“نحن من هناك”عزف على وتر التغريبة السورية

Print Friendly, PDF & Email

فاز فيلم “نحن من هناك – We Are from There” للمخرج وسام طانيوس، بجائزة أحسن فيلم غير روائي، في مسابقة آفاق السينما العربية بالدورة الـ 42 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. والفيلم من الإنتاج اللبناني الفرنسي المشترك.

 “نحن من هناك” عمل آخر أو تنويعة سينمائية أخرى على “الحالة السورية”-كما يجب أن نطلق عليها- لكنه عمل مختلف تماما. فهو لا يحفل مثل غيره، بصور الحرب والدمار والمآسي الإنسانية الناتجة عمّا شهدته سوريا خلال السنوات السبع الماضية، لكن مخرجه يختار بوعي وذكاء، أن يصوّر المأساة كما تنعكس على ثنائي سوري بعد أن انتقل للعيش في “الدياسبورا“.

هذا فيلم حميمي يتصل بالوجدان ويناقش الفرد، ولكن ليس على صعيد النقد السياسي. المؤكد أن السياسة تكمن تحت جلد الصورة، لكن الأهم أنه يلمس السياسة من خلال التسلل إلى الإحساس الفردي والشخصي المباشر بالمأساة، بالرغبة في تجاوز المحنة، محنة الفقدان، فقدان الوطن والأسرة والجو العام الذي كان يحتضن الفرد، ورصد ما يعيق تطلعه إلى مواصلة السعي من أجل التحقّق من خلال الإبداع والعمل والعطاء والإحساس بالانتماء للعالم.

بين زمنين

نحن أمام ثنائي: شقيقان هما جميل وميلاد. أما صانع العمل، أي المخرج وسام طانيوس، فهو ابن خالهما الذي أخذ على عاتقه توثيق معاناة الشقيقين في البحث عن مخرج لهما من جحيم الوضع السوري، بعد أن سبقهما في الهجرة، واستقر في أوروبا وأصبح متاحا له الانتقال في أرجاء القارة، لتصوير فيلمه على مدى ما يقرب من خمس سنوات، من 2015 حتى أوائل العام الحالي.

ينتمي الشقيقان جميل وميلاد لأب كان يمتلك ورشة نجارة في سوريا. وقد تركت النشأة تأثيرها الكبير عليهما، وبعد وفاة الأب تكفل بهما الخال الذي ضمهما إلى أسرته مع ابنه وابنته، وكان مولعا بالتصوير بكاميرا صغيرة، وبفضل هذه الكاميرا توفّر أرشيف من المواد المصوّرة التي تتابع الشقيقين في مرحلة الطفولة، في الزمن الجميل، عندما كانا يمرحان ويمزحان، يسبحان حينا، ويلعبان حينا آخر.

والحقيقة أنه من دون هذا الكنز من المواد المصوّرة لم يكن الفيلم ليكتسب كل هذه الحميمية وقوة التأثير. إلاّ أن الفضل يعود إلى براعة المخرج في رسم معالم فيلمه والتعاون مع المونتيرين جينا حشيشو وماتيلد مؤيرد في صياغة فصوله المختلفة التي تعبر فترات زمنية دون أن تفقد الإيقاع والانسيابية والتحكّم الدقيق في المادة وفي الانتقال بين اللقطات الحية في الأماكن المختلفة التي يصوّر فيها، وفي أكثر الظروف تعقيدا (كما وهو يصوّر قارب اللاجئين الذي يقوده رجل هو الذي يقوم  مجموعة من السوريين من بينهم جميل الذي سيتمكن من الدخول بطريقة غير شرعية إلى السويد). كما يجيد توظيف اللقطات الحميمية للماضي في سوريا من خلال اللقطات الباقية ممّا صوّره الخال.

جميل وميلاد يختلفان في اهتماماتهما تماما. ميلاد لم يرث عن والده مثل شقيقه، الاهتمام بأعمال النجارة، لقد تركت حرفة الوالد تأثيرها عليه دون شك، وهو يجيد التعامل مع الأخشاب، لكنه يحترف الموسيقى، فهو عازف ترومبيت وعازف إيقاع. أما جميل فهو يجد نفسه في النجارة التي يعتبرها أيضا فنا من الفنون لا مجرد حرفة، وهو يتعامل مع الخشب بحساسية وفهم ويمكنه التفرقة بين أنواعه ويتحسّس صلابته وخشونته ويعرف مدى ملاءمته للقطع والتشكيل.

سيدفع ميلاد مبلغا كبيرا لمهرب لإخراجه من سوريا إلى أن يصل إلى ألمانيا ويبدأ العمل ويثبت وجوده في مهنته. أما جميل فسوف يذهب أولا إلى بيروت حيث يقوم بتدريس الموسيقى للأطفال، ثم يجد نفسه مدفوعا للخروج إلى العالم الفسيح، إلى السويد.

لا أحد منهما يعرف كيف تسير الأمور. هناك إحساس بالمتاهة والاغتراب والشعور القاسي بالغربة، لكن البديل ليس من الممكن التفكير فيه أصلا. فالبديل بالنسبة لهما أصبح هو الموت أو العدم.

تنتقل كاميرا وسام طانيوس من دمشق إلى بيروت إلى أثينا، إلى برلين إلى ستوكهولم.. مرورا بمحطات أخرى، في مغامرة تلامس المغامرة التي يقوم بها البطلان. وما يميّز الفيلم أنه لا يتعامل مع المناظر المألوفة في سينما الغربة السورية، بل يركّز من خلال المقابلات المصوّرة مع الشقيقين، على فكرة الإصرار على التحقّق في الغربة رغم أنها التجربة الأولى لكلا البطلين في السفر.

استرجاع ذكريات الطفولة

يتميّز أسلوب الإخراج بالذكاء والقدرة على الحفاظ على التلقائية وتحييد الكاميرا بحيث لا يشعر بها من يحاوره المخرج. ولا شك أن الألفة التي تجمع بين ميلاد وجميل من جهة، ومخرج الفيلم من جهة أخرى، تجعل هذه المهمة سهلة.

ويلتقط المخرج من خلال المونتاج الدقيق، أكثر اللحظات تعبيرا عن الشخصية، سواء أثناء العمل أو العزف الموسيقي أو في البحث عن مكان لقضاء الليلة في أثينا، ثم الانتقال إلى ألمانيا أو إلى السويد دون خطة واضحة، وكأننا نشهد مخاضا جديدا من أجل حياة جديدة، مع إدراك أن الأمر لن يكون سهلا وأن الحياة الجديدة في المهجر، تقتضي التفوّق والنجاح وإثبات الوجود في المجتمع الجديد.

هذا عمل رقيق يفيض بالشاعرية والسحر، يعكس المخرج فيه لحظات القلق والترقّب والتشكك والشعور باللاجدوى، الحديث عن الاكتئاب والرغبة في الانتحار التي سيطرت على جميل في خضم شعوره باليأس، ثم التعبير عن الشعور بفقدان الوطن والشعور بالاشتياق إليه لكن من دون مغالاة في الحنين. فهنا يكون الصدق أقوى تأثيرا من الإدعاء. ويصبح البحث عن معنى الوطن، ملبوسا بالخوف من الماضي القريب رغم الحنين الصعب إلى الماضي البعيد.

ومن عوامل تميّز الفيلم أيضا، براعة استخدام المخرج للموسيقى، خاصة أنه يستخدم موسيقى آلة الترومبيت (أو البوق) الحزينة الشجية التي يعزف عليها جميل، مع المزج بين الصوت من خارج الصورة والانتقال بالقطع إلى الصورة أخرى مع استمرار الصوت.

الصورة بشكل عام شديدة الجمال بفضل تصوير وسام طانيوس نفسه ومصوّره فادي السمرا، ولا يفقد الفيلم قط رونقه ونغمته اللونية وتجانس صوره ولقطاته رغم المسافة الزمنية الطويلة التي تفصل بين مناظره المختلفة باختلاف الأماكن والانتقال الدائم إلى الأمام وإلى الخلف، مع إجادة اختيار متى يستخدم المناظر الوثائقية من الأفلام المنزلية القديمة، أو لقطات الطبيعة والبحر لكي يترك للصورة مساحة للتنفس ويترك للمشاهد أيضا مسافة للتأمل. إنه عمل لا يشبه غيره من أفلام المأساة السورية. ويكمن سر تميزه في صدقه وبساطته وذكاء التقاط اللحظات الحميمية الصادقة من بطليْه.

Visited 46 times, 1 visit(s) today