له مجرد مهنة أو وظيفة، بل كان رحلة بحث في الذات، ولطالما قال في لحظات صفائه: “الموسيقى هي الحكاية ذاتها، وأنا لست مؤلفًا، بل راويًا يبحث عن الكلمات بين النوتات”. لذا، لم يكن غريبًا عليه أن يُخرج من آلته تلك الألحان التي تختال بين الحب، والندم، والذكريات.
موريكوني رغم بساطته وتواضعه، فقد اعتبره المخرجون عنصرًا أساسيًا في تشكيل روح أفلامهم. يقول سيرجيو ليوني، الذي صنع مع موريكوني واحدة من أكثر الشراكات إبداعًا في تاريخ السينما: “لم يكن إنيو مجرد موسيقي، لقد كان يفهم مشاعر شخصياتي قبل أن أتمكن من ترجمتها.” في فيلم “حدث مرة في الغرب” Once Upon a Time in the West، طلب ليوني موسيقى تحمل جوهر الغرب الأمريكي بتعقيداته وغموضه، فخرج موريكوني بمقطوعة تمتزج فيها نغمة الهارمونيكا مع الإيقاعات التي تذكر بالصحراء وتحمل المشهد برمته الى سرد ملحمي.

في المقابل، نجد المخرج جوزيبي تورناتوري الذي عمل معه في “جنة السينما” و”مالينا” و”الأسطورة ١٩٠٠”، يعتبره أكثر من مجرد موسيقي عادي، بل هو الراوي الصامت الذي يكمل السرد البصري. تورناتوري قال عنه: “حينما سمعت موسيقى إنيو لأول مرة، شعرت أنني أعيش داخل الفيلم بالفعل. كانت موسيقاه تجسد الحب والمعاناة والحزن بدون كلمات. لقد ساعدني على رؤية فيلمي بشكل أعمق وأقرب.” موريكوني عمل بتفانٍ، كان يستمع للقصة ويحاول فهم نبضاتها قبل أن يلمس البيانو، وحين يفعل، كان يعرف كيف يُخرج مشاعرًا لم تخطر ببال المخرج حتى.
أما كوينتن تارانتينو، المعروف بتقديره للموسيقى في أفلامه، فقد أصرّ على استخدام مقطوعات موريكوني في عدة أفلام، منها “اقتل بيل” و”الثمانية المكروهون” وتحدث عن إعجابه الشديد به، بالنسبة لتارانتينو، موسيقى موريكوني تحمل طاقة قوية، وتزيد من ثقل المشهد، تتحدث معه وتصرخ وتبكي وتضحك.
في “الثمانية المكروهون” The Hateful Eight طلب تارانتينو من موريكوني أن يقدم موسيقى تعكس الأجواء القاسية والباردة للفيلم الذي تدور أحداثه في مكان معزول مليء بالتوتر والخيانة. كان تارانتينو معجبًا بموسيقى موريكوني في أفلام الغرب الأمريكي السابقة وأراد منه أن يعيد استحضار نفس الروح، لكن موريكوني قرر أن يسلك نهجًا جديدًا.
استخدم موريكوني “الأوركسترا الكبيرة” بطريقة مغايرة للمعتاد، حيث خلق من خلالها موسيقى تجسد التوتر النفسي والعنف المتصاعد بين الشخصيات. أضفى إحساسًا دائمًا بالخطر والغموض، مما عمق أجواء الفيلم وزاد من توتر المشاهدين. هذه الموسيقى كانت مزيجًا من التقاليد الكلاسيكية واللمسات الحديثة، وهو ما جعلها استثنائية.
هذه موسيقى حصدت إشادات واسعة، وفاز عنها بجائزة غولدن غلوب لأفضل موسيقى تصويرية، كما حصل على جائزة الأوسكار عن نفس الفئة في عام 2016. هذا كان أول أوسكار يفوز به عن موسيقى لفيلم تحديدًا، رغم أنه كان قد حصل على جائزة أوسكار شرفية قبلها في عام 2007 تكريمًا لمسيرته الاستثنائية.
الفيلم الوثائقي إنيو Ennio الذي أخرجه جوزيبي تورناتوري، يأخذنا في رحلة غنية داخل عالم موريكوني الخاص، ويكشف عن روحه العبقرية وشغفه، ويضم لقطات نادرة لموريكوني وهو يعمل، ويتحدث عن أسراره الإبداعية ومشواره مع السينما. الفيلم يستعرض كيف كان يقترب من كل عمل بجرأة وعمق، وكيف كان يخلق ألحانه كأنه يخوض مغامرة أو يكتب قصيدة. يبحث عن النغمة الأولى التي تتراءى له كلمحة خاطفة، ليبدأ بعدها رحلة صيد لمطاردتها. يقول: “الألحان تأتيك كهمسة، كنغمة في زاوية العقل، إن لم تستمع لها، فقد تمضي للأبد.” كان يؤمن بأن الفن ليس مهنة، بل هو قدر، صوت لا يتوقف عن مناداته حتى وهو في عز صمته.

في هذا الوثائقي، نرى تأثيره على جيل كامل من المخرجين، الذين يروون كيف كان لمساته الموسيقية تحول أفلامهم إلى تحف سينمائية. إنه شهادة حب وتقدير من عالم السينما لإنيو موريكوني الذي سيظل حاضرًا بموسيقاه، ويعيد لنا ذكرى كل لحظة عشناها أمام الشاشة.
كان موريكوني معروفًا بقدرته على التكيف مع مختلف الأنماط السينمائية، لكنه احتفظ بأسلوبه الفريد، ذلك الأسلوب الذي يجمع بين الكلاسيكية والعاطفية، يحرك الأحاسيس حتى في أكثر المشاهد بساطة. رغم أنه عمل مع مخرجين من مدارس وأساليب مختلفة، كان دائمًا يجلب موسيقاه الخاصة، المليئة بالتجديد والشغف، كأنما كانت تحمل بصمته التي تظل واضحة مهما تغيرت نوعية الأفلام.
ومن أجمل ما يروى عنه قدرته على إيصال المشاعر الحقيقية حتى إلى مشاهد لم يخطط لها أن تكون مشحونة بالعاطفة، مثل مقطوعته الشهيرة في “المهمة” The Mission، حيث استطاع أن ينقل من خلال موسيقى “مزمار غابرييل” Gabriel’s Oboe روح المغامرة، القداسة، والنضال، ليغدو اللحن معبرًا بصدق عن القصة وتفاصيلها.
ولعل ما يجعل موسيقاه رائعة وخالدة نظرته العميقة للحياة، فقد كان يؤمن بأن الموسيقى هي اللغة التي تعبر عن المشاعر. نوتاته كانت تبدو كأنها محفورة في وجدان السينما، أو نقش على جدار الزمن، تلهم وتحرك، كأنها روح خفية تظل تتردد في القلوب حتى بعد نهاية العرض.
في النهاية كان موريكوني؛ عاشقًا للموسيقى كأنها كائن لا يفنى، ورسالته الأخيرة لنا: أن أعظم الألحان هي التي تظل تتحدث حتى في غياب من أبدعها. موريكوني مبدعٌ من طرازٍ نادر، لا يقاس تأثيره بعدد الألحان التي كتبها، بل بعدد القلوب التي استطاع أن يمسّها بعمق، رحل موريكوني تاركًا وراءه ألحانًا عظيمة، تعيش بيننا وتتنفس، كأنها حديثٌ أبدي على وتر الزمن. ألحانًا تغني لأديم الأرض وتناجي أثير السماء، تحلق كالأحلام بأجنحة من نور، .. فيا صوت الرياح!! … ويا همس الأشجار، حبذا منكما نغمة ختامية، تُحاكي النغمات التي تختم أفلام موريكوني، ليشدو هذا النص بألحان تعزف لقارئه الوداع الجميل. تقول له ما زالت ترن في روحك أصداء خالدة. تصهل بلا توقف في أعماق الذاكرة، كأنها وعدٌ لا ينتهي بأن الموسيقى العظيمة أبدًا لا تموت.
