روبيرتو روسيلليني: المخرج الذي قلب المعادلة السينمائية

Print Friendly, PDF & Email


في كثير من الأحوال ، تنتج الأزمات إبداعها المغاير، الذي يضمن محتواه الحلول المثلى للتعبير البليغ عن تلك المرحلة قلبا وقالبا، تاركا أثره موثقا أزمة حدثت في زمن قريب أو بعيد.

أثرت الحرب العالمية الأولى والثانية على صناعة السينما في إيطاليا وكان لها أثر تجلى في المواضيع التي تتناولها الأفلام إبان تلك الحقبة سواء في مقتبل عمر السينما في إيطاليا أو بعد الحرب العالمية الأولى حيث كانت تسيطر سينما الكوميديا والمواضيع العاطفية وسميت تلك المرحلة التي كانت تنتصف الثلاثينات بسينما “التليفونات البيضاء” التي كان من روادها المخرج ماريو كاميريني.

كان روبيرتو روسيلليني وزملاؤه المخرجين في إيطاليا يعانون بشكل خاص من عدم توافر الإمكانيات للنهوض بالصناعة السينمائية هناك بعد الركود الحاصل إبان تلك الفترة، الأمر الذي إستوجب منهم بعض الإجراءات والأفكار الثورية للخروج من ذلك المأزق، وذلك ما إستدعى روسيلليني للمضي قدما في مشروعه السينمائي “روما .. مدينة مفتوحة”.

بدأ روسيلليني في العمل على مشروع فيلمه الجديد “روما.. مدينة مفتوحة” ومعه بعض من كتاب السيناريو المتمييزين أمثال فيلليني وسيرجيو آمادي وروسيلليني نفسه وانتهى روسيلليني من إخراج الفيلم عام 1945.. ذلك الفيلم الذي كان اللبنة الأولى فيما عرف بالموجة الواقعية الجديدة، حيث كانت حلولها الثورية غير مسبوقة على صناعة الأفلام في إيطاليا والعالم أجمع، لما تميزت به من عدم إختيار ممثلين محترفين والتصوير في المواقع الحقيقية بديلا عن الاستوديوهات والاستعانة باللقطات التسجيلية وإدغامها في سياق الفيلم وإنخفاض التكلفة الإنتاجية للفيلم والإستعانة بالإضاءة الطبيعية وأصوات الأماكن قدر الإمكان، حيث ينتقد روسيلليني في فيلمه “روما .. مدينة مفتوحة” الحقبة الفاشية التي أودت بالبلاد إلى التهلكة ويقدم بعض النماذج الرافضة لتلك السياسة الفاشية مثل الراهب الرافض المقاوم الذي يساعد شباب المدينة في تصديهم لظلم الحزب الحاكم ويخبر العالم بأن الدين والإنسانية والمواطنين لا يقبلون ذلك الظلم.

النشأة والبدايات

ولد روبيرتو روسيلليني عام 1906 لأب يعد من أوائل صناع السينما في إيطاليا حيث كان صاحب أول دار لعرض الأفلام في روما وأيضا ستوديو سينمائي، وعرف روسيلليني السينما منذ نعومة أظافره حيث كان يذهب بإنتظام لمشاهدة الأفلام المعروضة في السينما التي أسسها والده وكان يحضر تصوير الأفلام المنتجة في إيطاليا في الأستوديو والشركة التي أنشأها أخوه رجل الأعمال رينزو روسيلليني.

 أثرت تلك النشأة في ميوله السينمائية فيما بعد حيث بدأ حياته العملية كمخرج للأفلام الوثائقية المناهضة للحكم الفاشي ثم إنتقل للأفلام الروائية الطويلة في محاولته الأولى بفيلم “عودة الطيار” وكان فيلما حربيا يحكي قصة طيار إيطالي أسقطت طائرته قذائف بريطانية ثم وضع في السجن حيث تعرف على إبنة الطبيب المعالج وإتفق معها على تنفيذ خطة للهروب، ولم تكن بعد ملامح الواقعية الجديدة قد تجلت في تلك المحاولة.

في أحد المقابلات المتلفزة تحدثت زوجة روسيلليني السابقة إنجريد بيرجمان قائلة ” شاهدت ذات مرة فيلم روسيلليني “روما .. مدينة مفتوحة” في نيويورك وكان فيلما خلابا، لم أشاهد مثله في هوليوود من قبل، إنه ينقل الحقيقة بشكلها الأولي غير المزيف، وحاولت حينها مراسلة روسيلليني كي أشاهد باقي أفلامه ولكني ترددت في المرة الأولى حيث أن بعض المخرجين يقومون بصنع فيلم واحد جميل ومن ثم يختفون من الساحة.. ثم بعد ذلك بحثت عنه وشاهدت فيلما آخر بعنوان “بيزا” وقد أسرني أسلوبه في الإخراج وتوصلت لعنوانه وراسلته طالبة منه العمل في أحد أفلامه القادمة”.

ثلاثية الحرب التي نفذها روسيلليني يعتبرها النقاد حجر الأساس والنموذج المثالي للواقعية الجديدة لما يتميز به أسلوب روسيلليني الخلاب من نقل الحقائق كما هي ولكن في سياق سينمائي، تلك الموجة التي أثرت في سينما العالم أجمع وأخرجت من سياقها مخرجين غزو العالم بأعمالهم الإبداعية مثل فيديريكو فيلليني الذي عمل مع روسيلليني مرتين وأيضا لوتشينو فيسكونتي الذي ساهم في تلك الموجة بأفلامه “حدث” “روكو وأخوته” وأيضا فيتوريو دي سيكا الذي نال فيلمه “سارق الدراجة” جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي عام 48 وذاعت شهرته وعرض في سينمات العالم في الشرق والغرب، وما يحسب لتلك الموجة هو أنها استعادت المجد للسينما الإيطالية ووضعتها في موقع ريادة بفضل رائدها ومؤسسها روبيرتو روسيلليني.

بعد إنتهاء الموجة الواقعية الجديدة في إيطاليا في مطلع الخمسينيات، عمل روسيلليني مع إنجريد بيرجمان وأخرج لها ثلاثة أفلام من بطولتها وهي سترومبولي، أوروبا 51، ورحلة إلى إيطاليا.

وكان الفيلم الأول يناقش تبعات الحرب على الأسر المهاجرة والأزمات التي مرت بها العائلات الثرية في شمال أوروبا وقصة الحب التي مرت بها “كارين” إنجريد بيرجمان والشاب “أنطونيو” ماريو فيتالي و التعالي الذي تعامل به البطلة البطل لأنه من عائلة فقيرة ولا يسعه تلبية مطالبها من عيش رغيد ومنزل رحب يسع مواساتها تجاه ألأزمة التي مرت بها ولكن عند تقبلها للأمر الواقع تحاول جاهدة التوافق مع ظروف معيشتها وتجميلها برسم الورود على حوائط المنزل وعمل أحواض للزهور بداخله ولكن “أنطونيو” لا يعجبه ذوقها وتحدث بعض المشادات فيما بينهما فتؤثر “كارين” الهرب بمساعدة أحد الصيادين. ولكن ينتهي الفيلم تاركا نهايته مفتوحة أمام المشاهدين لتقرير مصير “كارين” .

لقطة من فيلم “روما مدينة مفتوحة”

ومن الملاحظ أيضا في ذلك الفيلم التركيز على الدور المعتدل للكنيسة، ولعلنا نتذكر أيضا دون بيترو رجل الكنيسة في فيلم “روما .. مدينة مفتوحة” والدور البطولي في دعم المناهضين للحكم الفاشيستي بالرغم من علمه النهاية المأساوية التي ستلحق به، وتلك الملاحظات تثير في ذهننا الحب والإيمان القابع في مشاعر روسيلليني تجاه الكنيسة، ونلاحظ أيضا اهتمام روسيلليني بعدم تقديم النهايات السعيدة سوى في سياق الفيلم أو لخدمة الدراما الحادثة كما حدث في فيلمه “رحلة إلى إيطاليا” بعد الجفاء الذي كان بين الزوجين “كاثرين” إنجريد بيرجمان” و الزوج “ألكساندر” جورج ساندرز ثم اشتعال الحب مرة أخرى بعد ظن كل منهما فقدان الآخر للأبد.

العودة  إلى الوثائقي

 بعدما قدم الكثير للسينما من مواضيع جديدة وحلول إبداعية يستمر أثرها حتى الآن، آثر روسيلليني عمل الأفلام الوثائقية مرة أخرى وإخراج الأفلام التي تتناول شخصيات تاريخية مثل سقراط وعودة لويس. وفيلمه المسيح على تكرار مواضيعه السابقة لما يؤمن به من ضخ الدماء الطازجة في مواضيعه السينمائية بالرغم من عودته مرة أخرى للواقعية الجديدة عام 59 بفيلمه “الجنرال ديلا روفيري” ليهجرها للأبد.

تميز أسلوب روسيلليني في الإخراج بتغلّب الحس الفني وتكوينات الصورة على باقي العناصر من إضاءة أو موسيقى بالرغم من إهتمامه بهم أيضا والإعتماد على العناصر التي تجعل الصورة مستقلة ومشبّعة بالعناصر التي تملأ الكادر بالجمال البصري والأداء الطبيعي للممثلين بدون أية إفتعال منهم والذي أثر به على كثيرين من المخرجين من بعده على مدار تاريخ السينما ولعل كلام سكورسيزي المخرج الأمريكي عنه خير دليل، حينما قال في معرض كلامه عنه في أحد البرامج “حينما تنضب الحكايات ويجف الإبداع لدي، أبحر في أفلام روسيلليني التي كثيرا ما ألهمتني لصناعة الأفلام بل ألهمتني في الحياة عموما، لما تحمله تلك الأعمال من عواطف جياشة ومواقف تظهر معادن الناس الحقيقية الغير مأفلمة والحقيقة الإنسانية كـكل ، حيث أنها أفلام لا يصيبها القدم و كأنما روسيلليني سافر عبر الأزمان وصنع أفلاما لكل الحقب الزمنية”.

كانت الحياة الشخصية لروسيلليني مليئة بالمغامرات فقد تزوج أربع مرات إحداها من الممثلة إنجريد بيرجمان بعدما تعرف عليها في أحداث فيلم سترومبولي بعدما طلق زوجته الأولى عام 1950 الذي كان له منها طفلان وله من إنجريد ثلاثة أطفال ثم طلق إنجريد وتزوج مرة أخرى من كاتبة سيناريو هندية كانت قد شاركته كتابة الفيلم الوثائقي الذي أخرجه عن الهند وإستمر زواجهم عشرين عاما ورزقا بطفل وحيد يعمل الآن مخرجا للأفلام في وطن والدته الهند.

كانت السينما لـروسيلليني قلعته الآمنة يقذف منها الإبداع المدوي وينهمك في صناعة إبداع مغاير آخر لكي تستمر مسيرته عبر الأزمان ولكي ترى الأجيال القادمة تلك القلعة الشامخة ويسبحوا بالجمال والحب أمامها.

يقول روسيلليني: “إن السينما لابد لها من أن تكون الهم الشاغل للمواطن العادي ، فإن كان يملك أية موهبة، عليه فورا بأن يستغلها كي يعبر عن نفسه ولكي يفيد المجتمع من خلالها”.

Visited 67 times, 1 visit(s) today