“نَاسِجَات الأحلام” الانحياز للجمال الفني

Print Friendly, PDF & Email

طالعتنا أستاذة الفرنسية والناقدة السينمائية المغربية ذات الأصول الأمازيغية فاطمة إثري إيغودان بأول تجربة سينمائية لها، وذلك بإنجازها لفيلمها الوثائقي “نَسَّاجَات الأحلام” الذي تناولت فيه متابعةَ تجربة مجموعة نساء بإحدى القرى النائية، المهمشة، الواقعة في مرتفعات جبال الأطلس المتوسط، قررت فئة منهن تغيير واقعهن الثابت من خلال تأسيس جمعية تعاونية من شأنها أن تُعْنَى بصناعة السجاجيد التقليدية، وارتياد آفاق جديدة.

سترصد كاميرا المخرجة المنغرزة في ثنايا الموضوع بشكل ذاتي تارة، وموضوعي تارة أخرى، الوقائع اليومية للنساء في تلك القرية، ولكنها ستركز على طموحات اثنتين منهما على وجه الخصوص لحصر الموضوع وتحديده، خاصة وأن دخول الكاميرا لتلك الفضاءات يمكن من الكشف واكتشاف أشياء كثيرة مستورة، منها السلبي والإيجابي، فلا يمكن ألا يغريك جمال الطبيعة، ولكن وضعية الإنسان المقهور تثير التعاطف فتدفع للحفر في الأسباب والدواعي، ومن هنا تتحدد زاوية المعالجة في الفيلم الوثائقي.

ينطلق الفيلم على إيقاع “تامويت” (موال) الأمازيغية ذات التأثير النافذ الأخاذ بفعل قدرة النساء على تحقيق نوع من الانسجام مع الطبيعة الجبلية المفتوحة، فتتردد أصواتهن وكأنها مزامير أسطورية تحيي حكاية الخلق الأولى. تبدأ الكاميرا بتصوير جمع النساء للحطب من الغابة قصد ضمان الاكتفاء الذاتي من هذه المادة الحيوية التي تستعمل للطبخ والتدفئة وصناعة بعض الأدوات المستعملة في البناء وغيره، ثم تنتقل إلى داخل القرية عبر لقطات ترصد أحوال الناس نساء ورجالا وأطفالا، وهم منهمكون في مشاغل الحياة.

تتداول النساء قضاياهن وهن منهمكات في مناقشة ما يتعلق بأشغال حياكة السجاجيد التي يتطلعن إلى أن تكون لها مردودية أكبر وأفضل لتحسين أوضاعهن الاجتماعية والاقتصادية، فغالبا ما تُسَوَّقُ السجادة بطرق تقليدية في الأسواق الأسبوعية أو يتدخل بعض الوسطاء لاقتنائها بأثمان بَخْسَةٍ مباشرة من النساء الصانعات لها، ويقومون ببيعها بسومات لا علاقة لها بالثمن الأول، وهي أمور تتسبب في استغلال مجهودهن الكبير، وتُفَاقِمُ حجم الفوارق الطبقية. تتحدث النساء وهن داخل المَنْسَجِ عن علاقتهن الحميمة بالحياكة وطقوسها، وتشير إحداهن – بوعي طافح – إلى أن ما يحز في نفسها هو مسألة الاعتراف بإبداعها خصوصا وأن نسج شبر قد يتطلب منها ثلاثة أيام تقريبا، وتتأسف عن عدم توقيعها باسمها (رقية لحسن) كبقية الأعمال الفنية الأخرى.

أعتقد أن هذه المسألة متاحة لأن بعض المناسج والنساجات ينسجن أسماءهن أو يضعن أثرا على السجادةكي يكون بمثابة العلامة التجارية المميزة لها، ولا يمكن لأي كان أن يتصدى لذلك. إن المهم في هذا النقاش هو قيمة تلك الأشكال المتخيلة التي تنقلها النساء عبر أيديهن، فتتحول إلى صور مفعمة بالدلالة والرمزية والمعنى، وتكمن المفارقة في كونها تظل غير محمية كإبداعات شخصية بمجرد مرورها إلى السوق مما يجردها من طابعها الفني المتعالي بمجرد نزولها إلى منطق الاستعمال والانتفاع.

بالرغم من أن حديث النساء عن جمالية السجادة يتجاوز وَعْيَهُنَّ الذي بَدَا عاديا خلال الفيلم إلا أن التنبيه إلى القيمة الإستيتيقية لذلك المنتوج المغربي البديع الذي تشكله نساء المغرب في شتى نواحي المغرب، في القرى والمداشر والمدن، واشتهار بعض المناطق بالتميز فيه كمنطقة “تزناخت” التي تقع بين مدينتي مراكش وورزازات، لَفِعُلٌ فني مهم سيما وأن قلة من المثقفين والفنانين التشكيليين والسينمائيين قد اشتغلوا عليه ومنهم الراحل عبد الكبير الخطيبي والتشكيلي الراحل فريد بلكاهية والمخرج السينمائي سهيل بن بركة في فيلمه الجميل “ألف يد ويد” (1972) الذي تعرض فيه لحجم المعاناة والاستغلال الذي يتعرض له عمال الصناعة التقليدية وخاصة منهم قطاع السجاجيد وما يرتبط به.

تحمل أفلام النقاد السينمائيين لمسة خاصة، ووعيا صافيا، فغالبا ما يتم الانحياز للقضايا الإنسانية ذات الملامح الجمالية الواضحة، وهو ما تحقق بنسبة كبيرة في هذا الفيلم الذي دعمته عدة جهات فرنسية، فبالرغم من بعض المقاطع التقريرية (الريبورتاجية) المباشرة، وظهور بعض التوجيهات الإخراجية التي أتَّرَث بشكل واضح على العفوية المطلوبة في الأفلام الوثائقية، إلا أن الفيلم قدم اجتهادات بصرية مهمة على مستوى التأطير، وتغليب البعد الإنساني والجمالي والتوعوي على حساب البعد المأساوي (الصحة، التعليم، التجهيزات الأساسية…).

قد لا نستغرب حينما نكتشف أن في بلدنا، وفي بلدان عالمية أخرى، متطورة أو متخلفة، غنية أو فقيرة، أناس لم يسافروا قط، ولم يغادروا مسقط رأسهم البتة، لأسباب كثيرة منها ضغوطات الحياة المتنوعة، وأخرى تتعلق بالاختيارات الذاتية إلا أن اكتشاف البحر من لدن السيدتين القادمتين من قلب الجبل إلى مدينة الصويرة الواقعة على المحيط الأطلسي، لَيَجْعَلُ الإنسان يكتشف بالفعل الدهشة الطفولية، والفرح الباطني الخام المنبعث من نفوسهن، والجلي في عيونهن وهن اللائي يحاولن احتضان البحر من شدة الذهول والحبور!

يختتم الفيلم تدفقه بلقطة مقربة تستطلع تطريزات سجادة مغربية جميلة، مفعمة بالألوان، بديعة التشكيل، أجادت إبداعها نساء القرية الفنانات (منهن رقية أعراب، مامة تاعبورت، نعيمة كعو، ميمونة أزلماظ، خديجة أسرار…)، وقد رفدت المخرجة هذا الجمال بأغنية ذات إيقاع أمازيغي هزاز للفنان الأمازيغي نور الدين أورحو انساب على نغماته جنيريك الفيلم ليطوي صفحة من أحلام نسائنا المناضلات المتحملات لشتى أنواع النسيان، المرابطات بأعالي الجبال، المتمسكات بحياة أفضل.

ترتبط ألوان السجادة المغربية بالطبيعة لأن النساء الصانعات في القرى يمتحن منها كما يمتح النحل من الورود والأزهار اليانعة، ففي الطبيعة ما لا يعد ويحصى من الألوان التي لا يمكن للإنسان الإحاطة بها كليا، ولكن احتكاكه بها يظل السبيل الوحيد لاستنطاق مفاتنها وإغواءاتها. وتتميز السجادة الأمازيغية بموادها الطبيعية (الصوف تحديدا)، وبألوانها الحارة، وأنماطها الهندسية المتدرجة من البسيط إلى المركب فضلا عن ليونتها. وتلخص السجادة حصيلة التفاعل الإنساني بين عين المرأة ومحيطها، ففي كل شكلٍ أو لونٍ تاريخٌ من التفاعل البصري المفتوح بين المرأة النَّسَّاجَة وكل الممكنات الشكلية والتخييلية.

Visited 70 times, 1 visit(s) today