“الحمولة” والمصير الإنساني بعد الوباء

العائلة المهددة بالفناء في فيلم "الحمولة" العائلة المهددة بالفناء في فيلم "الحمولة"
Print Friendly, PDF & Email

“الحمولة” Cargo هو فيلم روائي طويل من استراليا، يتناول موضوعا جادا، يتعلق بانتشار وباء يصيب البشر في استراليا، يمزج بين أسلوب أفلام الرعب، خاصة تلك التي يتحول فيها البشر إلى “كائنات” خطرة مخيفة، وبين النقد السياسي المستتر الذي تتعلق بتاريخ استراليا وبما فعله المستعمر الأوروبي الأبيض بالسكان الأصليين.

يمكن اعتبار الفيلم امتدادا لفيلم قصير بالعنوان نفسه، اشترك في كتابته وإخراجه كل من ويلاند رامك وبن هولنغ. وهو يطرح أسئلة تثير للتفكير مثل: هل يمكن أن يؤدي العبث بالطبيعة إلى انبعاث فيروسات ضارة بالإنسان، تؤدي بدورها إلى انتشار وباء يحول البشر إلى كائنات مخيفة (زومبيز) أو الأموات- الأحياء، تسعى هذه الكائنات إلى البقاء فقط عن طريق التهام اللحم البشري أو الأشخاص الأصحاء الذين لم تصيبهم العدوى بعد. والفيلم يصور أيضا مثلما كانت أفلام قديمة أصبحت من كلاسيكيات أفلام الرعب مثل “ليلة الموتى الأحياء” كيف تنتقل العدوى عن طريق العض، وتجعل من تعرضوا للعض من تلك الكائنات، يتحولون بدورهم الى “زومبيز”. هل الحضارة الإنسانية معرضة للزوال بسبب الأنانية والرغبة المسعورة في التملك والثراء والجشع الرأسمالي؟

تدور أحداث الفيلم في سياق “واقعي- خيالي” في الزمن المضارع، وهو يتضمن الكثير من الإشارات الرمزية، يشير إلى حرائق الغابات المتكررة في استراليا وما يفترض أن يكمن وراءها، وجهل المستوطنين البيض الذي استعمروا البلاد، بثقافة السكان الأصليين (الأبورجينز)، وعجزهم عن التعامل مع الظواهر الطبيعية التي تقع بسبب اعتداءاتهم المتواصلة والغبية على الطبيعة، والتكالب على استنزاف الموارد الطبيعية من باطن الأرض ومن الغابات دون حساب للعواقب.

التساند من أجل تجاوز المحنة

على سبيل المثال يشير الفيلم إلى الوسائل التي يستخدمها الانسان عن جهل، للبحث عن الغاز عن طريق حقن الصخور بسائل ما، تحت ضغط مرتفع، مما يحدث تشققات تؤدي الى خروج الغاز، وما ينتج من تأثيرات مدمرة.

إلا أن صناع الفيلم يستخدمون عناصر الإثارة والرعب مع تضمين مثل هذا التساؤلات بين ثنايا الحدث الدرامي المثير نفسه، ومن خلال شكل جذاب يستدرج المتفرج إلى الموضوع تدريجيا إلى أن يصبح في قلبه تماما، قبل أن يعرج به على جوهر الفكرة، فمن تلك الشخصية الرئيسية لبطلنا “آندي” الذي يسعى لإنقاذ ابنته الطفلة الصغيرة والخروج بها من تلك المتاهة، في تلك المنطقة المعزولة في الغابات، في مسار يأسر المتفرج ويجعله يتعاطف مع النزعة الإنسانية الفطرية للنجاة وإنقاذ الطفولة، إلى الرمزية التي تكمن في فكرة أن الطفلة التي يراد انقاذها هي التي ستشارك مع غيرها من “الناجين” القلائل من جميع الأجناس والألوان، في إعادة إنتاج البشرية، على نحو يذكرنا بفكرة انقاذ الطفلة الوليدة الوحيدة في فيلم “أبناء الرجال” Children of Men.

“آندي” وزوجته “روز” يهربان مع طفلتهما الصغيرة “روزي” الى أطراف النهر قرب الغابة بعد أن اجتاح العالم وباء غامض يحول الانسان الى حيوان شره متوحش يتوق لالتهام اللحم البشري والدماء. ولكن يقع ما لا تحمد عقباه، فبعد أن يكاد ينفد ما معهما من الأطعمة، يعثر آندي في زورق قريب على بعض المأكولات. وعندما تذهب زوجته لكي تأتي بالمزيد تتعرض للعض من أحد الكائنات “الزومبي”، وتبدأ تدريجيا في التحول. ولا يجدي تشبث آندي بعدم التخلي عنها ومحاولة علاج جرحها العميق بل ينتهي الأمر بأن يتعرض آندي نفسه للعض من جانب روز، وتصبح المسألة مسألة وقت، قبل أن يتحول “آندي” أيضا إلى زومبي. هذا “الزمن الباقي” الذي يقاس بساعة معينة يلفها الرجل حول معصمه، يشير إلى ان أمامه 48 ساعة فقط يتعين عليه خلالها أن يصل بابنته الصغيرة الى بر الأمان قبل أن يتحول إلى وحش كاسر.

ستقع الكثير من الأحداث في الطريق. ستلقى روز بالطبع مصيرها المنتظر. ويقابل آندي رجلا يعمل في التنقيب عن الغاز في المنطقة هو “ريك” الذي يقوم بالتخلص من الكائنات الزومبي بإطلاق الرصاص عليها وحبس السكان الأصليين الذين استولى على أرضهم، داخل أقفاص، ووضع قطع من اللحم البشري حول الأقفاص الحديدية، لإغراء الزومبيز برائحة اللحم لتهجم عليهم وتفترسهم!

أما أهم ما يحدث له فهو لقاؤه بفتاة صغيرة من السكان الأصليين هي “تومي” التي تبحث عن والدها، تريد إنقاذه، وتريد أيضا تحرير الرجل العجوز، حكيم القبيلة، والعودة الى أمها التي انضمت الى فرقة الناجين في الغابة، الذين يقتلون الزومبيز، ويحاولون الوصول إلى النهر والهرب من تلك المنطقة الموبوءة.

الأب والإبن

تصبح العلاقة بين تومي وآندي هي محور الفيلم، وهي التي تلخص فلسفته، فتومي هي التي ستلقن آندي فلسفة الثقافة الأخرى، ثقافة السكان الأصليين التي لا يعرفها لكونه “الغابي الغبي”- كما تطلق عليه- أي الرجل الأبيض الغبي الذي لا يفهم لغة الأرواح، ولا نداءاتها، ولا كيف يمكن تضليل الكائنات الشريرة عن طريق طلاء الوجه بصبغة من مادة معينة. والأهم، أنه لا يستطيع أن يفهم أن ما وقع للإنسان من عدوى بهذا الفيروس الغامض الذي لا علاج له، حدث بعد أن فقد الإنسان الروح. وتومي في نهاية الأمر، هي التي ستصبح “الأم البديلة” لطفلته “روزي”.

وكما ينتهي فيلم “أبناء الرجال” نهاية متفائلة بانتصار الانسان على الوباء، ينتهي فيلم “الحمولة” نهاية مماثلة رغم ما يشيع فيه من أهوال وفقدان وتحولات وتهديدات مريعة يرى صناع الفيلم أنها من الممكن أن تقضي على إنسانية الانسان بعد أن فقد انسانيته في خضم بحثه الشرس عن الثروة والثراء. إن “ريك” المستثمر الجشع في حقول الغاز التي استولى عليها عنوة من أصحابها الأصليين، يطمع في أن ينتهي الوباء وان ينجح هو في تحقيق ثروة ولو على حساب تدمير الطبيعة نفسها. وهو لا يتورع عن القتل والفتك بخصومه والاستيلاء على زوجة زميله الجميلة لنفسه، بعد أن تركه يموت ورفض مساعدته.

من أفضل العناصر المميزة للفيلم، أداء الممثل مارتن فريمان في دور “آندي”، فهو يحمل الحمل كله على عاتقه، تماما كما يحمل ابنته الصغيرة ويسير بها يقطع مسافات شاقة في الغابات، كما يتمتع أداء الممثلة الصغيرة من الأبورجينز “سيمون لاندرز” بجاذبية خاصة، في دور “تومي”. الأول يتدرج في الأداء من الخوف إلى الفزع إلى التحول الذي ينذر بسوء العاقبة ومع ذلك تظل مشاعر الأبوة طاغية لديه حتى النهاية، يقاوم إغراء التهام قطعة من اللحم البشري ثم يواصل السير حتى يصل بابنته الى بر النجاة. أما لاندرز فهي تؤدي أداء شبه صامت في النصف الأول من الفيلم. تظهر وتختفي في البداية كما لو كانت شبحا من الماضي.. ثم يترسخ حضورها في الفيلم وتصبح رمزا لحضارة كاملة.

فيديو:

Visited 130 times, 1 visit(s) today