“عاري” تعبير سينمائي بليغ عن التدهور الإنساني

Print Friendly, PDF & Email

كان فيلم “عاري” (1993) Naked لمايك لي، نقلة كبرى في مسيرة مخرجه المعروف بأسلوبه الواقعي بعد «آمال كبيرة» (1987) و«الحياة حلوة»، وصاحب الرصيد المهم في المسرح الانكليزي. انه «التحفة» الكبيرة التي لا يتوصل اليها مخرج سوى بعد سنوات طويلة من البحث النظري والعملي في مجال الدراما والشكل الى ان يتوصل الى اسلوب خاص مميز له.

وكما ان فيلم «يا لك من رجل محظوظ» كان قمة ما وصل اليه المخرج ليندساي اندرسون عام 1973، يمكن اعتبار «تعرية» ـ ليس قمة مايك لي ـ بل بداية الطريق لاكتشاف القدرة السينمائية المذهلة القادرة على صنع شهادة بصرية رائعة عن الواقع البريطاني الآن، والاهم بالطبع، الكشف عن معالم اسلوب متميز لا يحاكي اسلوبا اخر من قبل.

«عاري» فيلم واقعي ومضاد للواقعية في آن. فهو فيلم عن البطل الفرد، لكنه أساسا عن اللا بطل ـ او نقيض البطل المعاصر، عن لندن المدينة والبشر، لكنه أيضا عن الدنيا بأسرها، وعن الإنسان في ذلك العالم الجديد الذي اضطربت اركانه وتهاوت معالمه. عن تداخل المستويات وتفتت القيم الثابتة القديمة، كما هو عن الحاجة الى البحث مرة اخرى عن قيم اخرى جديدة لبناء كيان اجتماعي جديد على أنقاض القديم. انه رحلة داخل «رحم» المجتمع.. قد تنتهي الى ولادة الجديد، او اجهاضه.. تقدم الانسان او تجاوزه لمحنته الحالية، او اندثاره ككائن مهم لديه القدرة على ان يترك اثارا وشواهد على ابداعه الفكري واضافاته الخلاقة الى الطبيعة.

الطبيعة في هذا الفيلم حزينة شاحبة، ورغم انه مصور بالألوان، الا أن صورة الواقع الحالي التي نراها، هي صورة أقرب الى التجريدية المصورة بالأبيض ـ والأسود. وإذا كان الأداء التمثيلي هنا يعد أحد أكثر العناصر الفنية تكثيفا لدراما الانهيار الاجتماعي والسقوط الاخلاقي والسياسي والاقتصادي والتدهور الثقافي، الا ان الضوء الذي يحدد لنا معالم الصورة ويتحكم فيما يصل الينا من خلالها، هو أيضا عنصر أساسي من عناصر أسلوب المخرج مايك لي.

هذا فيلم ينهل من المسرح والأدب والفلسفة العدمية والكلبية، لكي يعبر عن الحلم وإجهاض الحلم، وما اهتزاز الكاميرا الدائم سوى تعبير عن عبثية المنظور. ان «تعرية» هو في عبارة واحدة: امتداد على أفق التسعينيات لكل من «تكبير» أنطونيوني كشاهد على الستينيات، و«يا لك من رجل محظوظ» لليندساي اندرسون، كشاهد على ما وقع من اغتراب بعد 1968.

البطل في فيلم “عاري” ـ يدعى جيمي ـ هو شاب في السابعة والعشرين من عمره، ليس ثائرا ولا متمردا على قوانين المجتمع، لا يطمح الى الثورة ولا الى التغيير، ولا يبكي على بقاء الوضع على ما هو عليه بعد 25 عاما على ثورة الشباب في 1968. لكنه في الحقيقة ابن التسعينيات الذي ارتضى السقوط، يتطلع إلى العالم من خلال نظرة “كلبية” cynical، عن وعي وعن يقين، يدفع مصيره بنفسه الى الهاوية. فهو يندفع برغبة عنيفة نحو تدمير الذات.

«جيمي» نتاج لمجتمع البطالة ـ على العكس من بطل أنطونيوني في «تكبير» Blow Up (او «انفجار» حسب التسمية الشائعة) الذي كان نتاجا لمجتمع الوفرة. وهو كذلك نتاج للتشرد والحرمان والهامشية وانهيار القيم الطبقية القديمة في حقبة مرجريت ثاتشر وما بعدها. إنه شاهد على التدهور ومشارك فيه التدهور في آن. فهو يجمع إذن بين المتناقضات: العفونة والانتهازية التي لا يسعى لتبريرها، والرثاء والرقة والعاطفة التي يحاول في معظم الأحيان إخفاءها. انه لا يبرر بل يمنطق الأشياء بمنطق المثقف، فقد كان معلما هجر التعليم لإحساسه الشخصي بالعبث.. عبث الواقع بأكمله، وقرر أن ينحدر الى الدرك الأسفل طواعية، عن طريق الإغراق في الجنس والمخدرات وغشيان العالم السفلي الذي يجتمع فيه الهامشيون والمنبوذون من جيل الشباب.

يبدأ الفيلم به في إحدى أزقة مدينة مانشستر وهو يضاجع عاهرة قبل انبلاج ضوء الفجر، يمارس ساديته العنيفة معها، الى أن تكاد تلفظ أنفاسها فتضربه وتهرب مهددة إياه بالويل. ويقرر «جيمي» أن يغادر المدينة بأكملها، يسرق سيارة ويتجه بها الى لندن.. العاصمة الفسيحة التي يتوه فيها النهار في أحشاء الظلمة في الداخل والخارج.

في لندن يلتقي جيمي صديقته السابقة ورفيقتها في السكن، تجذبه الرفيقة بضياعها واستعدادها الواضح للانسياق معه في نزواته، فهي مثله تشعر بقسوة الدمار الداخلي تريد أن تتمادى حتى أقصى درجات تدمير الذات من خلال الافراط في الجنس والعنف والمخدرات.

ترتبط الفتاة به وتلتصق به كظله، يمارس الاثنان الدنس السادي- المازوكي المرضي الى ان يشعر جيمي بالملل من الفتاة فيهجرها دون أن يهجر المسكن الذي يعود في الواقع إلى ممرضة ذهبت في رحلة طويلة الى الخارج.. الى افريقيا.

يترك جيمي العنان لنفسه كبطل يسعى تجاه مصيره، لا تحركه الأقدار العاصفة، بل طغيان الإحساس بالدمار. يلتقي بعد ذلك بشاب شبه مختل من اسكتلندا.. ضائع في فراغ لندن يبحث عن صديقة له تدعى «مرجريت»، ثم يلتقي حارسا ليليا يؤدي عملا روتينيا في احدى الشركات، يقضي وقته إما في القراءة، أو في التلصص على امرأة في خريف العمر ترقص وحدها في غرفتها وتتعرى اثناء الليل.

الحوار الذي يدور بين جيمي وهذا الحارس، ينتهي بالانهيار الكامل لقناعات الحارس، فيسلم قياده لجيمي. ان منطق البطل المهزوم هنا يفرض نفسه بشكل سحري على كل من يلتقيهم من الشخصيات اللندنية المدمرة سلفا أو الهشة القابلة للدمار.. فيما عدا نموذج واحد فقط لا يستطيع السيطرة عليه بمنطقه المدمر.. صديقته السابقة لويز التي ترثي لحاله.. تحاول بشتى الطرق استعادته الى ذاته الحقيقية، واستعادة علاقتهما. وفي اللحظة التي تتصور فيها في النهاية انها حققت هدفها، يكون الخيط قد أفلت نهائيا. فبعد أن تجتمع جماعة من حليقي الرؤوس والصعاليك الهامشيين ثم يضربونه بعنف ويكسرون ساقه، يستولي جيمي من منزل لويز على بضع جنيهات ويغادر المنزل وهو يسير بصعوبة بالغة بسبب اصابته، يترك نفسه فريسة لشوارع لندن المقفرة الباردة.. ونراه في النهاية وهو يتجه نحو مصير غامض.

يعتمد الفيلم في المقام الأول، على البناء المحكم للشخصيات، وبالتالي على عبقرية الاداء التمثيلي لمجموعة ابطاله وفي مقدمتهم الممثل ديفيد ثيوليس الذي سيكون له شأن كبير في السينما البريطانية.

هناك شخصية شديدة الاهمية في الفيلم لشاب ينتمي للطبقة الوسطى الميسورة، ينقل مايك لي من خلال هذه الشخصية، ما آلت اليه هذه الطبقة من تدهور عن طريق الإغراق في الملذات الحسية بشتى انواعها دون مبالاة بما يحدث حولها من انهيار اجتماعي كامل.

هذا الشاب ـ ويدعى سباستيان ـ يغشى الحانات والمطاعم الفاخرة، يغوي بماله ووسامته وسيارته الفارهة، كل فتاة جذابة تقع عليها عيناه: نادلة.. اخصائية تدليك، بل ويقرر في النهاية ان يمتلك ايضا سكان المنزل الذي يمتلكه ويؤجره لهم.. فيذهب الى المنزل الذي يقيم فيه جيمي مع لويز ورفيقتها، يحاول اغواء الفتاتين، ويعرض مالا على احداهن وهي الفتاة المنسحقة، المهزومة، فتقبل ان يمارس معها كل انواع الجنس بساديته المقززة، الى ان توشك هي على الانهيار. لكنه يتشاجر مع لويز، فيقرر البقاء في المنزل والاستيلاء على الشقة التي تقيم فيها، ولا تنجح كل محاولاتهن في دفعه للرحيل الى ان تحضر فجأة مستأجرة المنزل من رحلتها الافريقية. الممرضة التي تتشبه بالطبقة الوسطى، تظن ان المجتمع الذي تركته قبل فترة طويلة، مازال على ما كان عليه. ولكنها تفاجأ عند عودتها بالانهيار الاجتماعي كما يتبدى فيما يقع في المنزل نفسه من مفارقات، وما يجتمع فيه من شخوص انتهت علاقتهم بالواقع فغرقوا في الوهم المريض، يسعون لستر احساسهم بالرعب الاجتماعي، عن طريق الجنس.

يعبر مايك لي بعبقريته في كتابة السيناريو الأصلي ـ غير المقتبس عن عمل ادبي ـ عن صدمة الفتاة بان يجعلها عاجزة، ليس فقط عن التصرف، بل وعن نطق العبارات التي اعتادت عليها.. في عقدة لغوية مضحكة.

اما اسلوب الاخراج فتحكمه الواقعية الصارمة، لكن بعيدا عن القوالب القديمة. ففي سياق الفيلم وعلى الرغم من كل مشاهد العنف التي نراها، تظل هناك لمحات شاعرية خاصة يضفيها التصوير المذهل للمدينة في الليل وفي النهار، في الداخل وفي الخارج. هناك احساس حاد بالاختناق يتولد عن صبغ الصورة بالظلال القاتمة، وتجريد عناصرها الى ما يبدو أقرب الى التصوير بالأبيض والأسود واضفاء جو البرودة القاتلة التي تشي بغياب المشاعر، كما أن واقعية الصورة لا تنبع من محاكاة الواقع او تسجيله، بل من كل ما يتولد عنه من اشارات ذهنية ذات علاقة وثيقة بصورة واقع اجتماعي محدد في عالم تحلق فوقه الكآبة.

ورغم الصورة القاتمة والشخصيات المغرقة في العبث واللهو وتدمير الذات، تبرز في الفيلم مواقف تثير الضحك بين حين وآخر. فمن قلب التراجيديا تبرز الملهاة ايضا.

انها رحلة «ابوكاليبسية» تجمع في طياتها كل شي: الفرد والمجتمع والطبقة والقيم الجديدة ـ القديمة، الضحك والبكاء والمرض والايذاء البدني والنفسي. البدء والمنتهى معا في صيرورة حتمية.

 ربما نشعر في النهاية ان هذا العالم ينهار بفعل قوة جبارة سحرية، لكن مايك لي يؤكد أن انهياره ناتج أساسا عن انهيار القيم الإنسانية.. ويرى أن الإنسان يمكن أن يبدأ مسارا جديدا إذا ما استيقظ من غيبوبته ولامبالاته. وهذا ما يجعل من «عاري» فيلما متفائلا أيضا رغم كل تشاؤمه الظاهري!




Visited 129 times, 1 visit(s) today