فيلم”عمر”: القفز عن الجدار والمشي على السجاد الأحمر
كان فيلم “عمر” قاب قوسين أو أدنى من الأوسكار، ومع أنه لم يحصل على جائزة أوسكار للفيلم الأجنبي، إلا أنه سار على السجادة الحمراء، وهي المرة الثانية لمخرجه الفلسطيني هاني أبو أسعد التي يقترب فيها من الجائزة، حيث سبق هذا الفيلم فيلمه “الجنة الآن” الذي يقال إن الضغط الصهيوني حال دون فوزه بحجة أنه ينتصر للعمليات الاستشهادية، ونحن نعلم أن الماكينة الإعلامية الصهيونية تقيم ضجة على أي شيء بغرض تكريس الفوبيا من مقاربة القضايا الشائكة، هذا يعني أن معارضة عدوك لك ليستسببًا كافيًا لرضاك عن عملك.
ليست الأعمال الفنية مقالًا سياسيًّا حتى يكون الاصطفاف حولها بمنطق “لنا أو علينا”، ثم إن الفن رغم المنطق الداخلي الذي يحكم وجوده إلا أنه لا يكتفي بذاته كمبرّرَ للوجود؛ سينمائيًّا العمل الفني محكوم من اللقطة الأولى حتى انسدال الستار بخلق أشياء موجودة لكن ليست كما هي بالفعل، بل هو مشغول بها كيف تبدو بعد عبورها من خلال “الأيديولوجيا”، هذه الكلمة التي أصبحت مشبوهة إذا ما ذكرت في سياق عمل فني. بالطبع هي لا تعد رديفًا للشعاراتية والمباشرة التي تفسد العمل الفني في كثير من الأحيان، بل يمكننا القول: إنها المقولة وقد تخففت من وضوحها المتوقع، وصاغت نفسها جماليًّا.ومنذ ميشيل خليفي – رائد إخراجالسينما الفلسطينية من المباشرة والخطابة – والنقد يكرر ذاته حول كيفية التحدث عن فلسطين فنيًّا دون أن أكون مبتذلًا؟ لاحقًّا أصبح السؤال: كيف سأتحدث عن فلسطين دون أن تكون هي فلسطين تمامًا؟.
هل يكفي للعمل أن يكون مليئًا بالحجارة والأسلحة حتى يكون جماليًّا في السياق الفلسطيني؟! كما أن هذا السؤال مشروع فإن السؤال عن غياب فلسطين لتحل في خلفية المشهد كديكور ثوب فلاحي في معرض لشركات الاتصالات الفلسطينية هو مشروع أيضًا، ليس شرطًا لكل فيلم يخرج من فلسطين أن يتناول “الثيمات” المعروفة عن فلسطين حتى نعده كذلك، ثم إن حضورها بحد ذاتها لا يثبت شيئًا.
فيما يتعلق بفيلم”عمر”، فنحن أمام عمل لم يكن رومنسيًّا بشكل ناضج لنعتبره كذلك، وهو أيضًا لم يكن”أكشن” بما يكفي، ولا هو سياسي فلسطيني بالمعنى المباشر أو الموارب الذكي؛ نحن أمام عمل أراد أن يكون كل ذلك لأنها “ثيمات”كافية للوصول، فَلَمْ ينجح في أن يكون أيًّا منها، لكنه وصل بالفعل.
في حوار مع مخرج الفيلم هاني أبو أسعد، يقول إن قصة الفيلم مستوحاة من مسرحية “عطيل” للكاتب الشهير شكيسبير(الثيمة الشهيرة غربيًّا)، وفي حوار آخر بلغة أخرى يقول: إن القصة سمعها من أحد الناس وكتبها في أربع ساعات لتكون انعكاسًا صادقًا عن معاناة شعبنا، ومابين اللغتين يولد “بوسترين” دعائيين للفيلم، الأول: للجمهور العربي، يظهر فيه بطل الفيلم عمر (آدم بكري) ونادية(ليم لوباني) وهما ينظران لبعضهما البعض وخلفهما جدار الضم والتوسعة، فيما أن “البوستر” المعد للجمهور الغربي، وباللغة الإنجليزية، يُظْهَرُ عمرًا يقبل نادية(وهي القبلة الوحيدة داخل الفيلم) وخلفهما سماء زرقاء، ومضاف له عبارة لانجدها في البوستر العربي وهي: “an incredible love story”.
التركيز على المقاربتين ليس نقدًا دعائيًّا أو ما شابه، بل هو مقدمة للقول إننا أمام عمل يتقدم باتجاه الأوسكار”الجائزة الأمريكية”، ويعرف بالضبط ما هي اللغة اللازمة لذلك. بالطبع ليس عيبًا أن يكون لديك بضاعة وتعرف الأدوات اللازمة لتسويقها، لكن حين لا تنجح في حجب العملية التسويقية فإن حسي بالبضاعة سيطغى على حسي بالعمل الفني بالضرورة.
الفيلم من الداخل
امتاز الفيلم من الداخل بلقطات قصيرة ومتوسطة، وهو الاختيار الذي ينسجم مع طابع أفلام “الأكشن” غالبًا، ولذلك نجد فقرًا ملازمًا في الحوارات التي خاضها الممثلون، خاصة حين يتعلق الأمر بحوارات الحب؛ وإن كان الفلسطيني “بيعرف يبوس” كما أراد أن يخبرنا البوستر الأجنبي، لكنه لا يعرف أن يخوض حوارات الحب، فظهرت حوارات مرتبكة وفقيرة، واحتاج المخرج هنا لصورة كلاسيكية لتعزيز هذا الفقر، فبطل الفيلم مازال يستخدم الرسائل الورقية ليراسل حبيبته، وهي طالبة مدرسة، في تعزيز للصورة الكلاسيكية ذاتها.
على مستوى الحبكة وتسلسل الأحداث، لم يكن الأمر مقنعًا بشكل كاف؛ يبدأ الفيلم بمشهد القفز عن الجدار بواسطة حبل طويل، وبحسب المنطقة التي جرى التصوير فيها “قرية أبوديس”، فإن هذا المشهد يبدو غير مألوف، إذ عادة ما يستخدم السلّم الطويل، أو إحداث ثغرة ما في الجدار للمرور..الخ، لكننا أمام اختيار لطريقة تبدو “أكشنية” بامتياز؛ ثم إن العادة جرت لمن “يُهَرّبْ” إلى أراضي الــ”48″ أن يعود من الحاجز، فحواجز الدخول إلى أراضي الـ”67″ لا تفحص هويات الناس عادة، لكنّ الحاجة للإثارة أهم من هذا التفصيل الواقعي.
ثم سرعان مايبدأ إطلاق النار على عمر الذي يقفز عن الجدار هاربًا، ليلاقي هناك صديقيه طارق وأمجد، وبالطبع حبيبته نادية (شقيقة طارق). تتفق المجموعة على تنفيذ عملية ضد معسكر إسرائيلي، ومنذ هذه اللحظة ستبدو القصة العسكرية خلفية لقصة الحب، وهذا بالطبع لا يعيب الفيلم، لكنه يؤثر في حبكته كما سنرى، لدرجة جعلت العميل هو ذاته من يقتل الجندي الإسرائيلي!
تتحول المجموعة للمطاردة، فتبدأ أول محاولة للقبض على المجموعة حين يطلق طفل صغير تحذيرًا: “مستعربين”، فنفاجأ برجال شرطة بزيهم الرسمي وليس مستعربين (الذين يتشبهون في أزيائهم وملامحهم بالعرب الفلسطينيين) لاحقاً تداهم القوات بيت عمر في مدينة نابلس، وتكون عبارة عن قوات شرطة إسرائيلية، لكن الفلسطينيون المقيمون في الضفة يعرفون جيدًا أن من يقوم باعتقالهم هي قوات الجيش وليست الشرطة، هل هذا خطأ عابر؟ لا أعرف، إذا جمعنا له ثلاثة مشاهد في السجن لاتنتمي للسجن الذي يخبره الفلسطيني حقيقة، تبدأ مع تقدم شاب يعرّف نفسه بأنه من “حماس” بطريقة مصطنعة ليسأل عمر عن تنظيمه فيتجاهله عمر، مع أن الأسير يمر بعملية الفرز التنظيمي قبل دخول غرف السجن، ومن ثم يتناول وجبة الطعام من “بوفيه مفتوح”(محاكاةً لصورة مكان الطعام في الأفلام الأجنبية)، ويجلس في مقابل أسير آخر، يتضح فيما بعد أنه المحقق ذاته، لكنه يلعب دور العصفور “العميل المتنكر” داخل السجن، ولا أعرف – في حدود علمي – عن حالة يكون فيها العميل هو ذاته المحقق، لكن كما يبدو فإن الهدف هنا إضافة بعض التشويق.
يذهب العميل برفقة عمر من أجل الاعتذار لطارق، يريد أن يعتذر عن كونه خائن وقام بمعاشرة شقيقته أيضًا، وهي الآن حامل منه. خلال هذا المشهد يكون عمر حاضرًا بهدف معرفة أمر العميل، وفي ساقه جهاز تعقب وضعته المخابرات الإسرائيلية، ولايرى في ذلك أي خطر على المجموعة!
لم يكن المهم بالنسبة لـ”عمر” تصفية العميل ولا حماية المجموعة، ولا كل هذه التفاصيل، المهم هو إنقاذ نادية من قصة حملها بتزويجها لأمجد، وقد أدى ذلك بطريقة متكلفة لمقتل طارق، قائد المجموعة، لتظهر بعدها جنازة طارق بأعلام الفصائل الفلسطينية وهي تحمل الشعار ذاته، صورة قبة الصخرة وسلاح!كافٍ أن “تدج” رموزًا مثل السلاح وقبة الصخرة لكي تشير لهذا الشيء الواحد الذي اسمه “فصائل”!
الجماعة الهامشية والمشكلة الفردية
إن العلاقة التي يقيمها هاني أبو أسعد بين البطل المقاوم وفصيله المقاوم، هي علاقة خارجية دائماً، فالتطور كان إنساني الطابع في علاقة عمر بالمحقق(كما يؤكد مؤدي الدور وليد زعيتر في إحدى حواراته)، لكنه كان خارجياً محفوفاً بالشك والقلق مع فصيله المسلح، وهذا تأكد في مشهد تعيين القائد الميداني الجديد؛ حيث يوحي مجمل المشهد أنّ ثمة قائد عصابة تسلم زمام الأمور، ويريد أن يصفي حساب الخائن فيما تعامل عمر معه بتجاهل تام.
بالطبع وارد حدوث هذا في الواقع، ولكن عندما نتحدث عن تكرر نفس الفكرة في العملين الأهم لهاني أبو اسعد “الجنة الآن”و “عمر” فنحن وقتها أمام اختيار أيديولوجي، يحاول إعادة إنتاج صورة المقاوم الفرد بعلاقة ملتبسة مع فصيله، يحكمها الشك والريبة، والانتماء لها نفعي استخدامي من كلا الطرفين، وبما أننا سنتعاطف مع البطل لأننا واكبنا تطور شخصيته؛ فالفصيل يحضر هنا كآخر غامض وقلق ومثير للإزعاج، تظهر شخصية البطل بتطور مستقل أنشأته ظروفه الخاصة جداً بمعزل عن السياق الجماعي والتنظيمي، ويحمل داخله تطور إنساني فردي مبرر لفعله المقاوم، وكأن الفعل المقاوم محتاج لمبرراته الشخصية الخاصة.
لابدّ أن يكون للفعل المقاوم منطلقاته الشخصية المستمدة من شعور الفرد بسياق سياسي جماعي، يصبغه لاحقا بإحساس على المستوى الوجودي أو العكس؛ لكن بالطبع هذه العملية أشد تركيباً من شعور بالعار كما في فيلم “الجنة الآن” أو شعور بالخديعة وخسران الحبيبة في فيلم “عمر”.
مع بطل فلم “الجنة الآن” يظهر لنا السياق الفردي مرتبط بالشعور بالعار، فوالد البطل عميل قتلته المقاومة مما شكل لديه دافعاً رئيسياً ووحيداً لتنفيذ العملية الاستشهادية، فيما صديقه -الذي بدا قوياً طوال الفيلم- تفكك كل منطقه الاستشهادي في حوار عابر خاضه مع فتاة مغربية، حتى وصل بشكل سريع إلى استنتاج هو أشبه بالكليشيه: “العيش لفلسطين أهم من الموت لأجلها” وكأنّ هذه الثنائية الوهمية لا تكتفي بتبرير “اللافعل” بل تتعالى على الفعل أيضاً.
ثنائية “التشويه” و”التمثيل”
في الحالتين يطلق أبطال هاني أبو أسعد رصاصتهم الأخيرة، فالمشاهد الختامية لديه أذكى من أن تكون ذات طابع تراجعي اعتذاري عن الفعل المقاوم، لذلك يندفع التأييد المبدئي للعمل من خلفية تعوّدت التشويه المباشر للعمل المقاوم. ربما علينا أن نتجاوز الثنائية الاختزالية التي تحصر مقارباتنا النقدية ضمن: “التشويه” و”التمثيل” فيما يتعلق بالأعمال التي تقارب فلسطين فنيًّا، ونقفز خلف هاتين المقولتين نحو فحص المنطق الداخلي للأعمال وسياقاتها ومقولاتها التي توارت خلف تواتر المشاهد، ليس لنستخرج الوحش من داخل العمل، بل لنحافظ على مسافة نقدية مع الأعمال التي ترفع فلسطين وكأنها تذكرة كافية للمرور.
* ناقد من فلسطين