“قائمة شندلر”.. بيان ستيفن سبيلبرج الصهيوني
منذ ما قبل نزوله إلى دور العرض السينمائي في عام 1993، بل وحتى من قبل، أو أثناء تصويره، أثار فيلم «قائمة شندلر» Schindler’s List ضجة كبرى في الإعلام الغربي.
ويعود سبب الضجة إلى الأسباب التالية:
اولا: أن هذا هو أول فيلم هوليوودي من الإنتاج الضخم عن «الهولوكوست».
ثانيا: مخرج الفيلم هو أكثر المخرجين شهرة وتحقيقا للنجاح في تاريخ السينما العالمية وهو ستيفن سبيلبرج صاحب الأفلام التي حققت أكبر الايرادات في العصر مثل «الفك المفترس» و «إنديانا جونز» و «الحديقة الجوراسية» وغير ذلك.
ثالثا: أن الموضوع الرئيسي ـ أو الوحيد ـ في الفيلم يتعلق باليهود، واليهود هم أغلبية مؤثرة في صناعة السينما الأمريكية وفي الإعلام الأمريكي والغربي عموما.
رابعا: جاء عرض الفيلم مع الاستعدادات للاحتفال بمرور 50 سنة على الحرب العالمية الثانية، وبالتالي على «الهولوكوست».
لكل هذه الأسباب مجتمعة، أعتُبر «قائمة شندلر» حدثا كبيرا في تاريخ السينما. وقد ظهر الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية قبل أسبوع من افتتاح عرض الفيلم في لندن، وعلى غلافه صورة كبيرة من الفيلم كتب تحتها بالحروف الكبيرة: «قائمة شندلر: أعظم فيلم في تاريخ السينما المعاصرة». وأضيف إلى هذا كله، ترشيح «قائمة شندلر» للحصول على اثنتي عشرة جائزة من جوائز الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية المعروفة بجوائز «الأوسكار» وهى الجوائز الأكثر شهرة بين جمهور السينما في العالم، ثم حصوله بالفعل على سبع جوائز منها.
تحول «قائمة شندلر» إذن إلى «أيقونة» مقدسة بل وأصبح ـ ربما للمرة الأولى في تاريخ السينما ـ حدثاً بارزا ًيتصدر العناوين الرئيسية لنشرات الأخبار في محطات الإذاعة والتليفزيون، بل ونقلت وسائل الإعلام في الغرب في مطبوعاتها ونشراتها المصورة، افتتاح العرض الأول للفيلم في ألمانيا بحضور رئيس الجمهورية الألمانية. ولم يكن النشر أو البث، في صفحات الفن والتسلية ولا في برامج المنوعات، بل في صدر الصفحات الأولى السياسية، وضمن فقرات النشرات الإخبارية الرئيسية. إلى جانب هذا، خصصت محطات التليفزيون برامج كاملة تم بثها مع بدء عرض الفيلم في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا ـ عن أوسكار شندلر الرجل الحقيقي الذي يدور حوله الفيلم، وعن الشخصيات الحقيقية للألف ومائتي يهودي الذين نجوا من معسكرات الاعتقال النازية بفضل شندلر كما يقال.
«قائمة شندلر» هو أول فيلم أمريكي «كبير» عن «النجاة» وعن الذين نجوا (وهم بالمناسبة كثيرون جدا)، وعن ألماني «طيب» يفترض أنه ساعد اليهود وأنقذهم من ملاقاة مصيرهم المزعوم في غرف الغاز، ولذا فقد واجه الفيلم الرفض والهجوم من جانب بعض اليهود المتشددين إلى حد الهوس، بدعوى أنه يجعل من الاستثناء قاعدة، أي يجعل من شندلرـ وهو ألماني تعاطف مع اليهود ـ بطلا في أنظار الرأي العام.
غير أن التيار اليهودي العام رحب بالفيلم، لأنه أدرك بوعيه، أنه لا يخلع البطولة على شخصية ألماني نازي، بقدر ما يستخدم هذه الشخصية لكي يستفيض في تصوير مأساة «الهولوكوست» في سياق درامي مؤثر، كما أنه فيلم مخلص تماما لأبجديات «السينما الصهيونية».
من هو إذن أوسكار شندلر الذي يتمحور حوله الفيلم؟
شندلر ـ كما يصوره كتاب توماس كينلي الذي أُعد عنه سيناريو الفيلم ـ رجل ألماني طموح، لم يكن طموحه يعرف حدا، كان يسعى يكمل طريقة ممكنة إلى تحقيق الثراء السريع. وهو صناعي ألماني وعضو بالحزب النازي، متألق، زير نساء، محب للحياة، وجد فرصة لا تعوض بعد انفجار الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا لبولندا، فتوجه إلى مدينة كراكوف البولندية، وأراد أن يقيم قاعدة رأسمالية لصناعته عن طريق الاستيلاء على مصنع لإنتاج المواد المعدنية، وتشغيل اليهود فيه كقوة عمل قادرة ـ ولكن أساسا ـ مجانية. أي أنها باختصار فرصة لاستثمار يهود الجيتو في وضع أشبه بالعبودية لتحقيق أكبر عائدات مالية يمكن تخيلها.
ومن أجل أن يتوفر لشندلر الحصول على العدد الذي يريده من يهود الجيتو، يستغل علاقاته بضباط القوات الخاصة النازية (إس إس) الذين يقومون بترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال، ويقوم برشوتهم بالذهب والمجوهرات، من أجل السماح له باستخدام اليهود القادرين على العمل، أى أنه ـ بالأحرى ـ يحول المصنع الذي استولى عليه إلى «معسكر للعمل الإجباري» لحسابه الخاص.
وتدريجيا، تنشأ علاقة طيبة تربطه بشتيرن اليهودي الذي يدير له المصنع ويضبط حساباته، كما يبدأ في التعاطف مع اليهود العاملين عنده.
أوسكار شندلر – كما يصوره فيلم سبيلبرج- ثرى حرب مخلص لمصالحه الخاصة استفاد من الوضع العام المحيط به: صعود النازية، اندلاع الحرب، تجميع اليهود في الجيتو، ثم ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال، غير أنه يدرك في المراحل الأخيرة من الحرب، وبعد أن أصبحت ألمانيا على وشك الانهيار والاستسلام ومع نمو وعيه إزاء ما ارتُكب بحق اليهود، أنه يستطيع استغلال علاقاته وقربه من الضباط النازيين، لشراء بعض أرواح اليهود، فيقوم بالتعاون مع مساعده شتيرن في إعداد قائمة تضم 1200 يهودي ـ هي «قائمة شندلر»، ويدفع الرشاوى للنازيين من أجل تخليص عماله اليهود من المصير المنتظر والإبقاء عليهم عمالاً في مصنعه حتى النهاية.
ويجسد فيلم سبيلبرج التناقض بين شخصيتي شندلر وأمون جويث الضابط الألماني الذي أصبح مديرا لمعسكر الاعتقال في كراكوف. فالثاني نموذج للنازي السادي الذي يتمتع بممارسة قتل اليهود بصورة عشوائية، ولا يرحم حتى الأطفال، بل إننا نراه في أحد المشاهد، وهو يصوب بندقيته في اتجاه رؤوس أفراد المعسكر من اليهود واصطيادهم برصاصاته واحدا تلو الآخر، وبعد أن يفرغ من ممارسة تلك الرياضة الصباحية، يتوجه إلى المرحاض لكي يتبول.
فيلم «قائمة شندلر» ليس فيلما تاريخا موثقا، رغم اعتماده على أسلوب سينما الحقيقة من الناحية الظاهرية الجمالية: كاميرا محمولة على الكتف معظم الوقت، تقسيم الفصول بواسطة عناوين مكتوبة على الشاشة تشير إلى تغير المكان والزمان أو تحدد طبيعة الحدث قبل مشاهدته (بدء تصفية جيتو كراكوف مثلا)، استخدام الأبيض والأسود عوضا عن الألوان باستثناء لقطات محدودة يستخدم فيها اللون الأحمر تحديدا لتركيز انتباه المتفرج على أحد التفاصيل المثيرة. غير أن البناء العام للفيلم هو بناء فيلم الحبكة الروائية، ومفرداته هي نفسها مفردات الفيلم الهوليوودي التقليدي مع لمسات واضحة من أعمال أيزنشتاين (فيلم «الاضراب» تحديدا).
ويعتبر «قائمة شندلر» أفضل أفلام مخرجه من الناحية السينمائية بسبب تلك التأثيرات الواضحة على أسلوب الإخراج، وبسبب دقة السيناريو الذي كتبه ستيفن زيليان، والتصوير المتميز للمصور البولندى زانوس كامينسكي الذي يهتم كثيرا باستخدام الظلال والإضاءة الطبيعية وتكثيف المشاهد بلغة مرئية متميزة، مما جعل البعض يعرب عن احتجاجه على تصوير مشاهد شديدة القسوة بلغة سينمائية شاعرية شفافة مع خلفية موسيقية مؤثرة.
أما من الناحية الفكرية، فمن الممكن القول بثقة إن فيلم سبيلبرج هو البيان السينمائي الصهيوني المباشر لمخرجه، فسبيلبرج صهيوني يدرك ذلك ويعبر عنه بشتى الطرق، ليس أولها بالطبع تبرعه بأجره حتى لا يقال إنه يتاجر بمأساة اليهود، ومغازلته للوكالة اليهودية العالمية التي اعتبرت الفيلم ـ هي ومنظمة بناي يريث اليهودية العنصرية ـ فيلمها. أضف إلى هذا، تصوير المشاهد الأخيرة للفيلم في إسرائيل حيث يوجد ستة آلاف شخص هم أسلاف الذين أنقذهم شندلر، نشاهدهم يتقاطرون واحدا وراء الآخر، في لقطات طويلة وكأن المخرج يقول لنا: لا تنسوا أن هؤلاء الناس يتمتعون اليوم بالعيش الحر بفضل الدولة اليهودية، ثم إهداء الفيلم إلى الضحايا من أبناء الشعب اليهودي، واستخدام أغنية النصر العسكري الإسرائيلي في حرب 67، والمشهد الأخير في الفيلم الذي يدور في إسرائيل هو المشهد الوحيد الذي يصوره سبيلبرج كاملا بالألوان دلالة على تحقق الخلاص اليهودي في أرض الميعاد.
ورغم مئات الآلاف من الصفحات التي كتبت ولا تزال، عن «غرف الغاز»، لم يتجرأ سبيلبرج على تصوير غرفة غاز واحدة من الداخل، بل اكتفي بالإيحاء بوجود عملية الخنق بالغاز السام في غرف الحمام (الدوش) كما صور المداخن التي يتصاعد منها الدخان باعتبارها المداخن المزعومة للمحارق. ويمتلئ الفيلم بعشرات اللقطات العارية التي تعبث بالجسد البشرى، لكي يقول لنا أن النازيين كانوا يتلذذون بمشاهدة، بل وبتحسس أجساد اليهوديات العاريات، ويرينا في مشهد آخر الأطباء الألمان وهم يختارون من بين اليهود من يصلح لإجراء التجارب الطبية عليه، ويصور القتل العشوائي المجاني بالرصاص لعشرات المعتقلين اليهود، كما يصور أماكن حرق الجثث في العراء التي تدور حولها خلافات تاريخية بين القائلين بنظرية «الإبادة الجماعية» وأنصار فكرة أنها كانت مخصصة للتخلص من جثث ضحايا الأوبئة والأمراض الفتاكة. ورغم زعمه التمسك بالدقة التاريخية، يقع سبيلبرج في أخطاء عديدة في الفيلم منها على سبيل المثال، أن شندلر ينتهي بعد الحرب رجلا معدما مفلسا بعد أن ضحى بكل ما يملك من أجل إنقاذ اليهود المساكين (لا يشرح لنا الفيلم سر قيامه بذلك) الا أن شندلر الحقيقى خرج من التجربة وجيوبه تمتلئ بالمال، بل إن هناك نظرية كاملة تقول إنه كان عميلا للمنظمة الصهيونية العالمية، أى أنه قبض مقابل القيام بالمهمة.
ورغم الجهد الكبير الذي بذل في تصوير الفيلم وما أتيح لمخرجه من إمكانات إنتاجية، فقد انبرى بعض النقاد اليهود للهجوم عليه والسخرية من عاطفيته. من بين هؤلاء الناقد الاسرائيلي «الأكاديمي» سيمون لوفيش الذي كتب يقول: «يطرح فيلم ستيفن سبيلبرج «قائمة شندلر» مجددا التساؤل عن حدود تخيل ما لا يمكن تخيله. إن الهولوكوست ليس موضوعا جديدا في السينما، وقد فشلت دوما الجهود التي بذلت بحس نية لمقاومة الصور النمطية التي أصبحت شديدة الألفة، لمعسكرات الاعتقال النازية ونزلائها، حتى فقدت قدرتها على تحقيق الصدمة. إننا نواجه ظاهرة كلاسيكية من «الضعف العاطفي[…]. في فيلمه السابق عن الحرب العالمية الثانية «إمبراطورية الشمس» (1987)، أساء سبيلبرج التعامل مع رواية ج. بالارد الصارمة البناء، وأضفي مبالغات عاطفية على رحلة بطلها الطفل عبر الآلة العسكرية اليابانية. وإذا وضعنا في الاعتبار ما أتيح له من امكانات، أصبح مبدأ «اعرض لا تتكلم» وصية حرفية. عندما يسترجع بالارد الذعر الذي يسيطر على شنغهاى مع تقدم القوات اليابانية، يرينا سبيلبرج المشهد كله في كادر يمتلئ حسب الطريقة القديمة، بآلاف الكومبارس. ولا يترك شيئا لخيالنا، لهذا فإن خيالنا ينمحي. إننا نصبح، حسب المبدأ السائد في الفيلم الأمريكي المعاصر، مجرد مستهلكين سلبيين للعواطف التي تتجسد بقوة على الشاشة. والنتيجة هي ما يطلق عليه علماء النفس «تسطيح الشعور». فكل شئ يتساوى عندما يتم تجسيده بالطريقة نفسها: أفلام الخيال العلمي، الجريمة، الرومانسية، الهولوكوست، والحرب. المهم أن يدفع الجمهور ثمن التذاكر. وسبيلبيرج، على سبيل المثال، يدرك أن هذه الطريقة لا تستطيع أن تمنع الماء من التسرب إذا كان يريد حقا الاقتراب من ذلك المحظور الكبير في الفيلم الأمريكي، أي التعليم، وليس التسلية».
- من كتاب أمير العمري- “سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية”- الطبعة الثانية، 2006.