سينما دون أسكاريان: رحلة عبر الزمن والهوية في ظل المنفى

أحمد ابراهيم الصافي
تُمثل سينما الأرمني دون أسكاريان جزءًا نادرًا وغامضًا من تراث السينما، فهي تفتح لنا عوالم فريدة وغير تقليدية، حيث تندمج الرؤية الفنية بالثقافة والتاريخ. أسكاريان، الذي وُلد في 10 يوليو 1949 في مدينة ستيفانافان، بأرمينيا السوفييتية، نشأ في بيئة مُشبعة بالفن والثقافة الأرمنية التقليدية، وهو ما شكّل هويته الإبداعية لاحقًا.
خلال طفولته التي قضى جزءًا منها بين الجبال والمناظر الطبيعية الساحرة، تأثرت رؤيته الفنية بعناصر الطبيعة والجذور الثقافية التي انعكست بوضوح في أعماله السينمائية.
في عام 1967، درس أسكاريان التاريخ والفن في موسكو، وعمل مساعد مخرج وناقدًا سينمائيًا. وفي عام 1973، تخرج من معهد موسكو التربوي. وفي الفترة من 1975 إلى 1977، تم نفيه إلى سيبيريا لرفضه الخدمة في الجيش السوفييتي. وفي عام 1978، تم ترحيله من الاتحاد السوفييتي إلى ألمانيا الغربية، حيث أسس هو وزوجته مارغريت شركة “مارغريت فوسكانيان” للأفلام.
كانت ولادته في فترة ما بعد الإبادة الأرمنية، التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى (1915-1917)، وتعد بلا شك من أفظع الجرائم الإنسانية في التاريخ الحديث، حيث قامت الإمبراطورية العثمانية بتنفيذ عمليات قتل وتهجير جماعي راح ضحيتها ما يُقارب 1.5 مليون أرمني.
استهدفت هذه الإبادة- ليس فقط الأرواح، بل أيضًا الثقافة الأرمنية، فقد دُمرت المجتمعات وكذلك المعالم التاريخية والدينية، بهدف محو الهوية الأرمنية من الوجود. وكان لهذه الإبادة تأثير عميق ومستمر على الأجيال الأرمنية اللاحقة، بما في ذلك المخرج دون أسكاريان، الذي ورث جُرح الإبادة كجزء من هويته الثقافية والشخصية. وعلى الرغم من أنه وُلد بعد عقود من وقوع الكارثة، إلا أن ذكريات الإبادة وتأثيرها على الشعب الأرمني ظلت حاضرة في حياته وأعماله.
كانت مسيرة دون أسكاريان السينمائية قصيرة نسبيًا، فقد أخرج تسعة أفلام فقط. من بينها، فيلم قصير لا يتجاوز الدقيقتين بعنوان “الأب” (Father) عام 2008، يصور لحظات الاحتضار الأخيرة لوالده وهو على فراش الموت. أما بالنسبة لأول فيلم أخرجه فهو “الدب” (The Bear) عام 1978، وهو فيلم مقتبس عن مسرحية “الدب” الشهيرة للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، إلا أن هذه النسخة لم تُحفظ في الأرشيفات السينمائية، مما يجعل من الصعب دراسة العمل أو استكشافه بشكل عميق.
في هذا المقال، سأستعرض أبرز أفلامه، تلك التي شكّلت جوهر تجربته السينمائية وعكست رؤيته الفنية المتفرّدة، متناولًا أسلوبه البصري وموضوعاته الأساسية دون الخوض في أعماله الجانبية.
بدأت ملامح الأسلوب السينمائي الخاص لدون أسكاريان في التبلور مع فيلمه Komitas “كوميتاس” (1988)وفيه يتجاوز أسكاريان السرد التقليدي ليقدم رؤية شعرية تعتمد على الصور والأصوات كوسيلة للتعبير عن أفكار معقدة ومشاعر عميقة. يعتمد دون أسكاريان على السرد غير الخطي كوسيلة لتفكيك الزمن وإعادة بنائه وفقًا لمنطق الذاكرة والصدمة. وعلى غرار تاركوفيسكي، لا يقتحم أسكاريان الفكرة من بابها الأمامي، بل يلتف حولها، متغلغلًا في طبقاتها الخفية.
يقوم أسلوبه السينمائي على توجيه الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة والرمزية العميقة، ويترك للأحاسيس والمشاعر أن تروي القصة بدلاً من الحوار المباشر. فهو لا يروي الحكاية كما اعتاد الجمهور، بل يتركها تتشكل تدريجيًا عبر الإيحاءات والانطباعات.
من خلال هذا النهج، يتنقل الفيلم بحرية بين مراحل مختلفة من حياة الملحن الأرمني كوميتاس، فلا يقدم سيرته وفق تسلسل كرونولوجي، بل يحاكي التدفق غير المنظم للذكريات.
والفيلم يمزج بين السيرة الذاتية لكوميتاس، الموسيقي والكاهن الأرمني، وبين التأملات التاريخية والفلسفية في الهوية والذاكرة الجماعية، وتدور قصة الفيلم حول شخصية كوميتاس، الذي يُعتبر رمزًا ثقافيًا وروحيًا للأرمن، حيث يُظهر الفيلم حياته كمنفى مزدوج: منفي خارج وطنه بفعل الإبادة الجماعية الأرمنية، ومنفي داخل ذاته ومنعزل عن البشر بفعل الصدمة النفسية التي تركتها تلك التجربة. إلى ان ساءت حالته وعانى من اضطرابات نفسية حادة داخل مستشفى للأمراض النفسية حيث بقى هناك حتى مماته.
يُخيَّل لمن يشاهد أفلام أسكاريان أنه يسير في عالم بصري متقن التكوين، حيث يتجلى تأثير سيرجي باراجانوف بوضوح. من خلال كادرات مُحكمة تبدو كلوحات أيقونية، وصور طقسية مشبعة بالرموز. وكما هو الحال عند باراجانوف، لا تقتصر العناصر الثقافية الأرمينية في أفلامه على الزخرفة البصرية، بل تتحول إلى نسيج عضوي يروي حكايات التاريخ والهوية عبر الأزياء التقليدية، والمنحوتات، والموسيقى التي تنبض بروح الماضي.
لكن رغم هذا التشابه، يسير أسكاريان في اتجاه مختلف من حيث البناء السردي، إذ يعتمد على تفكيك الزمن وتشظيه، بينما كان باراجانوف أكثر ميلاً إلى بناء لوحات شعرية ثابتة أشبه بالحكايات الأسطورية المجمدة في الزمن. كما أن نبرة أسكاريان أكثر سوداوية وتأملاً في المنفى والاغتراب الذاتي.

في “كوميتاس”، يمكن أن نرى استلهامًا واضحًا من “لون الرمان” (1967)، إذ يعتمد أسكاريان على لغة سينمائية لا تقوم على الحبكة التقليدية، بل على سلسلة من المشاهد الرمزية التي تجسد الروح الداخلية للشخصية بدلًا من تقديم سرد خطي. أسكاريان، مثل باراجانوف، يتجنب التفسير المباشر للأحداث ويفضل نقلها عبر تراكيب بصرية غنية، حيث تبدو كل لقطة كأنها لوحة تشكيلية مشبعة بالمعاني.
في عام 1998، كرس دون أسكاريان فيلمًا لتكريم المخرج الأرمني الكبير سيرجي باراجانوف بعنوان Paradjanov يُعد هذا الفيلم بمثابة تحية سينمائية لباراجانوف، حيث يستعرض أسكاريان رؤية معلمه الفنية من خلال مقابلات وأرشيف بصري يعكس جوهر إبداعه.
في حديثه، يعكس باراجانوف رؤيته العميقة للفن، منتقدًا أولئك الذين يدّعون فهم الجمال بينما ينسخون أفكارًا دون إدراك جوهرها الحقيقي. يرى أن الإبداع السينمائي لا ينبع من الدراسة الأكاديمية أو الأدب، بل من الملاحظة الدقيقة للحياة والتفاعل معها بصدق، مؤكدًا أن “ملاحظتك للحياة وتعاطيك معها أكثر أهمية وإفادة من أيّ شيء آخر ستقرأه في الكتب”. بالنسبة له، فإن القدرة على تحويل هذه الملاحظات إلى رؤية فلسفية هي مفتاح الفنان الحقيقي. كما يشدد على أن الثبات في الصورة السينمائية لا يعني الجمود، بل هو عاطفة مكثفة تمنح اللقطة ديناميكية داخلية، مشيرًا إلى أن “عدم الحركة ليس عجزًا، بل إحساس عظيم يضفي طاقة على المشهد“.
في سياق الأعمال السينمائية التي تناول فيها دون أسكاريان القضايا الأرمنية العميقة والمصيرية. يأتي فيلم Avetik الذي أُنتج عام 1992 مُكملًا لفيلم Komitas ليعكس هذا المسار الروحي والإنساني في ظل الإبادة الجماعية. يتتبع الفيلم رحلة أفيتيك، المخرج الأرمني المنفي في برلين، الذي يجد نفسه عالقًا بين ماضي وطنه الذي لا يزال حيًا في ذاكرته، وحاضره في المنفى الذي يغرقه في مشاعر الاغتراب والحنين.
يبدأ الفيلم في فصله الأول باسترجاع صور الطفولة في أرمينيا، حيث تمتزج الذكريات الشخصية بالموروث الثقافي. يظهر أفيتيك كطفل يستكشف العالم حوله، وسط مشاهد لكنائس حجرية قديمة متداعية، تعكس انكسار الزمن وتأثير التاريخ على الهوية الأرمنية.
في هذه المرحلة، تتجلى العناصر الرمزية التي ستظل حاضرة طوال الفيلم، مثل المرأة التي تحمل خروفًا ميتًا وترضعه حتى يعود إلى الحياة، في إشارة واضحة إلى إحياء التراث الأرمني، وإلى العلاقة الجدلية بين الموت والبعث في الذاكرة الجماعية للأرمن.
بينما ينتقل الفيلم إلى حياة أفيتيك في برلين، يُصبح المنفى محور التأمل، حيث تُظهر اللقطات الطويلة والسكون المهيمن على الإيقاع كيف يعيش البطل في عزلة داخل مدينة صاخبة. مشاهد الضباب الكثيف، الطرقات الخالية، واللقطات القريبة لوجه أفيتيك المتأمل، كلها تضع المشاهد داخل حالته النفسية المشوشة. تتكرر رمزية القطار، الذي يظهر كوسيلة عبور بين العوالم المختلفة—بين الماضي والحاضر، بين الوطن والمنفى، وبين الواقع والحلم.
الفيلم ليس مجرد استعراض لحالة الغربة الفردية، بل يتوسع ليشمل تاريخ أرمينيا نفسه. تظهر تلميحات إلى الإبادة الجماعية للأرمن، من خلال صور الأشباح والمقابر الأرمنية المنحوتة (الختشكار) وأصوات صدى بعيدة لصرخات الماضي. كما يتطرق الفيلم إلى كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب أرمينيا عام 1988، حيث تظهر المنازل المنهارة والوجوه الحزينة كشهادات صامتة على مآسي التاريخ. في مشاهد أخرى، يُدخل أسكاريان صورًا مستوحاة من الشعر الإيروتيكي في العصور الوسطى، حيث تتجسد الرغبة والحب والذاكرة في مشاهد شاعرية تجريدية، تُصور الجسد كمساحة للنقش والكتابة، وكأنه امتداد آخر للهوية والتاريخ الأرمني.

لا يقدّم الفيلم نهاية محددة، بل يترك المُشاهد في حالة من التأمل، كما لو أن أفيتيك لا يصل أبدًا إلى نقطة الاستقرار. يظل يتنقل بين عالمين، بين صور الماضي التي تلاحقه والواقع الذي لا يستطيع الاندماج فيه، لتبقى تجربته السينمائية مفتوحة على قراءات متعددة، تتجاوز الحكاية الفردية إلى تأمل في الوجود والمنفى والهوية الضائعة.
حظي دون أسكاريان بتقدير عالمي لما قدمه من رؤية سينمائية فريدة، حيث حصد ست ميداليات من مهرجان البندقية السينمائي عن فيلمه كوميتاس. وفي عام 2004، مُنح جائزة الكاميرا الذهبية تكريمًا لمسيرته الاستثنائية في مهرجان ART السينمائي الدولي في سلوفاكيا.
ظل أسكاريان حتى وفاته في 6 أكتوبر 2018 في برلين وفيًا لأسلوبه الفريد، تاركًا وراءه إرثًا بصريًا يفيض بالشاعرية، حيث تتقاطع الذاكرة بالمنفى، والتاريخ بالحلم، في سينما لا تشبه سوى ذاتها.