محاضرة توني مكبين عن أشكال الفيلم التسجيلى

Print Friendly, PDF & Email


محاضرة: تونى مكيبن

ترجمة: ممدوح شلبى

كثير من المخرجين ليسوا سعداء بمصطلح تسجيلى، وعندما طُلب من المخرج الفرنسى التسجيلى العظيم كريس ماركر ان يقول رأيه عن الشكل فى كتاب “تخييل الواقع” رد قائلا: انا لا اشعر اننى انتمى الى عالم الفيلم التسجيلي. وفى حوار مع مخرج آخر هو بافل بوليكوفسكى، قال انه اذا كانت معظم الافلام التسجيلية تدعى انها (تسجل الواقع فقط) فأين يمكن لأفلامه أن تذهب؟ وأصر قائلا: أنا لا أضع حدودا فى المعالجة الفنية لموضوعاتى. 


المهم هنا الا نفكر فى الفيلم التسجيلى باعتباره مجموعة من القواعد التى تحدد شكل الفيلم، لكن باعتباره سلسلة من الامكانيات المقبولة عندما نكون فى عالم الحقيقة وليس فى عالم الخيال، فالبحث عن الحقيقة يمكن ان يتخذ اشكالا شتى.


ولكى نغطى نقاشنا فإن ما نريد أن نبحثه هو تنوع اشكال الفيلم التسجيلى، فيمكن ان نتناول الفيلم التسجيلى من وجهة النظر الإخبارية، او التحقيقية او الروائية او من وجهة النظر الشخصية.



 هذه المصطلحات فضفاضة، والفيلم التسجيلى قد يستخدم الأشكال الأربعة أو بعضها أو يستخدم شكلا واحدا، وفى مراحل مختلفة من تاريخ السينما كان احد المصطلحات اكثر انتشارا من البقية، فعلى سبيل المثال، فى الستينيات اعتمدت حركتان سينمائيتان على صيغة التحقيق، وهما حركة سينما الحقيقة فى كندا وفرنسا، وحركة السينما المباشرة فى الولايات المتحدة الامريكية، 



المؤسسان الرئيسيان فى كندا وفرنسا كانا ميشيل برو وجان روش، وفى الولايات المتحدة كان المؤسسون الرئيسيون هم ريتشارد ليكوك والاخوان مايسل و دى أ بنيباكر وفريدريك وايسمان، وكانت الفكرة التى انبثقت منها حركة السينما المباشرة الامريكية ان السينما يجب الا تكون مُفتعلة قدر الامكان، واذا كان كثير من افلام حركة سينما الحقيقة الفرنسية والكندية تبدو مُفتعلة، فعلينا ان نقر بارتباط ذلك بالموضوع.

ويصر مخرج السينما المباشرة وايسمان فى فيلميه “المدرسة الثانوية” و”الرعاية الاجتماعية والاسكان الشعبى” على تجنب توجيه اسئلة للموضوعات، ولا يستخدم الموسيقى ولا يستخدم التعليق المُصاحب، وهو يحرص بالتأكيد على عدم تقديم نفسه على الشاشة.

اما مخرج سينما الحقيقة جان روش، فعلى العكس من ذلك، يسمح باظهار وجهة نظره فى الموضوعات، ففى فيلم “وقائع فصل صيف” يجعل المشاهدين واعين بحضوره وحضور المخرج الثانى للفيلم ادجار مورين، فعندما تظهر سيدة فى حالة انهيار امام الكاميرا، يقرر المخرجان أن يأس هذه المرأة استحوز عليهما.



وقبل ظهور هاتين الحركتين كانت الافلام التسجيلية موجودة منذ مدة طويلة، ففيلم “نانوك من الشمال” لروبرت فلاهيرتى ظهر فى العشرينيات، وفيلم “رجل من آران” ظهر فى الثلاثينيات، وكلا الفيلمين كانا واقعيان جدا.


وكما يقول محررا كتاب “تخييل الواقع” – مارك كوسينز وكيفين مكدونالد – فيما له صلة بفيلم “نانوك من الشمال” لفلاهيرتى (تصوير الفيلم كان بعناصر من الواقع، أما مونتاج الفيلم فكان مثل مونتاج الفيلم الروائى) وكانت الافلام قبل ذلك ترى أنه “يجب أن يبتعد الفيلم التسجيلى عن الواقع وأن يتعامل مع العناصر الدرامية وحرفية الفيلم الروائى”  حتى يصبح الفيلم ناجحا. 

أراد مخرجو السينما فى الستينيات أن يكون الفيلم التسجيلى بنفس القدر من الأهمية ولكن من خلال فهم منهجى للواقع الذى يصنعون عنه الفيلم، سواء بتجريب نموذج السينما المباشرة، أو بجعل المشاهدين واعين بأن ثمة شخص وراء الكاميرا له علاقة بالموضوع كما فى حركة سينما الحقيقة.


وعلى أية حال، ينبغى علينا ألا نرى تلك العقائدية كنوع من التقييد: فمن المفارقة أن إصرار منظريهم على أن صناعة الفيلم التسجيلى يجب أن تتحرر من القواعد، جعل بعض المخرجين يضعون بأنفسهم قواعدهم الخاصة بحرية، وعندما نشاهد الأفلام التسجيلية ابتداءا من السبعينيات فان الاختلافات تبدو كبيرة. 

هناك افلام المغامرات الشخصية لفيرنر هيرتزوج، حيث يضع المخرج نفسه فى مواقف خطيرة مثل فيلم “البركان”  حيث ذهب مع المصور الى جزيرة صغيرة كان سكانها يرحلون عنها، فأى شخص آخر كان سيهرب من البركان الذى أوشك ان يثور: أما هيرتزوج فقد اراد ان يكون شاهدا.

وفيلم “الشمس” لكريس ماركر فكان عبارة عن مقالة فى أدب الرحلات استخدم فيها ماركر صوت المُعلق الذى يمثل الضمير ليواءم بين الثقافة اليابانية والثقافة الافريقية، وافلام نك برومفيلد مثل “كرت وكوتنى” كانت منفرة جدا، فهى مليئة بحضوره الشخصى، وكان هذا نتيجة لان المنتجين أصروا على ظهوره أمام الكاميرا ضمن شروط العقد.
 

أنواع التسجيلي

والآن دعونا نعود الى ما نوهنا عنه بخصوص الانواع الأربعة للفيلم التسجيلى وهي: التحقيقى والروائى والإخبارى والشخصى.



 فاذا كانت افلام وايسمان ومايسل وآخرين هى افلام تحقيقية، فماذا عن الأفلام الإخبارية؟



أفلام تسجيلية كثيرة مثل سلسلة “لعالم فى حرب” وافلام آدم كارتس التسجيلية التى تشمل “قرن الذات)” و”قوة الكوابيس” و”الحقيقة المزعجة” و”الذهب الاسود” وغيرها، وكل تلك الافلام (الدى فى دى) عن اخراج الافلام حيث يتلاقى الاخبارى مع الدعائى، فهى تستقطبنا اثناء العملية الاخبارية، وتمنحنا المعلومة المجردة كما لو كانت موسوعة علمية.



أنييس فاردا

من الواضح ان درجة من الموضوعية مفتوحة لنقاشنا، لكن دعونا نقارن بين فيلم “قوة الكوابيس” لكورتس وبين فيلم “فهرنهايت11/9” لمور، فبينما كان كورتس يلهب عقل المشاهدين بالحقائق، فان خفة ظل مور تجعل فيلمه اكثر اريحية، فشخصية مور تفرض نفسها فى الصيغة الاخبارية.



فعلى سبيل المثال عندما قطع مور الى فقرات من فيلم “حملة التفتيش” بعد أن تساءل لماذا سُمح لعائلة بن لادن بمغادرة البلاد، فأى شخص من مشاهدى الحلقات التليفزيونية يعرف ان أول شيء يحدث بعد ارتكاب جريمة هو إجراء مقابلة مع اقرب الجيران، ان الصيغة الاخبارية تفسح الطريق للشخصى.



اذا كانت أفلام مايكل مور تستشكل عند الكثيرين، فهذا يكمن فى الطريقة التى يتبعها باستمرار فى تحويل الفيلم الى شيئ شخصى، ومع ذلك ففيلمه المهم والقوى “سيكو” يسلك الطريق السهل حيث يتنقل مور بين لندن وباريس وهافانا مُشيدا بانظمة الرعاية الصحية فى هذه البلدان والتى تتناقض مع انظمة الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما يمزج مور بين الشخصى والإخبارى السياسى فإنه يجعل المشاهدين منتبهين الى فنياته اكثر مما يقدمه من معلومات، وحتى الحزب الديموقراطى نفسه، والذى أمل مور أن يفوز فى الانتخابات على خلفية فيلمه “فهرنهايت 11/9” ، فانهم انصرفوا عن فيلمه.

وفى نفس السياق، هل فيلم “شوا” أو “المحرقة”، وفيلم “جامعو المحاصيل وأنا” ينتميان الى الأفلام الشخصية؟ بالنسبة للبعض يُعد سبب ضعف فيلم “المحرقة” الذى يدوم أكثر من تسع ساعات والذى يوثق للهولوكوست، لقد بالغ المخرج كلود لانزمان كثيرا فى طرح الاسئلة، لكن من المفهوم ان مغالاة المخرج فى الحوارات كانت محاولة منه للإحاطة بالملابسات الكاملة لمعسكرات الموت.



الشخصى هنا لا يكمن فقط فى الحضور القميئ للمخرج لانزمان، ولكن أيضا فى الذكريات المحفورة فى ذاكرة الشخصيات التى حاورها فى الفيلم، فأحدهم وهو ممثل للحكومة البولندية اثناء الحرب، نراه ينهار ويبكى مُصرا على انه لا يستطيع ان يعود الى الذكريات التى انطمرت، ويواصل لازمان اسئلته مع متحاور آخر شديد الحساسية عله يتذكر ما حدث، وعلى هذا المنوال فان الجانب الشخصى للمخرج لازمان ينتهى غالبا باستخراج العنصر الشخصى للشخصيات التى يحاورها.


ونفس الأمر مع المخرجة الفرنسية أنيس فاردا التى تقدم منظورا شخصيا فى فيلمها “جامعو المحاصيل وأنا” لكن فاردا انسانة ضعيقة، تكشف عن علامات تقدمها فى السن من خلال لقطات مقربة ليديها وشعرها الهش عندما تندهش من صغر حجم المعدات.

كما أنها تمشى على أطراف أصابعها وسط الموضوعات التى تصورها، وتُظهر اعجابها ومودتها وحنانها تجاه الناس الذين تحاورهم، ومن بينهم أناس بلا مأوى وعمال باليومية ومحامين وعاطلين، جميعهم مرتبطون بمهنة الجمع سواء من المزارع أو من صناديق القمامة فى المدينة، إن فاردا تستحضر الشخصى عبر تقديمها لتجربتها الخاصة الحميمية مع موضوع الفيلم. 



تقنية الفيديو

إن الافلام الشخصية ربما تكون أنجح اشكال الفيلم التسجيلى المعاصرة، وخاصة بسبب ظهور تقنية الفيديو.


واذا كان مخرجو السينما المباشرة فى الستينيات قد استفدوا من التقنية الجديدة التى يصفها دى أ بنيباكر بقوله “التسجيل على أشرطة فيديو، ومعدات تصوير اسهل وعدسات متطورة تسمح بتصوير الضوء الطبيعى وعدسات زووم” تسمح بالتقاط ادق التفاصيل، فان تقنية الفيديو قادت المخرج الى أن يفعل العكس. استخدم هيرتزوج وفاردا وماركر تقنية الفيديو كوسيط غنى للتعبير الشخصى.

كلود لازمان في لقطة من فيلم “المحرقة” (شوا)

ولكن ماذا عن الروائى؟ ذكرت فى بداية المحاضرة انه حتى فى السنوات الاولى للسينما التسجيلية كانت قواعد الفيلم الروائى مستخدمة، ولكن فى العقدين الأخيرين أصبح الفيلم التسجيلى اكثر اهمية واكثر رواجا كوسيط اخبارى مما كان عليه فى الستينيات.



سواء كان من خلال همهمة على وفورمان فى الغابة فى فيلم “عندما كنا ملوكا” او البحث عن اثنين من لاعبى كرة السلة الموهوبين فى فيلم “احلام صعبة” او اختبار الصعوبات اثناء اولمبياد ميونخ عام 1972 فى فيلم (“وم من ايام سبتمبر” أو البقاء البطولى على قيد الحياة لمتسلق جبال فى فيلم “مس الفراغ” او تاريخ نيويورك فى فيلم “مرة فى العمر” فان الافلام تُمتع المشاهدين بادخالهم فى دراما القصة.



واذا كان الغرض فى فيلم “الحقيقة المزعجة)” يكمن فى تداول الأخبار، وكان فيلم “جامعو المحاصيل وأنا” لفاردا يكشف عن علاقتها الشخصية بجامعى المحاصيل والناس الذين اتصلت بهم، فان الروائية هى اثارة قصصية وهذا هو المطلوب.

ويرى المخرج آلان باركر ان فيلم “يوم من أيام سبتمبر” به مساحة من الاثارة الجيدة، لكن مثالا استثنائيا للسينما التسجيلية الروائية يمكن ان نجده فى فيلم “الخط الازرق الرفيع” وفيه نرى إيرول موريس يتحرى عن سوء تطبيق العدالة بعد الحكم بالسجن على راندال آدامز بسسب جريمة كان موريس واثقا بانه لم يرتكبها.

من خلال حوارات مع عدد من الناس لهم علاقة بالموضوع، والتى تُثبت بشكل قاطع ان آدامز لا يمكن ان يكون قد ارتكب الجريمة، فموريس لا يقدم فقط شكلا روائيا لكنه يقدم ايضا عملا قضائيا: فالحكم القضائى على آدامز تم الغاءه استنادا الى الدليل الذى اظهره الفيلم.

الشكل الروائى لهذا الفيلم لم يحقق فقط تطلعات الفيلم التسجيلى الروائى، ولكنه اثبت ايضا انه بمثابة وثيقة قانونية.

كم عدد الأفلام التسجيلية الروائية التى تخدم الحقيقة وفى نفس الوقت لا تخلو من مُتعة؟ فيلم “يوم من أيام سبتمبر” على سبيل المثال، يُعد واحدا من الافلام التسجيلية الرائعة وهو يمنح ايضا البصيرة بسهولة وبدون طنطنة.
 


انه يعطى الانطباع بان الشرطة الألمانية ليست لها كفائة بدلا من البحث فى التعقيدات التى احاطت بالموقف، لكن هذا ربما أبطأ الفيلم التسجيلى واوقف تدفق السرد فى الفيلم.



وثمة سؤال يستحق أن نسأله عندما نفكر فى الفيلم التسجيلى الروائى: هل يجب أن يبحث عن الحقيقة ام يهتم بالايقاع المتسارع المثير؟

هذا مجرد سؤال من أسئلة كثيرة تتعلق بالفيلم التسجيلى وسوف نظل نتساءل عنها طوال الساعتين القادمتين.


كثير من المخرجين ليسوا سعداء بمصطلح تسجيلى، وعندما طُلب من المخرج الفرنسى التسجيلى العظيم كريس ماركر ان يقول رأيه عن الشكل فى كتاب “تخييل الواقع” رد قائلا: انا لا اشعر اننى انتمى الى عالم الفيلم التسجيلي. وفى حوار مع مخرج آخر هو بافل بوليكوفسكى، قال انه اذا كانت معظم الافلام التسجيلية تدعى انها (تسجل الواقع فقط) فأين يمكن لأفلامه أن تذهب؟ وأصر قائلا: أنا لا أضع حدودا فى المعالجة الفنية لموضوعاتى. 


المهم هنا الا نفكر فى الفيلم التسجيلى باعتباره مجموعة من القواعد التى تحدد شكل الفيلم، لكن باعتباره سلسلة من الامكانيات المقبولة عندما نكون فى عالم الحقيقة وليس فى عالم الخيال، فالبحث عن الحقيقة يمكن ان يتخذ اشكالا شتى.


ولكى نغطى نقاشنا فإن ما نريد أن نبحثه هو تنوع اشكال الفيلم التسجيلى، فيمكن ان نتناول الفيلم التسجيلى من وجهة النظر الإخبارية، او التحقيقية او الروائية او من وجهة النظر الشخصية.



 هذه المصطلحات فضفاضة، والفيلم التسجيلى قد يستخدم الأشكال الأربعة أو بعضها أو يستخدم شكلا واحدا، وفى مراحل مختلفة من تاريخ السينما كان احد المصطلحات اكثر انتشارا من البقية، فعلى سبيل المثال، فى الستينيات اعتمدت حركتان سينمائيتان على صيغة التحقيق، وهما حركة سينما الحقيقة فى كندا وفرنسا، وحركة السينما المباشرة فى الولايات المتحدة الامريكية، 



المؤسسان الرئيسيان فى كندا وفرنسا كانا ميشيل برو وجان روش، وفى الولايات المتحدة كان المؤسسون الرئيسيون هم ريتشارد ليكوك والاخوان مايسل و دى أ بنيباكر وفريدريك وايسمان، وكانت الفكرة التى انبثقت منها حركة السينما المباشرة الامريكية ان السينما يجب الا تكون مُفتعلة قدر الامكان، واذا كان كثير من افلام حركة سينما الحقيقة الفرنسية والكندية تبدو مُفتعلة، فعلينا ان نقر بارتباط ذلك بالموضوع.

ويصر مخرج السينما المباشرة وايسمان فى فيلميه “المدرسة الثانوية” و”الرعاية الاجتماعية والاسكان الشعبى” على تجنب توجيه اسئلة للموضوعات، ولا يستخدم الموسيقى ولا يستخدم التعليق المُصاحب، وهو يحرص بالتأكيد على عدم تقديم نفسه على الشاشة.

اما مخرج سينما الحقيقة جان روش، فعلى العكس من ذلك، يسمح باظهار وجهة نظره فى الموضوعات، ففى فيلم “وقائع فصل صيف” يجعل المشاهدين واعين بحضوره وحضور المخرج الثانى للفيلم ادجار مورين، فعندما تظهر سيدة فى حالة انهيار امام الكاميرا، يقرر المخرجان أن يأس هذه المرأة استحوز عليهما.



وقبل ظهور هاتين الحركتين كانت الافلام التسجيلية موجودة منذ مدة طويلة، ففيلم “نانوك من الشمال” لروبرت فلاهيرتى ظهر فى العشرينيات، وفيلم “رجل من آران” ظهر فى الثلاثينيات، وكلا الفيلمين كانا واقعيان جدا.


وكما يقول محررا كتاب “تخييل الواقع” – مارك كوسينز وكيفين مكدونالد – فيما له صلة بفيلم “نانوك من الشمال” لفلاهيرتى (تصوير الفيلم كان بعناصر من الواقع، أما مونتاج الفيلم فكان مثل مونتاج الفيلم الروائى) وكانت الافلام قبل ذلك ترى أنه “يجب أن يبتعد الفيلم التسجيلى عن الواقع وأن يتعامل مع العناصر الدرامية وحرفية الفيلم الروائى”  حتى يصبح الفيلم ناجحا. 

أراد مخرجو السينما فى الستينيات أن يكون الفيلم التسجيلى بنفس القدر من الأهمية ولكن من خلال فهم منهجى للواقع الذى يصنعون عنه الفيلم، سواء بتجريب نموذج السينما المباشرة، أو بجعل المشاهدين واعين بأن ثمة شخص وراء الكاميرا له علاقة بالموضوع كما فى حركة سينما الحقيقة.


وعلى أية حال، ينبغى علينا ألا نرى تلك العقائدية كنوع من التقييد: فمن المفارقة أن إصرار منظريهم على أن صناعة الفيلم التسجيلى يجب أن تتحرر من القواعد، جعل بعض المخرجين يضعون بأنفسهم قواعدهم الخاصة بحرية، وعندما نشاهد الأفلام التسجيلية ابتداءا من السبعينيات فان الاختلافات تبدو كبيرة. 

هناك افلام المغامرات الشخصية لفيرنر هيرتزوج، حيث يضع المخرج نفسه فى مواقف خطيرة مثل فيلم “البركان”  حيث ذهب مع المصور الى جزيرة صغيرة كان سكانها يرحلون عنها، فأى شخص آخر كان سيهرب من البركان الذى أوشك ان يثور: أما هيرتزوج فقد اراد ان يكون شاهدا.

وفيلم “الشمس” لكريس ماركر فكان عبارة عن مقالة فى أدب الرحلات استخدم فيها ماركر صوت المُعلق الذى يمثل الضمير ليواءم بين الثقافة اليابانية والثقافة الافريقية، وافلام نك برومفيلد مثل “كرت وكوتنى” كانت منفرة جدا، فهى مليئة بحضوره الشخصى، وكان هذا نتيجة لان المنتجين أصروا على ظهوره أمام الكاميرا ضمن شروط العقد.
 

أنواع التسجيلي

والآن دعونا نعود الى ما نوهنا عنه بخصوص الانواع الأربعة للفيلم التسجيلى وهي: التحقيقى والروائى والإخبارى والشخصى.



 فاذا كانت افلام وايسمان ومايسل وآخرين هى افلام تحقيقية، فماذا عن الأفلام الإخبارية؟



أفلام تسجيلية كثيرة مثل سلسلة “لعالم فى حرب” وافلام آدم كارتس التسجيلية التى تشمل “قرن الذات)” و”قوة الكوابيس” و”الحقيقة المزعجة” و”الذهب الاسود” وغيرها، وكل تلك الافلام (الدى فى دى) عن اخراج الافلام حيث يتلاقى الاخبارى مع الدعائى، فهى تستقطبنا اثناء العملية الاخبارية، وتمنحنا المعلومة المجردة كما لو كانت موسوعة علمية.



أنييس فاردا

من الواضح ان درجة من الموضوعية مفتوحة لنقاشنا، لكن دعونا نقارن بين فيلم “قوة الكوابيس” لكورتس وبين فيلم “فهرنهايت11/9” لمور، فبينما كان كورتس يلهب عقل المشاهدين بالحقائق، فان خفة ظل مور تجعل فيلمه اكثر اريحية، فشخصية مور تفرض نفسها فى الصيغة الاخبارية.



فعلى سبيل المثال عندما قطع مور الى فقرات من فيلم “حملة التفتيش” بعد أن تساءل لماذا سُمح لعائلة بن لادن بمغادرة البلاد، فأى شخص من مشاهدى الحلقات التليفزيونية يعرف ان أول شيء يحدث بعد ارتكاب جريمة هو إجراء مقابلة مع اقرب الجيران، ان الصيغة الاخبارية تفسح الطريق للشخصى.



اذا كانت أفلام مايكل مور تستشكل عند الكثيرين، فهذا يكمن فى الطريقة التى يتبعها باستمرار فى تحويل الفيلم الى شيئ شخصى، ومع ذلك ففيلمه المهم والقوى “سيكو” يسلك الطريق السهل حيث يتنقل مور بين لندن وباريس وهافانا مُشيدا بانظمة الرعاية الصحية فى هذه البلدان والتى تتناقض مع انظمة الرعاية الصحية فى الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما يمزج مور بين الشخصى والإخبارى السياسى فإنه يجعل المشاهدين منتبهين الى فنياته اكثر مما يقدمه من معلومات، وحتى الحزب الديموقراطى نفسه، والذى أمل مور أن يفوز فى الانتخابات على خلفية فيلمه “فهرنهايت 11/9” ، فانهم انصرفوا عن فيلمه.

وفى نفس السياق، هل فيلم “شوا” أو “المحرقة”، وفيلم “جامعو المحاصيل وأنا” ينتميان الى الأفلام الشخصية؟ بالنسبة للبعض يُعد سبب ضعف فيلم “المحرقة” الذى يدوم أكثر من تسع ساعات والذى يوثق للهولوكوست، لقد بالغ المخرج كلود لانزمان كثيرا فى طرح الاسئلة، لكن من المفهوم ان مغالاة المخرج فى الحوارات كانت محاولة منه للإحاطة بالملابسات الكاملة لمعسكرات الموت.



الشخصى هنا لا يكمن فقط فى الحضور القميئ للمخرج لانزمان، ولكن أيضا فى الذكريات المحفورة فى ذاكرة الشخصيات التى حاورها فى الفيلم، فأحدهم وهو ممثل للحكومة البولندية اثناء الحرب، نراه ينهار ويبكى مُصرا على انه لا يستطيع ان يعود الى الذكريات التى انطمرت، ويواصل لازمان اسئلته مع متحاور آخر شديد الحساسية عله يتذكر ما حدث، وعلى هذا المنوال فان الجانب الشخصى للمخرج لازمان ينتهى غالبا باستخراج العنصر الشخصى للشخصيات التى يحاورها.


ونفس الأمر مع المخرجة الفرنسية أنيس فاردا التى تقدم منظورا شخصيا فى فيلمها “جامعو المحاصيل وأنا” لكن فاردا انسانة ضعيقة، تكشف عن علامات تقدمها فى السن من خلال لقطات مقربة ليديها وشعرها الهش عندما تندهش من صغر حجم المعدات.

كما أنها تمشى على أطراف أصابعها وسط الموضوعات التى تصورها، وتُظهر اعجابها ومودتها وحنانها تجاه الناس الذين تحاورهم، ومن بينهم أناس بلا مأوى وعمال باليومية ومحامين وعاطلين، جميعهم مرتبطون بمهنة الجمع سواء من المزارع أو من صناديق القمامة فى المدينة، إن فاردا تستحضر الشخصى عبر تقديمها لتجربتها الخاصة الحميمية مع موضوع الفيلم. 



تقنية الفيديو

إن الافلام الشخصية ربما تكون أنجح اشكال الفيلم التسجيلى المعاصرة، وخاصة بسبب ظهور تقنية الفيديو.


واذا كان مخرجو السينما المباشرة فى الستينيات قد استفدوا من التقنية الجديدة التى يصفها دى أ بنيباكر بقوله “التسجيل على أشرطة فيديو، ومعدات تصوير اسهل وعدسات متطورة تسمح بتصوير الضوء الطبيعى وعدسات زووم” تسمح بالتقاط ادق التفاصيل، فان تقنية الفيديو قادت المخرج الى أن يفعل العكس. استخدم هيرتزوج وفاردا وماركر تقنية الفيديو كوسيط غنى للتعبير الشخصى.

كلود لازمان في لقطة من فيلم “المحرقة” (شوا)

ولكن ماذا عن الروائى؟ ذكرت فى بداية المحاضرة انه حتى فى السنوات الاولى للسينما التسجيلية كانت قواعد الفيلم الروائى مستخدمة، ولكن فى العقدين الأخيرين أصبح الفيلم التسجيلى اكثر اهمية واكثر رواجا كوسيط اخبارى مما كان عليه فى الستينيات.



سواء كان من خلال همهمة على وفورمان فى الغابة فى فيلم “عندما كنا ملوكا” او البحث عن اثنين من لاعبى كرة السلة الموهوبين فى فيلم “احلام صعبة” او اختبار الصعوبات اثناء اولمبياد ميونخ عام 1972 فى فيلم (“وم من ايام سبتمبر” أو البقاء البطولى على قيد الحياة لمتسلق جبال فى فيلم “مس الفراغ” او تاريخ نيويورك فى فيلم “مرة فى العمر” فان الافلام تُمتع المشاهدين بادخالهم فى دراما القصة.



واذا كان الغرض فى فيلم “الحقيقة المزعجة)” يكمن فى تداول الأخبار، وكان فيلم “جامعو المحاصيل وأنا” لفاردا يكشف عن علاقتها الشخصية بجامعى المحاصيل والناس الذين اتصلت بهم، فان الروائية هى اثارة قصصية وهذا هو المطلوب.

ويرى المخرج آلان باركر ان فيلم “يوم من أيام سبتمبر” به مساحة من الاثارة الجيدة، لكن مثالا استثنائيا للسينما التسجيلية الروائية يمكن ان نجده فى فيلم “الخط الازرق الرفيع” وفيه نرى إيرول موريس يتحرى عن سوء تطبيق العدالة بعد الحكم بالسجن على راندال آدامز بسسب جريمة كان موريس واثقا بانه لم يرتكبها.

من خلال حوارات مع عدد من الناس لهم علاقة بالموضوع، والتى تُثبت بشكل قاطع ان آدامز لا يمكن ان يكون قد ارتكب الجريمة، فموريس لا يقدم فقط شكلا روائيا لكنه يقدم ايضا عملا قضائيا: فالحكم القضائى على آدامز تم الغاءه استنادا الى الدليل الذى اظهره الفيلم.

الشكل الروائى لهذا الفيلم لم يحقق فقط تطلعات الفيلم التسجيلى الروائى، ولكنه اثبت ايضا انه بمثابة وثيقة قانونية.

كم عدد الأفلام التسجيلية الروائية التى تخدم الحقيقة وفى نفس الوقت لا تخلو من مُتعة؟ فيلم “يوم من أيام سبتمبر” على سبيل المثال، يُعد واحدا من الافلام التسجيلية الرائعة وهو يمنح ايضا البصيرة بسهولة وبدون طنطنة.
 


انه يعطى الانطباع بان الشرطة الألمانية ليست لها كفائة بدلا من البحث فى التعقيدات التى احاطت بالموقف، لكن هذا ربما أبطأ الفيلم التسجيلى واوقف تدفق السرد فى الفيلم.



وثمة سؤال يستحق أن نسأله عندما نفكر فى الفيلم التسجيلى الروائى: هل يجب أن يبحث عن الحقيقة ام يهتم بالايقاع المتسارع المثير؟

هذا مجرد سؤال من أسئلة كثيرة تتعلق بالفيلم التسجيلى وسوف نظل نتساءل عنها طوال الساعتين القادمتين.

Visited 22 times, 1 visit(s) today