“مايكل كلايتون”.. إنقلاب المخادع على خداعه

Print Friendly, PDF & Email

عبدالله يحيى

يسرد فيلم “مايكل كلايتون” “Michael Clayton” تفاصيل خمسة أيام مفصلية في حياة شخصية مايكل كلايتون؛ الرجل الذي يعمل كمصلح مشاكل ومنفذ للمهام الخفية لصالح شركة محاماة كبيرة تُدعى (كينير، باك أند ليدين)، ولديه المهارة لإيجاد حلول للمشاكل المستعصية خلف الأبواب المغلقة مهما كانت السبل غير القانونية لتحقيق ذلك. يخوض الفيلم من خلال حياة تلك الشخصية في الصراع الدائر ما بين شركة مبيدات كيميائية تدعي (نيويورث) مع عائلات المزارع التي قامت برفع دعوة قضائية بسبب أضرار تلك المواد المُصنعة وتوابعها الكارثية على حيواتهم.

فيلم “مايكل كلايتون” من كتابة وإخراج توني جيلروي هو فيلمًا عن الصراع الأزلي بين الفرد والمؤسسة؛ الإحتدام الذي يزداد تأججه يومًا تلو الآخر بين الشركات الكبرى التي تسعى للمزيد والمزيد من الأرباح التي بطبيعة الحال تتأتى على حساب سلامة وصحة المواطنين والعاملين بتلك الشركات. ولكن بالاستعانة بسيناريو محكم يتسلل جيلروي ليقدم دراسة شخصية عن مايكل كلايتون الذي يعاني على المستوى الشخصي في تسديد ديونه، كما يعاني على المستوى المهني من تهميش دوره كمحامي لحساب دور التابع الوفي للشركة.

يستفيد جيلروي من خبرته في كتابة سلسلة أفلام الأكشن الشهيرة بورن “The Bourne franchise” في إضفاء نوع من الحيوية والإثارة والإلتواءات السردية في رفع وتيرة الأحداث وضخ الإجابات بين الأسئلة المتتالية. لا يرغب الفيلم بالتعمق كثيرًا في تفاصيل الدعوة القضائية لكنه يركز إنتباهه على ثلاثية محورية بالأحداث ألا وهي شركة “نيويورث” وشركة المحاماة “كينير، باك أند ليدين” التي تمثل “نيويورث” بالدعوة القضائية المرفوعة عليها ومايكل كلايتون وهو الطرف الذي يحاول إعادة الأمور لمجراها عقب نوبة الإنهيار العصبي التي تعرض لها أرثر أيدينز – أحد شركاء “كينير، باك أند ليدين” والذي يدير حملة الدفاع عن “نيويورث”.

يبدأ الفيلم بتعريف سريع موجز  وعبقري عن شركة المحاماة وتلميح لنقطة التحول في حكايتنا؛ نتابع على الشاشة أضواء الليل الساكن ولقطة علوية تقترب فيها الكاميرا رويدًا رويدًا لتقتحم مبنى الشركة وتتسلل بالسير  بين جدرانه، في أثناء ذلك وحتى قبل دخول الكاميرا للمبنى نستمع لصوت خلفي تحكي فيه شخصية أرثر أنديز عن اللحظة التي إنهار  فيها عصبيًا وأقترنت بقرار  تغيير  مسار حياته؛ صوت فوضوي محشور  ضل طريقه وهو  يفتش بين ثنايا الليل عن ملفات الإنحطاط المؤسسي وضياع الذات وإنحصار عمره في اللاشيء، هو لا يسرد تفاصيل واضحة مفهمونة لكنه يطلق العنان لمشاعره الغامرة في التعبير  المتخبط عن لحظة النور  التي جعلته يتشكك في مهمته وشركته وكل ما آلت إليه حياته، هو يتحدث بصوت رجل فقد عقله أو هكذا نشعر  كمشاهدين للوهلة الأولى لكن سرعان ما يتكشف لنا أن تلك الكلمات كانت لرجل خرج من أسفل ضباب العجلة الرأسمالية غير المكترثة بالضحايا والأشلاء من حولها. تتعالى أصوات الموسيقى التصويرية وتتعالى معها حدة صوت أرثر كلما أقتربت الكاميرا من صالة تجمع المحامين بالشركة حتى ينقطع صوتهما وتبدأ من هنا رحلة الفيلم في تجسيد ذلك الإحتقار الكامن بصوت أرثر. لا ينتظر الفيلم كثيرًا حتى يعطينا مكالمة تليفيونية لمدير الشركة كنبذة مبدأية عن ذلك.

وكما برع الفيلم في تقديم أرثر وشركة المحاماة، يبدأ الفيلم بعدها من نهاية القصة أو بمعنى أدق باليوم الرابع للأحداث لتقديم نبذة اخرى موجزة عن شخصيتنا الرئيسية مايكل كلايتون، نعاين وجوده في صالة مقامرة إلى أن يأتيه إتصال يهرع فيه لمساعدة عميل مهم لشركة المحاماة لحل مشكلة إصطدام سيارته بأحد المارة، وبينما نعتقد أن الفيلم سيسير  في إتجاه قصة لإستعراض مهارات مايكل ومعاينة حلوله لمشاكله الشخصية ومهماته المهنية نفاجأ بتحول في دفة الأحداث، وينتهي المشهد بمحاولة إغتيال صادمة لمايكل تقوم بربط مايكل بالحكاية الرئيسة من جهة وتعيدنا بالأحداث للخلف بفلاش باك طويل يستغرق أربعة ليال لنبحث بداخلها بتشوق عن سبب ذلك المنعطف.

لا يتوانى سيناريو الفيلم عن إعطاء شخصياته جميعها الفرصة لأخذ حيزها من الرصد وتبرير موقفها، يتنقل بخفة وتناسق ما بين تفاقم حالة أرثر الذي يعاني من مشاكل عقلية جراء ما حدث في ماضيه وإختلاط ذلك الخلل العقلي مع لحظة التبصر الذاتي والإستفاقة، وما بين شخصية كارين (المحامية الرئيسية بشركة نيويورث) التي تتعامل مع ضغط إثبات جدارتها أمام رئيسها بالعمل، وما بين مشاكل مايكل الشخصية وعلاقته المضطربة مع أرثر ورئيسه مارتي.

Michael Clayton Movie

يتمكن الفيلم من إيجاد توازن ملحوظ في ربط كل تلك الخطوط الدرامية لتكمل بعضها البعض. نشاهد -على سبيل المثال- أبن مايكل يقص على والده موضوع كتاب أعجبه يسمى “المملكة والغزو”، تدور قصة الكتاب عن هؤلاء الأشخاص الذين تجمعهم رؤية وحلم موحد للذهاب وغزو مكان ما، تبدو الحكاية وكأنها محاكاة مصغرة لوضع الأفراد في المجتمع الرأسمالي حيث كل شخص بمفرده ويصعب أن تأمن لآخر  ويجب أن يجتمعوا يومًا ما لغزو  هذه الهيمنة الإستهلاكية المدمرة، عند سماع مايكل لأبنه بيدو عليه عدم الإكتراث بل أنه لم يعلم من الأساس أن الكتاب أهداه أبنه إياه وموجود بمنزله،.

وعلى النقيض عندما يقص الأبن حكاية الكتاب على أرثر يطلب منه أسم الكتاب ليقرأه ويكون ذلك الكتاب فيما بعد هو المفتاح الذي يودي بمصير شركة نيويورث للدمار ، هنا يتحول الكتاب ببراعة من إسقاط رمزي لسلاح درامي يغير  دفة الصراع بشكل حرفي عندما يجد مايكل بداخل نسخة أرثر  من الكتاب رسالة خاصة له. رمزية الكتاب تخدم حبكة القصة بشكل مثمر لكنها كذلك تعطي إنطباع عن حياة مايكل اللاهثة خلف الإنشغال للدرجة التي لم تنسه فقط حياته كمحامي كان من المفترض أن يرتقي ليصبح شريك بالشركة لكنها كذلك تمنعه من إعطاء الإهتمام اللازم لأبنه ومشاركته في أبسط إهتماماته.

لكن مايكل شخصية مركبة يقدم الفيلم تحليلاً ذكيًا لحالتها؛ فهو نفس الشخص الذي يكون على إستعداد للإستغناء عن حانته وآخر مدخراته لإنقاذ أخيه، يستخدم حيله للحصول على المال من رئيسه لكنه يحصل على أكثر مما يحتاجه لسد الديون، يُقدر  صديقه أرثر  ويحاول بشتى الطرق أن لا ينقطع الرابط بينه وبين القضية وشركة المحاماة لكنه لن يفكر مرتين في تسليمه للشركة بعد هروبه، يُخبر  مايكل أرثر  في أحد أقوى مشاهد الفيلم: “أنا لست عدوك” فيتحول أرثر بمثابة المرآه ويخبره بعتاب “من أنت إذًا؟!” يبقى مايكل متمسكًا بمسار حياته على الرغم من صراعه الداخلي ويتطلب الأمر هزة حقيقية تضع حياته على المحك لتغيير ذلك، لكنه يبقى محافظًا على هدوءه وحيله للنهاية وتتفاعل حبكة الفيلم بإجادة واتساق مع تفاصيل شخصيته حتى الرمق الأخير.

يحتوي الفيلم كذلك على مكامن إجادة على المستوي الإخارجي، يبدو أبرزها هو إيجاد النقطة المثالية لبداية المشهد لوضع ثقل مناسب للحدث وتدرج تصاعدي يضيف حالة للمجريات وتأثير أكبر لنقطة ذروة المشهد. لا يوجد مثال أفضل من ذلك غير المشهد النهائي حينما يتقابل مايكل مع كارين ليكشف سرها أمام الشرطة، يبدأ المشهد بلحظة إنتصار لكارين وهي تسرد لأعضاء مجلس إدارة الشركة تفاصيل التسوية المربحة مع المزارعين ثم تخرج من باب لباب حتى تصل للشرفة وتتنهد الصعداء، لكنها تتفاجيء بمايكل خلفها لينخرطا في مشهد حواري مميز كتابيًا وتجسيديًا. يبدأ الفيلم أمام نوافذ الليل وظلاله الساترة لخبايا القضية، وينتهي كذلك أمام النوافذ العلوية لكن هذه المرة نوافذ النهار الكاشفة للسر.

كذلك يعلم جيلروي جيدًا متى يركن إلى الإبهام في سرده ومتى يظهر معالم مشهده بوضوح وتفصيل ومتى يستبعد المعلومات غير اللازمة لدفع القصة، يعلم كذلك متى يخبرنا عن معلومة بدون أن يلقيها على المشاهد بدون سياق وهذا الأمر يصعب القيام به في مثل تلك النوعية من الأفلام.

نرى مايكل يمارس المقامرة قبل أن نعلم عن مشاكله معها، نتعرف على إنفصاله عن زوجته من خلال توصيله لأبنه إلى المدرسة، نعلم عن تاريخه مع أرثر عندما يضطر لإخبار كارين عن أسباب إنهيار أرثر. نرى الضغوطات التي تمر  بها كارين من خلال كواليس تحضيرها للإجتماعات وهي تفصيلة قد تبدو غير مهمة لكنها تبرز  ما الذي قد يدفعها إلى اللجوء لتصرف متهور  في لحظة ما وماذا يعني لها وجودها بهذه المكانة، نتعرف جيدًا على ماهية العلاقة بين شركتي “نيويورث” و”كينير، باك أند ليدين” عندما يكتفي الفيلم بمشهد واحد يجمع بينهما عند لقاء كارين ومارتي للحديث عن حادثة إنهيار  أرثر حيث يجلس كلاهما وفي يديهم مستندات عن أضرار المواد الكيميائية القاتلة الإ أنها لا تحمل تلك الأهمية بالمشهد برغم تعجب مارتي من توقيعهم بالموافقة على تلك المعلومات! يحوذ الفيلم على عديد المشاهد التي تمكنت من التعبير بأفضل طريقة ممكنة بالمباشرة وبالإيحاء وبالمواجهة وبالغموض وبالإيجاز كلاً حسب ما يحتاجه المشهد.

ربما يكمن أكثر أجزاء الفيلم ضعفًا وهشاشة هو الجانب الروحي أو الخوارقي في القصة، فبالرغم من جمالية مشهد مايكل وهو يخرج من سيارته ليقف محدقًا بالخيول أعلى التلة، لا يبدو مبررًا كفاية إلا ليعطي بطلنا فرصة للفرار من الموت! يحاول الفيلم أن يعطي مايكل وأرثر لحظات تكشف روحاني لكنه لا يستثمر جيدًا في ترسيخ ذلك بعقل المشاهد ولا يبني له أساس درامي صلب. لكن ما يساعد على إخفاء وتورية تلك المشاكل هو الأداءات التمثيلية الجيدة لجورج كلوني وتوم ويلكينسون، كلاهما أستطاع تقديم أحد أفضل أداءاته في مسيرته إن لم يكن الأفضل. توم ويلكينسون ينسلخ تحت عباءة شخصيته المضطربة تمامًا بالأخص على مستوى التعبير الصوتي لكنه يعلم كذلك متى يستدعي الجدية والإتزان حين تعود شخصيته في لحظات قليلة إلى الجانب العبقري الذي جعله المحامي الذي هو عليه. كذلك تيلدا سوينتون تقدم ما أعتادت عليه من أداء واثق لا يخرج عن النص بمساعدة من ملامحها الفريدة.

Visited 4 times, 1 visit(s) today