“سميرة في الضيعة” مقتبس من فيلم اسباني والإيروتيكية عامل مشترك

سناء موزيان بطلة فيلم "سميرة في الضيعة" سناء موزيان بطلة فيلم "سميرة في الضيعة"
Print Friendly, PDF & Email

الاقتباس في السينما معروف وشائع ومشروع، شريطة أن يكون واضحا من البداية أنك ستشاهد فيلما “مقتبسا” من فيلم آخر، أو رواية عالمية، أو مسرحية وغيرها. ولكن ما يثير الدهشة أن يحدث الاقتباس دون أن يكون معلنا أو معترفا به، فنشاهد العمل منسوبا إلى كاتب سيناريو بينما الحقيقة أنه نقله عن عمل آخر، يتصور أن المشاهدين لا يعرفونه ولن يكشف أحد الحقيقة. وهي قضية “أخلاقية” في الأساس.

إن وظيفة الناقد ليست التحري، فالناقد ليس مخبر شرطة، والهدف من المقارنة بين العمل الأصلي والعمل المقتبس، لا يجب أن يكون الفضح والتشهير، بل معرفة كيف تم الاقتباس، ولماذا، أي ما الذي أغرى بالاقتباس، وهل نجح الاقتباس في تطويع الأصل أو “تعريبه” وتقريبه من المشاهدين الجدد في العالم العربي؟ 

قبل أكثر من 33 عاما عرض فيلم اسباني ناطق بلغة إقليم كتالونيا، هو فيلم «السنيورة» La senyora (1987) للمخرج جوردي كادينا، قامت الممثلة سيلفيا طورطوسا Silvia Tortosa بالدور الرئيسي فيه كما اشتركت في كتابة السيناريو، عن رواية للكاتب أنطوني موث.

بوستر الفيلم الاسباني

تدور أحداث الفيلم في الريف الإسباني في أوائل القرن العشرين، وتحديدا في «بالما دي مايوركا» التابعة لإقليم كتالونيا. والفيلم هو ثالث أفلام مخرجه الذي عرف بتخصصه في الأفلام الميلودرامية التي تعتمد على المبالغة في تجسيد المشاعر المتأججة، والرغبات المكتومة التي لابد أن تنفجر، كما أنه مولع بالبحث في تعقيدات العلاقة بين الرجل والمرأة في الريف الاسباني.

يوظف السيناريو الميلودراما التي تصبح في صميم موضوع الفيلم ذي الصبغة الاجتماعية، ولكن دون أن ينجرف نحو المبالغات الشائعة والمصادفات المفتعلة مع توالي الكوارث والمصائب. فالصدفة في هذا الفيلم ترتبط بالجبرية الاجتماعية، وبالمأساة الخاصة للمرأة أسيرة التقاليد والقيم العتيقة البالية.

لم يكن ممكنا أن يظهر فيلم كهذا بما يتضمنه من مشاهد شديدة الجرأة، بما تحتويه من مواقف جنسية ملتهبة سوى بعد زوال نظام الجنرال فرانكو، ذي الطبيعة الكاثوليكية المتزمتة. ولكن هذه المشاهد (التي أصبحت مألوفة فيما بعد، في أفلام الموجة الجديدة في السينما الاسبانية) مصورة بأسلوب فني رفيع، فهي تجعلنا نشعر كما لو كنا أمام لوحات من الفن الكلاسيكي، لكنها تردنا أيضا إلى جماليات عالم الروائي د. هـ. لورانس. التي نزعت الأغلفة الجامدة وصورت المشاعر الجنسية عند المرأة، فالجنس هنا أساسي في سياق الفيلم.

بيع المرأة

تدور الأحداث في بدايات القرن العشرين. تضطر أسرة أرستقراطية فقدت الهيبة والثروة وأوشكت على الإفلاس، إلى تزويج ابنتها الجميلة «تيريزا» لرجل يكبرها بنحو ثلاثين عاما هو الاقطاعي «دون نيكولو» مقابل تسديد ديون الأسرة. هنا يكون المال مقابل الفتاة، ويصبح من حق الزوج أن يستخدم ما يملكه كما يشاء. تنتقل العروس الشابة مع زوجها المسن للإقامة في منزله الريفي الكبير. وفي الليلة الأولى لهما معا يخبرها الرجل أن هدفه الوحيد من زواجها أن تمنحه وريثا. وفي اليوم التالي يخبرها انه ترك لها في وصيته بعض ممتلكاته وأنه طلب من الصائغ أن يصنع له وعاءً صغيرا «كستبانا» من الذهب، ويحدثها عن اهتمامه الشديد بالنظافة. ويكشف لها أنه يعتبر ممارسة الجنس نوعا من القذارة ويقص عليها بعض ما شاهده خلال شبابه عنندما كان يتردد على مواخير برشلونة.

يمتنع دون نيكولو تماما عن الاقتراب من زوجته الشابة، لكنه يطلب منها فقط أن تتعرى أمامه لكي يستمني بيده ثم يقذف السائل النووي في “لوفة” يعتصرها في الكستبان ويعطيها لكي تستخدمه كوسيلة للحمل.

الرجل مصاب بمرض يسمى في علم النفس “الوسواس القهري”، فهو مهووس بالنظافة، يرتدي دائما قفازات جلدية، ويصر على أن يرتدي الخدم في منزله قفازات مشابهة، ويتسامى على الرغبة الجنسية بالتباهي بما يمتلكه من مقتنيات فنية ورثها عن أجداده. أما سلوكه الجنسي فهو انحراف مرضي ناتج عن خوفه من العدوى بالأمراض التناسلية. وهو أيضا مهووس بهاجس التلصص، فهو يتلصص كل ليلة على زوجته التي تتعرى في غرفتها وتتأمل جسدها أمام المرآة في حسرة، ثم يطلب منها فيما بعد أن تتعرى أمامه في الحمام لكي تحقق له الإثارة الجنسية.

تمر السنون لكن «السنيورة» لا تنجب. يحتضر نيكولو على فراشه ثم يموت غارقا في افرازاته وقاذوراته. لقد تدنى أخيرا من “الطهارة” الفوق إنسانية وأصبح إنسانا تفوح منه رائحة العرق النتنة. تهجم تيريزا على جسده، تسبه وتلعنه وتضربه، تريد في لحظة شعور هستيري بالغضب، أن تضاجعه.

السنيورة تنتزع دور المالك

تعلن تيريزا اعتزامها بيع المنزل والانتقال للإقامة في المنزل الريفي الذي تركه لها الراحل. وخلال الجنازة تلتقي بشاب جذاب هو ابن شقيقة زوجها المتوفي، الذي يلحق بها في الضاحية الريفية. لقد استجاب للإغواء ولكنه يصاب بنوبة قلبية أثناء السباحة فيموت قبل أن تتمكن “تيريزا” من إشباع رغباتها الجنسية المكبوتة.

هذه الصدمة تدفع تيريزا الى الاعتكاف في غرفتها. يأتيها رافاييل، المشرف على تنسيق أزهار الحديقة. تطلب منه ان يخلع ملابسه، تتأمل جسده الفارع، ثم تأمره باعتبارها السيدة، باستعراض جسده أمامها وهي عارية في الحمام، تماما كما كان زوجها يفعل معها. لكنها لا تسمح له أبدا بالاقتراب منها. لقد بدأت تتخلى طواعية عن انسانيتها مثل “دون نيكولو”.

بعد فترة يقع اللقاء الجسدي المحتم كعاصفة مدوية، وتشعر تيريزا للمرة الأولى بالنشوة، ولكن سرعان ما يقع ما كان محتما، فالشاب يرتبط بفتاة في مثل عمره ويعلن رغبته في الزواج منها. ولكن يتعين أولا الحصول على موافقة “السنيورة”. وترحب تيريزا بل وتمنح الفتى مكافأة خاصة، لكنها تطلب في المقابل أن يواصل رافاييل بعد زواجه، التردد عليها كل ليلة، أي أنها تحرم عليه أن يقرب زوجته. وذات يوم تستدعيه مع زوجته وتخرج «الكستبان» الذهبي.

التحول الدرامي

هل كان هذا التحول المرضي في شخصية “السنيورة” نتيجة معاناتها الطويلة مع زوجها الراحل؟ هل هي شريرة أم ضحية؟ أم هي تستمتع باستخدام ما تملكه من سلطة بقوة المال والأرض اللتين ورثتهما؟ لقد أصبحت فيما يبدو، تمارس الهيمنة الاقطاعية بعد أن تماثلت مع دور “الرجل”. ولكن هناك من يتعين أن يدفع الثمن. إنه الجانب الأدنى طبقيا. لقد ورثت تيريزا العلاقات القهرية التي ترتبط بالملكية وبأخلاقيات الامتلاك في مجتمع متزمت اقطاعي عتيق، بعد أن فوتت من البداية أي فرصة ممكنة للتمرد على أخلاقيات ذلك المجتمع المختل.

سيلفيا طورطوسا أدت ببراعة دور تيريزا

من أفضل عناصر الفيلم الديكور الذي يلعب دورا أساسيا، فديكور منزل دون نيكولو خانق ثقيل الوطأة، تشيع البرودة فى أرجائه، وتصطبغ قطع أثاثه بالألوان الداكنة الكئيبة، وتبدو عليها آثار الزمن كما أن حجراته باردة مظلمة لا يبدو أن لها نوافذ. والممرات طويلة معتمة تناسب أجواء التلصص والسرية والانحراف. أما ديكور المنزل الريفي الصيفي فهو على العكس، مفتوح النوافذ مضيء، يزخر بالحركة والنشاط، تمنحه الخلفية الصوتية من أصوات الطيور والفلاحين والحيوانات وأصوات الخدم والأطفال، الحيوية والحياة. فهو البيت الذي تعلن فيه تيريزا تحررها من عبودية الزوج الاقطاعي، وتتحرر جنسيا، بعد أن تخلع ملابس الحداد.

تؤدي الممثلة سيلفيا طورطوسا التي أنتجت الفيلم أيضا، دور تيريزا ببراعة كبيرة وتجسد الشخصية بتمكن واقتدار، يشاركها البطولة هيرمان بونين في دور دون نيكولو. والطريف أن بونين كان في الماضي الزوج الحقيقي للممثلة سيلفيا، رغم فارق السن الكبير بينهما.

بوستر الفيلم المغربي

الفيلم المغربي

ولكن كيف اقتبس كاتب السيناريو ابراهيم هاني، الفيلم الاسباني ونقل موضوعه وشخصياته إلى الفيلم المغربي “سميرة في الضيعة” (2007) الذي أخرجه لطيف الحلو؟

هناك سميرة (سناء موزيان) ابنة الأسرة الفقيرة من الدار البيضاء، التي تقبل بسعادة على الزواج من رجل يكبرها في العمر كثيرا هو “إدريس” (محمد خوبي) مقابل أن يساعد اسرتها على الخروج من أزمتها المالية الخانقة (تماما كما في الفيلم الاسباني) غير أن “سميرة” تعتقد أنها عن طريق الزواج من هذا الرجل الثري، ستتحرر من حياة الفقر ومن عبودية الحياة داخل أسرتها البائسة.

سميرة مع الزوج العاجز

تنتقل سميرة مع ادريس للعيش معه في الضيعة الكبيرة التي يمتلكها في الريف.  وكما كان الفيلم الاسباني يكسر سياق السرد الدرامي التقليدي الذي يسير من البداية الى الذروة الى النهاية، عن طريق العودة الى الماضي لنرى دون نيكولو في شبابه وهو يتردد على العاهرات في بيوت الدعارة، يكسر فيلم لطيف لحلو وتيرة السرد عن طريق الانتقال بين الحاضر والماضي، لنرى كيف كانت سميرة تقيم علاقة جسدية كاملة مع شاب تحبه وترغب في الزواج منه لكنه يرفض أن يتزوجها. والمقصود أن سميرة أصبحت ضحية للرجل مرتين، فمن أقامت معه علاقة كاملة، رفض الزواج منها، أما من “اشتراها” بأمواله، فقد يرفض تطليقها، مصرا على ابقائها إلى جانبه كملكية خاصة له لا يمكنه التفريط فيها، بعد أن يتضح أنه عاجز جنسيا،  

سميرة التي تزوجت وغادرت المدينة إلى الريف، متصورة أنها ستعثر على الحرية تجد أن الضيعة أصبحت السجن البديل، وهو سجن أكثر قسوة، فهي تعيش مع ادريس، حياة خالية من الود والحب، والأهم، من الإشباع الجنسي. وكما تعثر “السنيورة” على رافاييل الشاب الذي يفور بالحياة ليمنحها التعويض الجنسي، تعثر “سميرة” على “فاروق” (يوسف بريطل) ابن شقيقة زوجها ادريس، وهو شاب يتمتع بالقوة والوسامة، يستقدمه الزوج لمساعدة سميرة في كل ما يتعلق بأشغال المنزل.

لا يشغل بال إدريس سوى أمرين فقط: محصول الأرض ووالده المقعد العاجز. وهو يفرض على سميرة رعاية والده المشلول، أما فاروق فيساعدها في القيام بكل أعمال المنزل الكبير، كما يقوم بطهي الطعام فيتحول تدريجيا من مجرد مساعد إلى الهيمنة على جميع الأمور.
إدريس الذي يدرك عجزه، لا يحاول قط الاقتراب من زوجته المثيرة التي تلجأ إلى كل ما تستطيع من وسائل لإثارته، ولكن دون جدوى. ويصبح محتما أن تقوم بإغواء فاروق. استبعد الفيلم المغربي فكرة الحمل والحصول على وريث رغم أهميتها بالنسبة لأي اقطاعي، كما استبعد موضوع هاجس النظافة المرضي عند الزوج وفكرة الخوف من الجنس، وجعل “إدريس” عاجزا عن الفعل الجنسي يدرك عجزه من البداية، ما استعانته بالفتاة- كزوجة سوى لغرض استغلالها وتسخيرها في خدمته وخدمة والده المشلول، وهو مبرر غير مقنع تماما.

سناء موزيان في لقطة من الفيلم

يستخدم لطيف لحلو الإيحاء بالرمز من خلال الحذاء المدبب اللامع الذي تشتريه سميرة لفاروق عندما تذهب إلى المدينة للتسوق، لكنه يتحسسه دون أن يرتديه بل يحتفظ به داخل دولابه الخاص، وعندما يعثر عليه الزوج المتشكك يدرك أن المحظور قد وقع بين فاروق وسميرة. وفي الفيلم الكثير من المشاهد المثيرة بعضها منقول حرفيا من الفيلم الاسباني ومنها مشهد مداعبة سميرة لجسدها في الفراش.

فجوهر الفكرة في كلا الفيلمين هو استخدام الإيروتيكية لإبراز قوة المرأة ، فهي تتحول من كائن ضعيف مسيطر عليه، شبه خاضع لهيمنة الرجل- الذكر، إلى قوة يمكنها تطويع الرجل والسيطرة عليه بقوة جاذبيتها وقدراتها الجنسية أيضا.

وكما صنع أداء الممثلين رونق الفيلم الاسباني، تبدت في “سميرة في الضيعة” سيطرة لطيف لحلو على أداء الممثلين الذين قدموا أفضل ما عندهم، كما أجاد اختيار مواقع التصوير. رغم هذا ظل هناك شعور بغرابة الأحداث والشخصيات وغربتها عن الواقع المغربي، رغم أنها ترتدي ملابس مغربية وتتحرك في الطبيعة المغربية وتتحدث باللهجة المغربية، هذا الإحساس قد يكون نابعا من غرابة البناء الدرامي على الذهنية العربية. أما موضوعه فهو نفسه في الفيلم الاسباني المقتبس عنه، أي القهر الجنسي كمرادف للقهر الاجتماعي، وتدور الدراما فيه أيضا بين ثلاث شخصيات أساسية هي: الزوج (عجوز منفر عاجز يتقزز من الجنس) والزوجة الحسناء التي تتفجر بالأنوثة، والخادم الوسيم. ويشترك الفيلمان في البيئة الريفية التي تدور فيها الأحداث، ولكن استبدل الفيلم المغربي “السنيورة”، وسماها “سميرة”، ثم جعلها “في الضيعة”!

فيديو فيلم “سميرة في الضيعة” كاملا

https://www.youtube.com/watch?v=hcaFk4u1Zn0
Visited 157 times, 1 visit(s) today