فيلم ستيف ماكوين الجديد يفتتح مهرجان لندن السينمائي
لا شك أن دورة هذا العام، وهي رقم 64 من مهرجان لندن السينمائي (7-18 أكتوبر)، هي دورة خاصة، لم يسبق لها مثيل، فهي تأتي في خضم ارتفاع موجة العدوى بفيروس كورونا بدرجة غير مسبوقة في بريطانيا، بحيث أصبح هناك شخص من بين كل 500 مصاب بالفيروس اللعين.
للمرة الأولى منذ عشرات السنين من تاريخ هذا المهرجان العريق، يتم الافتتاح مساء الأربعاء 7 أكتوبر، بعيدا عن “ليستر سكوير” في قلب لندن، ومن دون السجاد الأحمر الشهير. فقد افتتح المهرجان في القاعة الكبرى بمركز السينما البريطاني BFI على الضفة الجنوبية لنهر التايمز في أجواء أكثر صرامة وتشددا، مع مراعاة التباعد الاجتماعي خارج وداخل القاعة، ووضع الكمامات على الوجوه وتقليل عدد الحاضرين.
فيلم الافتتاح هو “مانغروف” Mangrove، وهو الفيلم الأول ضمن سلسلة تتكون من خمسة أفلام للمخرج البريطاني (من أصول أفريقية) “ستيف ماكوين” (صاحب فيلم “12 عاما في العبودية) الذي افتتح به المهرجان قبل ست سنوات. وسيعرض مهرجان لندن أيضا فيلم “صخرة العشاق” Lovers Rock وهو الفيلم الثاني في هذه السلسلة الجديدة التي أخرجها ماكوين لحساب تليفزيون بي بي سي، وتروي تاريخ النضال الأسود ضد العنصرية البريطانية من الستينات إلى الثمانينات. وقد أطلق على السلسلة اسم “small axe” وهو تعبير ابتكره سكان جزر الهند الغربية أو الكاريبي، في الإشارة الى الوحدة الضرورية فيما بينهم لمواجهة القهر.
افتتاح المهرجان جاء مع خبر قرار شبكة سيني وورلد، ثاني أكبر شبكات دور العرض البريطانية، إغلاق دور السينما التابعة لها سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة، والاستغناء عن خدمات 5500 موظف، نتيجة عدم جدوى الإبقاء على دور العرض مفتوحة مع ندرة الأفلام الكبيرة وتأجيل أفلام كانت منتظرة مثل فيلم جيمس بوند الجديد، وكلها من الأفلام التي تعتمد عليها دور السينما في جذب الجمهور العريض وبالتالي التغلب على مسلسل الخسائر المادية الهائلة التي تتكبدها دور السينما حول العالم بسبب الوباء.
ونتيجة قلة عدد الأفلام الجديدة الجيدة المنتجة في 2020، قلص المهرجان عدد أفلام برنامجه من 230 فيلما الى 60 فيلما فقط من بينها 6 أفلام ستعرض 12 عرضا في بعض دور السينما في عموم بريطانيا (وليس لندن فقط) كإشارة رمزية الى دعم دور السينما والفكرة الأصلية للمهرجان، واحالة الـ 54 فيلما الباقية للعرض عبر شبكة الانترنت بتذاكر مدفوعة مسبقا للجمهور.
أما اختيار فيلم الافتتاح فجاء تعبيرا عن الرغبة في إبداء التضامن مع حركة “حياة السود مهمة” التي اندلعت في العالم بعد مقتل الشاب الأسود جورج فلويد بطريقة وحشية، على أيدي الشرطة الأمريكية في شهر مايو الماضي. ويروي فيلم “مانغروف” قصة المطعم الشهير الذي يحمل الاسم نفسه الذي افتتحه في حي نوتنغ هيل في غرب لندن، رجل من أصل افريقي هو Frank Crichlow فرانك كريشلو الذي افتتح في عام 1968 مطعما كان يستقبل الرواد السود الراغبين في الاحتفال بثقافتهم الخاصة في الطعام والموسيقى والرقص وقضاء أمسيات ممتعة، دون أن نوع من الشغب أو التعرض لأحد، إلا أن هذا المطعم وصاحبه المسالم، تعرض لمداهمات عنيفة من جانب الشرطة مدفوعة بنزعة عنصرية واضحة ضد الملونين، وفي كل مرة كان يتم الاعتداء بالضرب على صاحب المطعم ورواده وطردهم وتحطيم محتويات المطعم.
ونرى في الفيلم هذه السلسة من الاعتداءات موثقة كما وقعت وكما رواها شهود العيان، ثم كيف تطور الأمر الى صحوة سوداء، وتنظيم حركة احتجاج دعت الى خروج تظاهرة مكونة من 150 شخصا للتظاهر ضد عنف الشرطة. فما كان سوى أن قبض على تسعة من النشطاء من الرجال والنساء، وجهت إليهم اتهامات بالدعوة الى العنف والتحريض ضد الشرطة والاعتداء على رجالها وهم ينفذون القانون.
الجزء الثاني من الفيلم يدور في معظمه داخل قاعة المحكمة، حيث يري نظر القضية في عام 1970، مصورا انحياز القضاء ضد السود، والشهادات الكاذبة التي تقدم بها ضباط الشرطة ضد المتهمين، ثم قرار معظم المتهمين التسعة (ثمانية منهم) الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم مظهرين براعة ولباقة وذكاء، في عرض قضيتهم، مما أدى إلى إقتناع المحلفين ببراءتهم جميعا. وكانت تلك الثمرة بداية النضال الطويل الذي لايزال مستمرا ضد عنف الشرطة والتعصب العنصري بشكل عام في بريطانيا.
ستيف ماكوين يروي موضوعا يعرف أبعداه جيدا، فقد نشأ في السبعينات الثمانينات، واستمع الى قصة “مانغروف” من والديه وأقاربه، وتعرض بنفسه للتفرقة العنصرية وعانى منها، ورغم أن فيلمه يدور في الماضي، مع إعادة تشكيل وتجسيد وتصوير جميع تفاصيل الفترة واستخدام بعض الصور الفوتوغرافية ومزجها مع الصور التي تظهر تفاصيل الحي الشهير الذي كان قد اصبح منذ عام 1966 موطنا للكرنفال السنوي الشهير الذي يقيمه السكان من السود ذوي الأصول الكاريبية، إلا أن ماكوين يخصص مساحات جيدة لكل من المناضلين التسعة، على تباينهم وكيف تجري المناقشات فيما بينهم وكيف كانت اختلافاتهم الى أن يصلوا إلى الاقتناع بأن قوتهم تكمن في اتحادهم معا ومواجهة الاضطهاد بالاحتجاج السلمي. وكان ذلك أيضا في وقت برزت فيه حركة الفهود السود التي أبرزت “القوة السوداء” في الولايات المتحدة.
وفي الفيلم تقوم ليتيتا رايت بدور “إليثيا جونز” المناضلة المتأثرة بحركة الفهود السود، التي ترفض الخنوع وتدعو إلى المقاومة العنيفة، كحق طبيعي في درء عنف الشرطة، الذي يجعله ستيف ماكوين في الفيلم- كما كان في الواقع- موقف “المؤسسة” التي مازالت تتحكم في توجيه الأمور داخل بريطانيا، رغم الكثير من الإصلاحات التي أدخلت على جهاز الشرطة.
ورغم ذلك لا يغفل الفيلم تصوير تعاطف البعض من البريطانيين البيض مع قضية المتهمين التسعة وقضية السود عموما، كما يصور ببراعة، الأجواء الحميمية داخل مطعم “مانغروف”، الذي أصبح ملتقى للسعادة والمتعة والاحتفال بالموسيقى والخصوصية الثقافية، مما أوغر صدر ضابط شرطة الحي الذي لجأ على افتعال الأزمات والادعاء بأن المكان قد أصبح وكرا للإجرام والمخدرات.
صحيح أن الفيلم أحد أفلام الرسالة الاجتماعية- السياسية، إلا ان براعة أسلوب ستيف ماكوين وموهبته الكبيرة التي تبدت بوضوح في أفلامه الثلاثة السابقة، جعلت الفيلم يرتفع ليصبح أيضا عملا فنيا رفيعا، بصوره وموسيقاه وايقاعه وأداء ممثليه الذين يتقمصون بكل صدق وحميمية أدوار أبطال “نوتنغ هيل” التسعة كما لو كانوا يعيدون تجسيد تجربتهم الخاصة.