صفيح أورسون ويلز الساخن!

Print Friendly, PDF & Email

الفنان الجريء يتصرف أولا ويفكر لاحقاً. في حالة المخرج الأمريكي المرموق، أورسون ويلز، الذي يعد أحد أكثر الفنانين جرأة في امريكا القرن العشرين، وجدت هذه العادة طريقها الى طبيعة خطاباته.

وقد ظهر الأمر بشكل جلي في المقابلات الصحفية أو الحوارات الخاصة التي كان يجريها، حيث طرح آراءه، سواء طُلبت منه أو تطوع بالتعبير عنها، بأقصى طاقة حرية تعبير يمتلكها، صادحًا بانطباعاته عن أسماء معروفة في مجال العمل السينمائي.

الرجل الذي قدم الفيلم الكلاسيكي الشهير “المواطن كين”، لم يتردد في توجيه النقد القاسي والسخرية أحيانا. لذا بقيت كلماته تجدد صداها دون أن يضعف ما نتج عنها من إثارة، بسبب جرأتها المنفلتة من أي اعتبارات سوى ما تستشعره  ذاته وحس الذائقة لديه رغم مضي قرابة أربعة عقود على رحيله.

وإذا كانت الصورة الفوتوغرافية تُظهر لنا جسده الضخم ولحيته الكثة وعينين تلمع فيهما شيء من حدة تعكس شراسة مزاجه المتقلب، فإن كلماته ترسم “صورة” لجوهر الشخصية التي لا تفتأ تُثير جدلاً كلما انسابت قريحته.

يرى ويلز أن “السينما ليست شكلا تكونت فيه أفكار خصبة للغاية، بل شكل فني قد يُسيطر عليك، أو ينقلك إلى عالم آخر، أو أنها تُشركك معها عاطفياً، أما الافكار فليست موضوعاً للافلام”. لذلك كان ويلز يعتقد أن أفلامه ذات طابع مسرحي ولها وضوح درامي قوي، ما يُشير الى أي مدى طبعت كتابات شكسبير ومسرحياته البناء الفكري وطبيعة النظرة التعبيرية لرؤيته السينمائية. ويؤكد هو ذلك بالقول: “أعلم ان هناك مخرجين لديهم جمهور جاد وحساس لأفلام تُروي عن أُناس يجلسون حول طاولة لتقشير البطاطا في منازل الفلاحين. لا يمكنني حتى قراءة روايات من هذا النوع. يجب على شخص ما طرق الباب. أعتقد أن هذه هي الطريقة التي فكر بها شكسبير. لذا لا أستطيع القبول بصحبة سيئة”.

لم يقتصر موقفه المتزمت هذا على نمط السينما التي قدمها بل اتخذه سياقًا عامًا ومقياسا يبني عليه آراءه البعيدة عن أي مجاملة، والصريحة بلا مواربة تجاه أعمال وأساليب التناول الفني لأفلام ورؤية غيره من المخرجين، وهو ما ولَّد مجموعة من الآراء، بعضها سلبي وهجومي شخصي طرحها من دون أي اعتبار تجاه اسماء لها مُنجزها السينمائي المميز وفيما يلي بعض النماذج:

“هناك عدد هائل من أمثال برجمان وأنطونيوني أفضل الموت على الجلوس ومشاهدة افلامهم. بالنسبة لي ما لم يكن الفيلم هلوسة خيالية (فانتازيا)، ما لم يكن ضمن سياق هذا النوع من التجربة، فإن الفيلم يصبح غير قابل للحياة. أنا لا احكم على ذلك العالم الشمالي القصي البروتستانتي جدا من خلال مبدعين مثل برجمان. اإه فقط ليس المكان الذي أعيش فيه. السويد التي اُحب زيارتها فيها الكثير من المرح، غير أن سويد برجمان دائما ما تُذكرني بشيء قاله هنري جيمس عن نرويج إبسن: انه كان مليئاً برائحة البارافين الروحي!!- كيف لي التعاطف مع ذلك! انا لا أتشارك مع برجمان اهتماماته وهواجسه. هو غريب بالنسبة لي أكثر من اليابانيين”.  

يرى ويلز أن شارلي شابلن عبقري بكل تأكيد، وأن اضواء المدينة تحفة. في المقابل فإن فيلم “الأزمنة الحديثة” لشابلن هو أسوأ أعماله. بالنسبة لأورسون لا فرق في المستوى بين باستر كيتون وشابلن، بل إن كيتون يتفوق عليه بالعبقرية. فلا شيء صنعه شابلن يقارن بمثل جودة فيلم “الجنرال” لكيتون، وفي رأيه أنه واحد من أعظم الأفلام في تاريخ السينما. ثم يروي كيف عرض له شابلن ذات مرة النسخة الأولية لفيلم “أضواء المسرح” قبل أن يتم حذف العديد من مشاهد كيتون مع تشابلن: “لقد وضعه كيتون في الحمام وغسله على الشاشة. سترى من هو الافضل بلا جدال. حقا لا أستطيع لومه على ذلك لأن الأمر كان محرجاً جداً.”

ويرى ويلز أن شابلن لم يكن يرتجل كثيراً، كما أنه لم يكن الشخص الذي يكتب موضوعات أفلامه، ويُصر على انه كان لديه ستة اشخاص يؤلفون له الفقرات الفكاهية. “الوحيد الذي كان يكتب نصوصه هو هارولد لويد. إنه الأعظم في تاريخ السينما في هذا المجال. لو نظرت إلى افلامه، وإلى المواقف الهزلية التي يصنعها سترى كم كانت مبتكرة وأصيلة الابداع، ومُعبرة بصريًا أكثر من أي فيلم كوميدي صامت آخر”.

“كل الانظمة الديكتاتورية دائما ما تستوحي شعاراتها واشاراتها الرمزية وأزياءها من الحضارات القديمة. هذا النوع من الأشياء يعجبك أن تضعه على الشاشة لتجذب الناس الى كل تلك الأنواع من وسائل التواصل. وعندما تنظر إلى القيصرية الاستبدادية لموسوليني ستجد التحية الفاشية والتي اخترعها سيسيل دي ميل في أفلامه الملحمية والتاريخية عن روما القديمة. وستجد الكثير من التفاصيل التي تُعبر عن الحقبة وسلوكياتها وضعها دي ميل ليخلق أجواء جاذبة للجمهور يتواصل من خلالها مع الفيلم. ومن هنا التقطها موسوليني، ثم بعد ذلك وصلت لهتلر. لو سألت المؤرخين سيصرخون بأن ذلك ليس حقيقة موثقة. ولكني بالمقابل لم أجد أحداً استطاع إثبات ما يخالفها”.

“شاهدت ما قيل لي دائما إنه أعظم أفلام جون فورد (الباحثون). إنه مريع. لقد صنع العديد من الافلام السيئة. في إحدى الليالي كنت في منزل بيتر بوغدانوفيتش وقام بعرض أحد افلام فورد. بعد بداية الفيلم بقليل قلت (أليست مفارقة عدم مقدرة حتى فورد– وكل المخرجين الامريكيين- على جعل النساء يظهرن بما توحيه الحقبة الزمنية؟ انظر لهاتين الفتاتين في العربة.. إن تسريحة شعرهما وأزيائهما عليها لمسة مما تعتقده الممثلات في الخمسينات الشيء المناسب. لو أخبرتها بخلاف ذلك ستقول لك إنها لن تُمثل المشهد). امتلأ بيتر بالغضب وأوقف الفيلم ولم يدعنا نُكمل مشاهدته لأنني لم اُظهر الاحترام الكافي لفورد. ولكنني أعتقد حقاً أن جون فورد قدم بعض الأفلام الرائعة”.

كان لويلز عمود نقدي في صحيفة “نيو يورك بوست”. وذات مرة كتب عن فيلم “ايفان الرهيب” للمخرج سيرجي أيزنشتاين ولم يثني عليه. لم يكن ذلك بالأمر الغريب فهو يرى أن الفيلم الحقيقي يجب أن يروي قصة تٌعطى القيمة للممثلين وأدائهم، على عكس أيزنشتاين الذي يرى أن المونتاج هو جوهر السينما. لذا يعتقد ويلز أن أيزنشتاين المخرج العظيم الذي بولغ كثيرا في تقديره عن غيره”.

“هو موهوب مثل أي صانع أفلام في وقتنا الحالي. محدداته وهي أيضا مصدر سحره، إنه بالأساس قروي جداً. أفلامه عبارة عن صبي قرية يحلم بالمدينة الكبيرة. لكنه يُظهر علامات جلية على كونه فنانا متفوقا بالقليل الذي يرويه”.

“وفقاً لأحد النقاد السينمائيين الامريكيين فإن من أبرز اكتشافات عصرنا هو قيمة الملل كموضوع فني. إذا كان الأمر كذلك فأنطونيوني يستحق أن يُحسب كأب رائد ومؤسس.أافلامه عبارة عن خلفيات مثالية لعارضات أزياء. ربما ليست هناك خلفيات جيدة بما فيه الكفاية في مجلة “فوغ”. يجب عليهم التعاقد مع أنطونيوني ليصممها لهم”!

يُقّدر ويلز مواهب الفرنسي جان لوك جودار الهائلة كمخرج، إلا أنه لا يستطيع أخذه على محمل الجد كمفكر. وهذه نقطة الاختلاف بينهما كما يرى، لأنه يعتقد جدياً بعدم امتلاكه لهذه الصفة.

كان ويلز محيرا ومربكا ومثيرا للجدل باستمرار، وكانت تلك كلها، سر تألقه وحيويته الدائمة حتى وفاته.

Visited 6 times, 1 visit(s) today