“الصامتون” والحياة وسط الضباب

Print Friendly, PDF & Email

بعد مرور ثواني  على افتتاحية  الفيلم الكوري الجنوبي ” (The Silenced) ويترجم بالصامت،  للمخرج هوانج دونج هيوك،  تظهر أضواء سيارة  يقودها  بطل  الفيلم كانج إين هو( الذي
 يقوم بدوره غونغ يو) وهو يشق طريقة وسط الضباب  متجها إلى المدينة الضبابية” موجين”  ويرد على المكالمة :

-” لا أعرف موقعي بسبب الضباب”

وفي لحظة قام بانعطافه  لتفادى حيوان صغير ظهر فجأة، لكنه صدمه  مما تسبب في موت الحيوان، في لقطة سابقة نشاهد طفل صغير يسير في الضباب على قضبان السكة الحديد وأمامه ظهرت أنوار قطار قادم ، لكن الطفل ظل في طريق القطار، في لقطة ثانية نرى الطفل الميت بجوار القضبان، وفي لقطة أخرى نرى الحيوان الميت أمام السيارة، اللقطتين ظهر قبلهما مدخل نفق غارق في الظلام.

 يأخذنا القطع المونتاجي التبادلي ذهابًا وإيابًا بين الطفل \ القطار،  السيارة \الحيوان ، النفق\ الشعور بالذنب الظاهر على كانج إين هو”  والمشهد  الغارق  في الضباب إلى موضوع الفيلم مباشرة .

  مدرّس الرسم “كانج إين هو” الذي انتحرت زوجته، وتعيش ابنته المريضة تحت رعاية والدته. و يجيد لغة الإشارة، يتجه بسيارته للمدينة الضبابية موجين ليستلم وظيفته في إحدى مدارسة الصم والبكم ، ويفاجئ بأن عليه أن يدفع المال ليستلم الوظيفة، رغم  سبق ترشيحه وقبوله، يتصل بوالدته التي تدبر له المال عن طريق بيع منزلها، الصدمة  التي يتلقاها من مدير المدرسة وأخيه  يحاول تجاوزها لأجل ابنته المريضة،  يتلقى صدمات أخرى كابتعاد الطلاب الأطفال عنه رغم محاولته اكتساب ودهم، وحدوث  ممارسات عنيفة  توقع على الأطفال، ثم يكتشف أن هناك اعتداءات جنسية  يتعرض لها الطلبة والطالبات الصغار الفقراء واليتامى، من قبل أعضاء هيئة التدريس والمدير.

يتحرك كانج  مع الناشطة الحقوقية “سيو يو جين” (وتقوم بدورها الممثلة جونغ يو مي) لكشف الحقيقة ومعاقبة المذنبين، ورغم العقبات وتواطؤ رجال الشرطة،  يستطيعان بمساعدة الإعلام، تحريك القضية والقبض على المذنبين وتقديمهم للمحكمة، وفي المحكمة نكتشف عقم القوانين  في القضايا المماثلة، مما سمح  بأحكام  تافهة  مع وقف التنفيذ، وهكذا يخرج الجناة ويعودون لنشاطهم السابق ووظائفهم.

يعكس فيلم الصامتون  التركيز العالمي على فكرة الحقوق للجماعات المهمشة، وذوي الاحتياجات الخاصة، والفجوة المتزايدة بين  السلطة وأصحاب المال وبين الطبقة الدنيا الفقيرة.

ويمكن النظر إلى نضال  مدرّس الرسم “كانج إين هو”  من أجل الحصول على حقوق الأطفال من عدة طرق:  فإن نضاله يجسد على نحوٍ درامي الإحساس بالذنب. لأنه سمع صراخ الطفلة وهي تغتصب ولم يفعل شيئا، كما يربط هذا النضال بين صلاحيته كأب، وواجبه الأخلاقي كإنسان، والمسئولية الاجتماعية نحو الأطفال، فلا يمكنه أن يهمل حقوق الأطفال،  تاركا إياهم للوحوش، ويكون أبا صالحا في نفس الوقت.

إنه يبدأ كفرد  يتجاهل ما يحدث  حرصا على وظيفته في المدرسة, لكن بمرور الوقت يخضع للمسؤولية الأخلاقية التي تلزمه بالدفاع عن الفئات المظلومة والمهمشة في المجتمع، هذا التغير كان من المتوقع حدوثه، لأن شخصيته الإيجابية  ظهرت من اللقطات الأولى للفيلم، عندما وقف ينظر للحيوان الصغير الذي صدمه وهو يشعر بالذنب.

أما نضال الناشطة الحقوقية “سيو يو جين” من أجل الأطفال، فيمكن النظر له من خلال رغبتها في تغير القوانين بشكل أفضل، كما يجسد رغبتها العميقة في المساواة مع الرجل، ونيل حريتها بشكل حقيقي، لقد كانت تعيش وحيدة شبه منبوذة من المجتمع، ثم وجدت نفسها فجأة محاطة بأطفال أحبوها وأرادوها أن تكون أما لهم ، لقد أصبح  لديها أسرة، يظهر ذلك واضحا في المشاهد  الجمالية لشاطئ البحر المليئة بالألفة والود بينها وبين الأطفال و كانج إين هو” هذه  المشاهد  الجمالية تقاطع  المشاهد المؤلمة، للمحكمة واسترجاع مشاهد التعدي على الصغار، لكنها تجعل السرد القصصي يستمر باستخدام  مشاهد أكثر دفء تجمع بين جماليات الطبيعة والأطفال وأستاذهم  و“سيو يو جين”  فكأننا نرى أمامنا أسرة سعيدة  تتمتع بإجازة على الشاطئ.

تتعاظم التركيبات العاطفية للمشهد من خلال هذا المنظر الطبيعي،  لسطح البحر والرمال، كما تتعاظم في مشاهد أخرى مثل الإيقاع المنتظم لسقوط  المطر، أو الأغنية تصاحبها الموسيقى

بقاعة المحكمة، تلك الأغنية التي استخدمت لاختبار مصداقية شهادة الطفلة الصماء، كانت كلماتها تؤكد على الحرمان العاطفي للأطفال، وعلى خلفية الأغنية، وقى قاعة المحكمة بدأ صراع  مخيف بين إرادتين، الطفلة الواثقة من نفسها، ومحامي المتهمين، وجميع الحضور يجلسون بصمت وترقب،  في هذا المشهد المليء بالقلق, تلتقط الكاميرا من زوايا كاشفة  أحيانا من الأمام وجه الطفلة، أو من الأسفل ليدها، أو من الخلف لظهرها أو من الجانب لأذنها، هذه اللقطات المتتابعة تصنع تدفقا من القلق، ويرن السؤال في أدمغتنا:

  • هل ستسمع الطفلة  الصماء الموسيقى,  وتتغلب على المحامي عديم  الضمير؟

وهذه كلمات الأغنية :

هناك الكثير بداخلي

لا يوجد مكان لك لتسكن فيه

هناك الكثير من الأحلام عديمة الفائدة بداخلي

لا يوجد مكان لراحتك

لا أستطيع التحكم بذلك الظلام بداخلي

الظلام الذى يحتل مكانك

هناك الكثير من الحزن بداخلي

لا أستطيع التخلص منه مثل شوكة في الحلق.

يوصل  لنا الأطفال قدرا  كبيرا من المشاعر، وكانت حركات اليدين  بالإشارات تصدر من القلب وليس من الأطراف، رغم  عجزهم  عن التعبير عن أحلامهم أو إحباطاتهم  بنحو يتجاوز التعبيرات الموجزة للإشارات, لكنهم جميعا بوجوههم وأفعالهم وحركاتهم قد جذبونا بقوة غير طبيعة لندخل عالم من عدم العدالة، فهؤلاء  من المستضعفين الآتين من حطام وبقايا عالم فقير، يواجهون أشخاصا ذوي سلطة  ومكانة اجتماعية، غير جديرين بها، لأنهم لا يتبعون  قوانين العدالة ولا الأمانة، وليس في قلوبهم ذرة من الرحمة.

وقد تجسد اليأس المطلق للأطفال في  المشهد الانتقامي الليلي على خط السكة الحديد، عندما يتعلق الطفل  مين سو ببارك  المدرس الذى اعتدى عليه وعلى أخيه وتسبب في انتحار الأخ الصغير، كما ظهر  بمشهد القطار في أول الفيلم، يطعن مين سو المدرس, ويسقط الأثنان على  الأرض بين قضبان السكة الحديد ، ويظل الطفل قابضا بقوة  على المدرس حتى يمر القطار فوقهما ويقتل كلاهما.

يجسد المشهد الليلي الظلام في حياة الطفل، والظلام في قلب الأستاذ الذي يمثل شيئا خطيرا،

فهو يمتلك دافع لا يلين نحو العنف الدموي واغتصاب الأطفال.

ذلك الظلام  جسده التتر بخلفيته السوداء، كما رمز المطر للبكاء المستمر في قلب مين سو.. فهو يغمره وحده بينما الأستاذ محمي بمظلة، وعندما يطعنه مين سو وتسقط المظلة منه، فهو يجذبه بيأسه المطلق  ليدخله  عالم البكاء والألم الذى يعيشه، ثم إلى الموت.

إنه مشهد يجسد  الشعور المأساوي بالإحباط لرحلةٍ طفل  لم تكتمل.

إحدى السمات البارزة  للفيلم هي استخدام الألوان بظلالها المتدرجة، فكل  قسم من القصة يظهر بلون مختلف، أول لقطة تغمر الشاشة باللون الضبابي، وهو لون يغمرنا بالضياع  وعدم معرفة وجهتنا، وجدران  قاعة المحكمة باللون البنى الغامق، متدرجا مع اللون الليموني الذي ينعكس أحيانا على وجه الطفلة الصغيرة التي تقدم شهادتها حول اغتصابها. مع إضاءة تأتى من خلال النوافذ، وألوان القاعة والإضاءة تجعلنا نتأرجح بين الأمل في حصول الأطفال على الحقوق  وشكوك  حول عقاب المذنبين ، بينما جدران  مكتب المدير ومشاهد الاسترجاع التي يتعدى فيها على الأطفال بلون رمادي داكن، معبرا بذلك عن دواخل مدير المدرسة، وحياة  الأطفال القاتمة، هذه المشاهد هي نظراتٌ واقعيةٌ سوداوية لوحشية الإنسان تجاه الأطفال الأبرياء والفئات الأضعف في المجتمع.

نخرج من الفيلم دون أن نتأكد أن العدالة  ستأخذ مجراها ، دون أن نتأكد أيضا من أن الخلل في القوانين سيتم إصلاحه، لكن هناك شيء لا يمكن أن نرتاب فيه: هو الصدق  الذي أقيم بنيان هذا الفيلم على أساسه، وهو صدق  يدخلنا في تجربة حسية  وليست بصرية، فإن المشاركة  الوجدانية التي يلهمنا بها الأطفال تمنعنا من الانفصال.

الأفلام عن ذوي الإعاقة، نوع نبيل، مثلها مثل كل الأفلام التي تدافع عن الحقوق، إنها أنواع بطولية، وهذا الفيلم أحد الأفلام النادرة الشجاعة، سخيا في العواطف، إنه يوضح ما يجب أن نفعله عندما يتعرض أحدا للظلم.

الفيلم مأخوذ عن رواية “Dokani” للكاتب “كونج جي يونج”، التي بنيت على وقائع حقيقية حدثت في مدرسة  للصم والبكم في  كوريا الجنوبية في عام 2005، وقد أحدث الفيلم عند عرضه عام 2011  ضجة ساهمت في تعديل القوانين الكورية في ما يختص بقضايا الاغتصاب خاصةً في حق ذوي الإعاقة، وإعادة فتح التحقيقات في الحوادث، وقد اعترف  المعلمين بالذنب في تهم التحرش الجنسي، ومنهم المدير، الذي حكمت عليه محكمة مقاطعة جوانججو في يوليو 2012 بالسجن لمدة 12 عامًا لاعتدائه جنسيًا على طالب يبلغ من العمر 18 عامًا .

  • كاتب وناقد مصري
Visited 86 times, 1 visit(s) today