الفيلم الإسباني “الضيف الخفي” والتلاعب بالمشاهد

لقطة من فيلم "الضيف الخفي" لقطة من فيلم "الضيف الخفي"
Print Friendly, PDF & Email

تعد السينما الإسبانية واحدة من أهم حركات السينما في القارة العجوز، منذ أن قدمت في عام 1897 فيلمها القصير “مشادة في مقهى” الذي لا يتجاوز العشر دقائق.

ومع حلول عام 1916 أنتجت السينما الأسبانية أول فيلم روائي طويل هو “حياة كولومبوس واكتشافه أمريكا”، ثم تدور عجلة الانتاج وتدخل السينما الإسبانية فترة محاكاة وتقليد للحركات السينمائية العالمية. ولم تستقل بتجاربها الذاتية إلا عن طريق رواد أسسوا لهذا الفن فى أسبانيا وجعلوا للسينما الأسبانية أسلوبها الخاص مثل المخرج لويس بونويل الذي قدم أسلوبا أقرب للسيريالية، ولويس برلانغا الذي أسس لسينما نقدية شعبية، وخوان أنطونيو بارديم الذي تأثر بالواقعية الجديدة وقدم أفلاما تتراوح بين الواقعية الجديدة والميلودراما الهوليودية، مثل فيلمه ”موت راكب الدراجة” 1955، وجاء بعد ذلك ماريو كاموس، فرانشيسكو ريجوير، ومانويا سومرز. ولعل أسبانيا أمدت السينما العالمية بنجوم أضاءوا سماء هوليود مثل أنطونيو بانديراس وبينولوبي كروز وخافيير بارديم، وغيرهم.

فيلم جيد الصنع

تقدم السينما الإسبانية أحد أروع أفلامها فى السنوات الأخيرة، وتعيد بذلك الأنظار للفيلم الأوروبي الذي كان ينافس على استحياء لسنوات طويلة أمام غزارة الإنتاج السينمائي العالمي. ولعل عرض مجموعة من الأفلام الإسبانية على شبكة نتفليكس ومنها فيلم “الضيف الخفي” أعاد الرواج للسينما الأسبانية بما تحمله من ملامح فنية وتقنية جيدة، ووضعها أمام أكثر من 182 مليون مشترك يشاهدون هذه الشبكة.

 ولا نستطيع أن نقولب هذا الفيلم فى قوالب الحبكة البوليسية أو نصنفه ضمن أفلام الإثارة والتشويق فقط بل سيمتد الحديث بنا حول فنيات هذا الفيلم الرائع الذي دفع صناع السينما فى بلدان أخرى لتحويله لنسخة إيطالية بعنوان “the invisible witness”  وأخرى هندية قام ببطولتها النجم الهندي اميتاب بتشان بعنوانbadla”  ” أى الانتقام.

    فيلم “الضيف الخفي”، سيناريو وإخراج أوريول باولو الذي يمكننا أن نقول أنه قدم سيناريو يحمل الكثير من تقنيات الكتابة السينمائية المغايرة والملفتة. ولن نبالغ إن قلنا أن باولو بفيلمه هذا كاد أن يضيف حلقة جديدة إلى سلسلة السيناريوهات العظيمة التي يمكن التوقف عندها بالدراسة والتأمل وذكرنا مع الفارق بأفلام مثل فيلم “خيال رخيص”   لتارانتينو  و”ميمنتو” لكريستوفر نولان وغيرهما.

الفيلم من بطولة ماريو كاساس في دور رجل أعمال شاب، وباربرا ليني التي تقوم بدور عشيقته، وخوسيه كورونادو، وأنا وجنر، في دور زوجين يفقدان أبنهما الوحيد في ظروف غامضة، وتدور الأحداث حول رجل أعمال ناجح متهم بقتل عشيقته داخل أحد الفنادق تحاول المحامية التي تحمل خبرة كبيرة مساعدته فى إثبات براءته لكنها فى جلستها معه التى تستمر طيلة الفيلم، تحاول استنطاقه ومعرفة أبعاد وأسرار القضية التي ترى أنه يخفيه، حتى تستطيع مساعدته وإقناع هيئة المحلفين ببراءته.

في البداية نرى رجلا يقتل لورا عشيقة ادريان ثم يعتدى على أدريان ويصدم رأسه فى المرآة وبعدها يتبخر وكأنه لم يكن. وعندما تقتحم الشرطة الغرفة تجدها موصدة من الداخل إذاً كيف خرج القاتل الذي يؤكد لنا ادريان وجوده. تبدأ المحامية بذكاء فى استدراج ادريان ومحاولة معرفة الحقيقة فيبدأ السيناريو فى نسج خيوطه الوهمية التى ستورط المشاهد وتتلاعب بتوقعاته حتى النهاية في لعبة سردية تتبدل بها الأدوار أكثر من مرة.

سيناريو مخادع

يبدأ ادريان المتهم بقتل عشيقته في سرد الملابسات التى أوصلته لغرفة الفندق حيث كان القاتل الحقيقي بانتظاره داخل الغرفة. تعود الأحداث في “فلاش باك” حيث كان ادريان يقود سيارته الفارهة على طريق بعيد تحيط به الأحراش ومعه عشيقته لورا. وفجأة يقفز غزال بري أمام السيارة. يحاول أدريان السيطرة على سيارته لكنه يصطدم بسيارة أخرى يقودها شاب يلقى مصرعه في الحال، ويحاول ادريان إنقاذ الشاب الغارق فى دمائه لكن عشيقته تقنعة بأن هذا سيدخلهما فى متاعب، علاوة على افتضاح أمر علاقتهما السرية.

تنجح لورا في إقناع ادريان بالتخلص من جثة الشاب، فيضعه في صندوق السيارة ويغرقها في البحيرة، فى تلك الأثناء وهي تنتظر عودته يمر بها رجل يعرض عليها المساعدة في إصلاح سيارتها المعطلة جراء الحادثة وبالفعل تذهب لبيته حيث زوجته التى تستقبلها بود وترحاب لنكتشف بعد ذلك أن الشاب القتيل هو الابن الوحيد لهذين الأبوين. ونظرا لذكاء الأب والام يربطان بين اختفاء أبنهما وبين تلك السيدة المريبة التى زارتهم في تلك الليلة.  وبهذا يكون الأب هو من قتل لورا وورط ادريان فى مقتلها انتقاماً لابنه، بعد أن عجز عن إقناع السلطات بوقوف ادريان ولورا وراء اختفاء ابنه.

هذه هي الحبكة المنطقية التى يحاول السيناريو التأسيس لها فى عقلية المشاهد لكننا نجدنا أمام سيناريوهات أخرى فرعيه لنفس الأحداث لكن تتبدل فيها الأدوار فنرى إعادة سرد هذه الوقائع بنفس الأبطال ولكن بمنظور مختلف.

 تكمن عبقرية هذا السيناريو في كونه سيناريو الحبكات لأحداث واحدة فتظل الحقيقة غائبة حتى نهاية الفيلم الذى نكتشف فى آخره المفاجأة بأن ادريان هو القاتل الحقيقى الذى قتل الشاب وأغرقه عمداً فى البحيرة وقتل أيضا عشيقته عندما أرادت الاعتراف بالجريمة لكن ليست هي المفاجاة الأخيرة فى تلك الحبكات الدرامية المتتابعة فالصدمة الأخيرة أن المحامية العجوز التى بدت طوال أحداث الفيلم بشخصيتها القوية وذكائها الحاد ما هي إلا أم الشاب القتيل، فقد خدعت ادريان وانتحلت شخصية المحامية التى أوشكت على التقاعد  لتنتزع الإعتراف منه بقتل ابنها  وتسجل كل كلمة نطق بها.

كان السيناريو هو أكثر ما يلفت النظر لهذا الفيلم إلا أن مخرجه قدم إيقاعا متزنا بين الأحداث والخطوط الزمنية المتنوعة التى تمت فيها، والفيلم يتضمن لغة بصرية مقبولة، وشريط صوت متقن، واستخدام واعِ للقطات القريبة خاصة في المشاهد بين المحامية وادريان.

وكان أداء أنا وجنر ملفت حقا فهى الام المكلومة على ابنها وهي ذاتها المحامية القوية التى تحدت ذكاء المجرم قاتل ابنها وفى نفس الوقت تحاول ان تقنعه بأنها الوحيدة القادرة على إثبات براءته. هذا الفيلم الجميل يحمل دعوة جديدة لمشاهدة السينما الإسبانية التي أعتقد أنها ستقدم المزيد من الأعمال التي تحترم عقلية المشاهد المتذوق والعاشق للفن السابع. 

Visited 181 times, 1 visit(s) today