فيلم “الضفيرة”.. متعة السرد ومتعة الأداء

Print Friendly, PDF & Email

حققت الرواية الأولى التي كتبتها الفرنسية لاتيتيا كولومباني وصدرت عام 2017 نجاحا كبيرا، فقد وزعت نحو مليوني نسخة في فرنسا، ثم ترجمت إلى 40 لغة، ونالت أكثر من 20 جائزة أدبية داخل وخارج فرنسا.

ولابد أن تكون هذه الرواية قد لمست قلوب البشر في بلدان العالم المختلفة التي وزعت فيها، بموضوعها الإنساني ونظرتها المختلفة للموضوع والشخصيات التي تتناولها، في مقاربتها للمرأة ومحنتها وقدرتها على الصمود في وجه الشدائد في ثلاثة بلدان، رغم اختلاف الظروف والثقافات.

وكان من الطبيعي أن يمتد هذا النجاح الكبير إلى الفيلم الذي أعدته المؤلفة نفسها عن روايتها، وأخرجته عام 2023، وانطلقت عروضه العالمية مؤخرا وهو يحمل نفس عنوان الرواية، أي “الضفيرة” La Tresse وهو الفيلم الثالث لمخرجته.

يقوم أسلوب السرد في الفيلم على الانتقال بين ثلاث قصص تقع أحداثها في ثلاثة بلدان، بطريقة محسوبة تماما من حيث طول كل مقطع ويأتي انتقال الفيلم بين المقاطع المختلفة بين البلدان الثلاثة، من دون قفزات مفاجئة، أو انتقالات تحول بين المتفرج والفهم والقدرة على المتابعة والاستمتاع، عن طريق استخدام مقاطع قصيرة وسرد متدرج، يكشف لنا في كل مرة عن جانب جديد في حياة الشخصية الرئيسية في القصص الثلاث، وهي المرأة.

سميتا سعيدة بدفع ابنتها أخيرا إلى المدرس

تتعامل المخرجة- المؤلفة، مع شخصيات فيلمها الثلاث، باحترام كبير وفهم، فلا تصدر أحكاما عليهن، وتبدو متعاطفة معهن، ولكن من دون أن يصبح المسار الذي تتخذه كل واحدة منهن في حياتها، مفروضا من الخارج بل يظل يتمتع بإيقاعه الداخلي الخاص، كما يكشف عن خصوصية الشخصية في إطار المكان والثقافة التي تميزه. ولعل هذه السمة وحدها كفلت للرواية الأصلية ما حققته من قبول كبير من جانب جمهور القراء في العالم.

إننا أمام عمل يخاطب كلا من العقل والعاطفة، صادر عن نظرة مثقفة، ولكن من دون تعالٍ، فكاتبة النص السينمائي والمخرجة، تمنح كل قصة من قصص الفيلم الثلاث، طابعا أصيلا مميزا. ورغم المسار الصاعد والتعقيدات التي يكشف عنها خلال تصوير “مأزق” كل شخصية من شخصيات الفيلم، إلا أن المخرجة تنجح في التحكم في الأداء وضبط الإيقاع، والمحافظة على سلاسة تدفق السرد مبتعدة تماما عن المبالغات الميلودرامية التي كان يمكن أن تقلل من تأثير الفيلم، فالهدوء والرصانة وترك مساحة أمام الجمهور للتأمل، تجعل الفيلم أكثر تأثيرا.

تتخذ القصة الأولى التي تدور في الهند، سمة الواقعية، ويجنح الأسلوب نحو الطابع التسجيلي في التصوير (حركة الكاميرا الحرة المهتزة التي تتابع البطلة في لقطات طويلة)، مع تصوير ملامح الشقاء الإنساني، وقسوة الظرف الاجتماعي والظلم الطبقي، ولكن من دون إغفال البعد الروحاني، فالمرأة تجد نفسها ضحية مرتين، أولا ضحية للنظام الطبقي القاسي حيث تقبع في ذيل السلم الاجتماعي، ضمن طائفة “الداليت” المصنفة أدنى من مرتبة الحيوانات في الهند، وثانيا من جانب الرجل الذي لا يستطيع أن يفهم طموحها ورغبتها في توفير حياة كريمة لابنتها “لاليتا”.

جوليا ترتبط بشاب من السيخ سيلعب دورا في إنقاذ الوضع

وتجمع القصة التي تدور في بلدة بجنوب إيطاليا، بين الواقعية والرومانسية، حيث تواجه بطلتها الشابة “جوليا” مأزق الحفاظ على الإرث المهدد بالزوال، وهو مصدر العيش الوحيد لعائلتها، وعندما تعثر على الحب والفهم والتساند من جانب شاب قادم من ثقافة أخرى مغايرة، وتجد طريقا مشتركا يجمعها معه، تواجه بنظرة رفض واعتراض وإدانة من جانب الفكر التقليدي القديم المحافظ.

وتدور القصة الثالثة في مدينة مونتريال الكندية، أي خارج بيئة العالم الثالث بمشاكلها التي لا نظير لها، وخارج البيئة المتزمتة في جنوب إيطاليا. ففي قلب هذه القصة، سيدة مطلقة ناجحة في عملها، تعول أبنائها الثلاثة، يتعين عليها أن تواجه وحدها محنة العيش بعد أن تكتشف إصابتها بسرطان الثدي، فهي تخشى أن تفقد عملها، حتى تتمكن من الاستمرار في رعاية أبنائها كأم وحيدة.

النساء الثلاث يتعرضن للخديعة والخيانة على نحو أو آخر، وكل منهن تضحي وتعاني من الفقدان، وتجد نفسها مضطرة وحدها لاتخاذ القرار الصعب الذي يكفل لها النجاة.

لا يوجد رباط ظاهري يربط بين النساء الثلاث وقصصهن، لكن السيناريو يبتكر قرب النهاية، خيطا رفيعا يربط بين المصائر، على نحو قد يكون رمزياً أكثر من كونه واقعيا، ولكن من دون أن تدرك أي منهن علاقتها بالمرأة الأخرى. وهي حيلة بديعة أكسبت الفيلم طابعا شعريا في الفصل الأخير.

ساره الكندية.. امرأة وحيدة تواجه معضلة العيش مع أبنائها

السيدة الهندية “سميتا”، التي تقيم مع زوجها وابنتها في قرية في شمال الهند، هي عاملة نظافة، تعاني من الاضطهاد وسوء المعاملة من جانب من تعمل لديهم، وهي تريد أن تنال ابنتها قسطا من التعليم يكفل لها مستقبلا أفضل منها، لكن هذا ليس أمرا سهل المنال، خصوصا مع معارضة زوجها بشدة، ثم تلجا إلى مخالفة القانون من أجل تدبير مبلغ تدفعه رشوة لمدير المدرسة الذي يقبل ابنتها “لاليتا” لكنه يسيء معاملتها ويضربها ويسخر منها أمام باقي التلاميذ بسبب انتمائها إلى الطبقة الدنيا، فتقرر المرأة الرحيل بعيدا عن القرية الظالمة مع ابنتها وتتجه في رحلة شاقة طويلة بالحافلات والقطارات، الى حيث يوجد أقاربها في مدينة جنوبية تعتقد أنها أقل حدة في التفرقة بين الطبقات. وفي سبيل ذلك تتخلى عن زوجها وتتركه وراءها، وتفقد الابنة بالتالي والدها الذي ترتبط به كثيرا.

لقد حذرها زوجها عندما أخبرها أنه ليس مسموحا لأمثالهم من الطبقة الأدنى، بمغادرة القرية، ويحذرها من مصير امرأة أخرى سبقتها في محاولة الفرار فقام رجال الطبقة الأعلى، باغتصابها وشنقها وتعليق جثتها أعلى فرع شجرة. لكنها رغم ذلك، قررت أن تسعى من أجل الحرية مهما كانت النتائج، ولا شك أن معاناتها ستكون قاسية.

وفي القصة الثانية (الإيطالية) تفقد الابنة الشابة “جوليا” والدها الذي ترتبط به كثيرا بعد إصابته في حادث سيارة، وتتولى هي إدارة شؤون ورشة إعداد “باروكات” الشعر النسائي التي تعتبر المصدر الأساسي لدخل العائلة المكونة من أمها وشقيقتها وابنة شقيقتها، خصوصا وان زوج الأخت عاطل عن العمل. إلا أن جوليا سرعان ما تكتشف أن الورشة معرضة للحجز عليها كما أن العائلة مهددة بفقدان منزلها، فوالدها الذي يرقد الآن في المستشفى بين الحياة والموت، كان قد اقترض مبلغا كبيرا من المال وعجز عن سداده.

أما بطلة القصة الثالثة، الكندية “ساره”، فهي محامية مرموقة في شركة كبيرة من شركات المحاماة، تتمتع بكفاءة كبيرة، ورضا مدير عام الشركة وصاحبها الذي يريدها أن تحل محله عند تقاعده القريب في إدارة الشركة، ولكنها تكتشف ذات يوم أنها مصابة بسرطان الثدي وتحتاج لإجراء عملية جراحية ثم تلقي الجرعات المضنية من العلاج الكيماوي وهو ما يقتضي غيابها عن العمل لفترة طويلة.

جوليا الإيطالية تأخذ مصيرها بيديها رافضة الانصياع للثقافة السائدة

إنها تخفي الأمر عن أبنائها الثلاثة، وعن رئيسها وزملائها في الشركة، لكي لا تغامر بفقدان عملها، لكن الأمور لا تسير كما كانت تشتهي. وسوف تتعرض للتآمر من جانب الفتاة التي وثقت فيها في الشركة، وإن كان دور الرجل هنا أقل وطأة مما هو عليه في القصتين السابقتين، لكن تظل ساره امرأة وحيدة تكافح وحدها في الحياة.

“سميتا” الهندية ستضطر للإقدام على القيام بتضحية شخصية مع ابنتها من أجل أن تنال ما تصبو إليه. و”جوليا” الإيطالية التي كادت أن تقبل بعقد صفقة زواج من شاب ينتمي لعائلة ثرية يمكن أن تسدد ديون أسرتها، تعود إلى صوابها وتقرر التمسك بحبيبها الوافد وهو شاب هندي من طائفة “السيخ” يدعى “كمال”، الذي سيلعب دورا في إنقاذ الوضع بفضل ذكائه وحماسه وحبه لجوليا. أما “ساره” فسوف تقتنع في النهاية بضرورة مواجهة الواقع بشجاعة، وعدم التخلي عن طموحها والتطلع في أمل إلى المستقبل، بعد رحلة علاج قاسية، وعادت إلى أبنائها.

من الضروري ملاحظة أن “سميتا” الهندية هي التي تتسبب في النهاية- دون أن تدري بالطبع- في إنقاذ مصير كل من جوليا وساره. فالتضحية التي قدمتها هي التي كفلت النجاة للورشة التي تديرها جوليا، وجعلت ساره تشعر بالأمل في استئناف حياتها وعملها من دون خوف. أي أن “التضحية” تأتي من فقراء العالم الثالث من أجل نساء العالم الأول، الأقل معاناة.

يمكن أن يكون الجزء الخاص بالقصة الهندية فيلما مستقلا، فهو دون أدنى شك، أفضل الأجزاء الثلاثة، وأكثرها قوة في التعبير عن محنة المرأة، بل وتميزا في اختيار مواقع التصوير: الشوارع، محطات القطارات، القطارات من الداخل، المعبد الهندوسي الرهيب.. وغير ذلك، كما يتميز هذا الجزء بالجرأة في التصوير.

هناك مثلا مشهد يدور فوق جسر يعبر شريط القطار، حيث تضطر سميتا إلى قضاء الليلة مع ابنتها على الأرض، وفي الصباح تكتشف سرقة حقيبتها من جيرانها الذين كانوا يفترشون الأرض إلى جوارها. وعندما تحاول استرداد الحقيبة يقبض الرجل على ذراعها ويهدد بإلقائها من فوق الجسر، إلا أن صرخات ابنتها وتضرعها تجعلها تتخلى عن الحقيبة للرجل. وهو مشهد شديد القوة والتأثير.

وفي مشهد آخر يكون ما معها من نقود قد نفذت، ولكن ابنتها جائعة وهي لا تستطيع أن تشتري لها شيئا، فتبادر المرأة التي تجلس إلى جوارها على مقعد في محطة القطارات، وتعطيها ثمرتي موز، وتخفف من وطأة الأمر عليها. وهنا يبرز التضامن النسائي الطبيعي والشعور المتبادل بين الفقراء.

يتميز الفيلم كثيرا بالتصوير البديع (مدير التصوير رولاند بلانت)، الذي ينتقل بين الوجوه في اللقطات القريبة والمناظر العامة التي تضع الشخصية في إطار المكان، ليصبح المكان جزءا من الحدث نفسه. كما يختار نغمة لونية مميزة لكل من الأماكن الثلاثة التي ينتقل الفيلم فيما بينها: الطابع الحار الحارق بألوانه الداكنة (البني ودرجاته والأصفر بوجه خاص) في القصة الهندية، والألوان الناعمة (الأزرق والأبيض) التي تضفي جوا شاعريا بعض الشيء على القصة الإيطالية، والألوان الهادئة الباردة التي تجعل لقطات القصة الكندية تعبر عن أجواء البيئة العملية الصارمة المادية، سواء في التركيز على ناطحات السحاب أو المكاتب والردهات داخل الشركة أو المستشفى، مع بعض الألوان الدافئة داخل المنزل.

الثقافة والمعرفة هما المدخل إلى العلاقة التي ستنشأ بين جوليا وكمال

من جهة ثانية يتميز الأداء كثيرا في الفيلم بفضل الاختيار الجيد للممثلات الثلاث (ميا ميلزر، فوتيني بيلوسو، كيم رافر)، ثم التحكم الممتاز من جانب المخرجة في أدائهن، بحيث لا يفلت الأداء ولو مرة واحدة ويبتعد تماما عن المبالغة. وتبرع من بين الممثلات الثلاث بوجه خاص، كيم رافر في دور ساره، التي عاشت الدور كما لو كانت قد مرت بالتجربة التي تمر بها الشخصية الدرامية التي تؤديها. ولا شك أن أداء الممثلين أحد أسباب استمتاعنا به.

فيديو

Visited 12 times, 1 visit(s) today