“يا حبيبي لا تعبر ذلك النهر”.. حب إلى الأبد!

Print Friendly, PDF & Email

يكبر الإنسان جسدا لكن يظل في روحه عندما يكون مرتبطا برفقة حب، طفلا، يلهو ويمزح ويشاغب، لكن تأتي مرحلة في خريف العمر، يخذله جسده، يصبح عبئا على أحبائه، وربما يعجز عن التواصل مع رفيقة حياته، ثم يموت، لكن الحب لا يموت. هذا على الاقل ما نخرج به من الفيلم الوثائقي الكوري البديع “ياحبيبي لا تعبر لك النهر” My Love, Don’t Cross That River للمخرج الشاب مو يونغ جن وهو فيلمه الأول.

هذا فيلم بحجم الحياة، عن الحياة كما أنه عن الموت، وعن الإنسان ليس فقط ككائن حي بل كلغز كبير في علاقته بالدنيا، بأبنائه، برفيقته، بالطبيعة، بالحيوانات الأليفة التي تمرح حوله. وكما أنه عن غروب شمس الحياة بعد تلك الرفقة الطويلة، هو ايضا عن القدرة على الاحتفال بالحياة ولو عندما يبلغ المرء أقصى مراحل الشيخوخة.

نحن امام ثنائي، زوج وزوجة، شو بيونغ مان، وكانغ كي يول، الرجل في الثامنة والتسعين من عمرهن والمرأة في التاسعة والثمانين، وهما متزوجتان منذ 75 سنة، ويعيشان في منطقة نائية، في منزل خشبي بين الأشجار في منطقة جبلية ساحرة ستتوقف الكاميرا كويلا أمام ما تفيض به الطبيعة في تلك المنطقة، وكأننا أمام بداية الخليقة: هطولالثلوج، تساقط الأمطار، تفتح الأزهار، ونحن نشاهد علاقة الإثنين ببعضهما البعض، علاقة الحب الممتدة منذ أن تزوجت المرأة وهي في الرابعة عشرة من عمرها كما تروي وكأنها لا تروي، فشخصيات الفيلم تعيش حياتها اليومية على سجيتها رغم وجود الكاميرا التي يمكن للمشاهد أن يلحظ أنهم لا يشعرون بوجودها وهو ما يذكر للمخرج الذي يغرس كاميرته في ذلك المكان أياما وليال طويلة، يراقب ويرصد ويدقق، ولا يبدو ظاهرا في الصورة قط، يستمع الى ما يأتي على لسان الرجل والمرأة من تداعيات في الحي ليست موجهة بشكل مباشر إلينا نحن المشاهدين، بل هي أقرب ما تكون إلى “مونولوج” أي مناجاة للنفس.

يبدأ الفيلم بالمرأة وهي جالسة أمام ما سنتبين أنه مقبرة، تبكي في صمت.. ثم نعود إلى الماضي، لنشاهدها مع زوجها المسن ولكن القوي القادر على تقطيع الأخشاب وحمل فروع الاشجار الجافة والعودة بها الى المنزل.. المرأة تطلب وتلح عليه أن يغني لها أغنية بينما تختفي هي داخل غرفة الحمام، فهي تخشى ظلام الغرفة.. ويستجيب هو ببساطة، ثم تتابع الكاميرا المحمولة الحرة قيام الإثنين بازاحة الثلوج التي تراكمت أمام المنزل، لقد حل الشتاء بعد ان انقضى الخريف وانتشرت الثلوج فوق قمم الجبال القريبة التي تحلق في عمق الصورة.. يقول لها إن أكل الثلج يقوي النظر ويمنناولها قطعة من الثلج الأبيض فتأكلها مبدية استحسانها لطعمه!

يلهو الاثنان معا بالقاء كتل الثلج فوق رءوس بعضهما البعض وكأنهما طفلان صغيران.. يصنع كل منهما من كتل الثلج تمثالا يقول إنه يشبه الآخر.. عندما يرقدان في الليل، بمسك كلمنهما بيد الآخر. لديهما كلبتان  كيدو وفريبي.. الأولى بيضاء والثانية سوداء. يتبطان بهما أشد الاتباط.. بعد ان مبر الأبناء وابتعدوا واضبحت لهم أسر وأبناء، وهم يقومون – كما سنرى- بين الحين والآخر- بزيارة والديهما. يسير الرجل وزوجته متشابكي الأيدي، يرتديان الملابس الكورية التقليدية المتشابهة بألوانها الزاهية.. يذهبان للسوق في ابلدة القريبة، تشتري المرأة الهاديا لحفيداتها.. تروي أنها أنجبت 12 طفلا، لم يعش منهم سوى 6 فقط.. وفي مشهد يمهد لما سنراه فيما بعد، يحاول الرجل تعليق مرآة كبيرة على الجدار في ساحة المنزل لكنه لا يستيع رفعها.. تساعده ابنته وزوجته بصعوبة.. لقد بدأت قواه تخور وهو ابن البرية الذي اعتاد العمل اليدوي يوميا. يأتي الأبناء بوةجاتهم وأطفالهم، وتنشب المشاجرات بين احدى البنات وشقيقها، تتهمه هي بالتقاعس عن زيارة الاب أثناء مرضه… الزوجة الأم ركبتها تؤلمها.. مشاهد بديعة لقيام النساء باعداد الأطعمة الشهية على الطريقة الكورية.. الكاميرا لا تتوقف عن الحركة، تهتز في بهجة وهي تجوس بين الطاولات والأشخاص.

الكلبة كيدو تموت. يبكيان عليها بكاء مريرا صادقا حقيقا مباشرا أمام الكاميرا فالمخرج يقيم ليلا ونهارا، قرر أن يبقى ليتابع كيف تتطور تلك العلاقة الغريبة الطويلة الممتدة لاكثر من سبعة عقود. يدفنان الكلبة، وتصبح الكلبة الثانية حامل، ثم تضع ستة كلاب.. يهب الاثنان بملابسهما الزاهية الى العيادة في البلدة، فالمرأة تشكون من آلام الركبة.. تحصل على حقنة مسكنة ويعود الاثنان ثم يبدأ الرجل في السعال الشديد، الاثنان يرقدان عادة على أرضية الغرفة الخشبية.. هكذا اعتادا أن يفعلا.. ولعل هذه الطريقة هي الأفضل من الناحية الصحية. وفاة الكلبة أثرت على الحالة النفسية للرجل.. لقد أصبح الآن يرفض الرجل الطعام.. الابنة الصغرى تبكي بعد ان ترى كيف تدهورت حالته.. الإبن الأكبر يأتي، يناجي والده المريض الموشك علىالموت، يعتذر كثريا مكررا أنه يأسف لكونه لم يكن إبنا جيدا، لكنه يتعهد بأن يصبح من الآن.

من التقاليد الكورية أن تبدأ المرأة كما تروي لنا، في حرق كميات من ملابس الرجل بعد ان يةشك على الموت، تدريجيا. وهي تفعل في مشاهد بديعة وسط الطبيعة.. لكن التداعيات تهاجم ذاكرتها.. ذكريات تلك الايام الحلوة مع زوجها وهما يرتديان الملابس المتشابهة الألوان (الأصفر والأحمر). هذا بالطبع مشهد من تلك التي صورها المخرج في الماضي قبل تدهور الحالى الصحية للرجل. هنا يتغير الشريط الموسيقي للفيلم من موسيقى البيانو بدقاتها الرقيقة الجولة التي استمرت في الجزء الأول من الفيلم، إلى نبرات ثقيلة للبيانو ممزوجة بنغمات التشيللو والكمان الجنائزية الحزينة. ونرى لقطة للكرسي الذي اعتاد الرجل الجلوس فوقه خارج المنزل، ولقطات للثلج يغطي الأرض، لقد مات الرجل. ويتجمع أفراد الأسرة حوله، ثم الجنازة والإبن الأكبر يسير وهو يحمل صورة والده، ثم تشعل الزوجة النار في باقي الملابس.

وأمام مقبرة الزوج تجلس الزوجة لتبكي في مرارة وشعور قاس بالوحدة. تضرب الارض بقدميها، وتتأمل طويلا وطويلا.

مخرج الفيلم يعرف بالضبط أين يقطع من لقطة إلى أخرى، وكيف يبني المشهد من لقطات للشخصيات يمزجها بحس رفيع بلقطات للطبيعة والطيور والحيوانات فهذا هو المحيط الذي يعيش فيه الرجل والمرأة بطلا هذه القصة منذ عشرات السنين. وهو أيضا يعرف كيف يستخدم الكاميرا المتحركة يبني بواسكتها مشهدا مكونا من لقطات متغيرة الأحجام من دون أن يستخدم القطع.. الحديث في الفيلم قليل ومقتصد للغاية، والصورة هي التي تتكلم، وشريط الصوت البديع يلعب دورا رئيسيا في توصيل الإحساس بالمكان، بالطبيعة، بالحالة النفسية للشخصيتين الرئيسيتين: الرجل والمرأة.

عندما عرض هذا الفيلم في كوريا الجنوبية، حقق نجاحا لم يسبق أن حققه فيلم وثائقي من قبل فقد تفوق في الإيرادات على فيلمين من الأفلام الأمريكية الشعبية الكبيرة: “بين النجوم” و”إكسودس” (أو الخروج). والمثير للاهتمام أن هذا الفيلم الوثائقي الذي يخلو تماما من الشباب والجمال والإثارة والقدرة على الحديث المنمق والذي يمكن أن يشعر المشاد بالانقباض والرهبة والوجل، أقبل عليه الشباب في العشرينات بنسبة 42 في المائة، وشباب الثلاثينيات بنسبة 23 في المائة، أي أن مجموع م نشاهده بلغ 65 في المائة من الشباب. ولاشك أن السبب يعود إلى ما تركه الفيلم من أثر كبير على المشاعر، ونتيجة لصدق مخرجه في التعبير عن علاقة الحب الجميل بين اثنين ينتميان في النهاية الى كوكبنا.

Visited 26 times, 1 visit(s) today