فيلم “جوكر”.. ومضة قلب رجل تالف

Print Friendly, PDF & Email

تعتبر شخصية الجوكر واحدة من أكثر شخصيات الكوميكس شعبية، هذه الجملة قد تبدو عادية في البداية، كل شخصيات الكوميكس لديهم شعبية جارفة، ما الغريب إذن؟ يمكن اعتبار عالم الكوميكس بأكمله سردية لانتصار الخير ممثلا في الأبطال الخارقين على قوى الشر، تكمن الغرابة هذه المرة في كون الجوكر أحد شخصيات الكوميكس الأكثر شرا وعنفا، هذه الغرابة تطرح سؤالا هامًا عن جدوى عالم الكوميكس بالأساس، حين تصير شخصية الشرير إحدى أكثر شخصياته شعبية، أليس ذلك يعني عبثية الأمر برمته؟ لا سيما أن العبث هو أحد المكونات الجوهرية لشخصية الجوكر.

ربما أكثر تمثلات هزيمة عوالم الأبطال الخارقين على يد الجوكر هي في كونه بشريًا خالصًا، لم يأت من كوكب آخر حاملا جينات البطولة والقوى الخارقة كسوبر مان، ولم يولد لأسرة ثرية ليتمتع برغد العيش وتتوفر له تدريبات بدنية وأجهزة تقنية بالغة التعقيد كباتمان، ولم يمنحه والده مطرقة ذات قوة خارقة كثور، إنه ابن الطبيعة البشرية، غير أنه ليس ابنًا بارًا. 

تكمن فرادة شخصية الجوكر إذن في كونه أكثر الشخصيات اعتيادية في عالم غرائبي مشبع حتى الثمالة بالقوى الخارقة للطبيعة، يمكن لأي من محبي عالم الكوميكس أن “يحلم” بأن يكون إحدى شخصياته، لكن ستبقى فجوة ما على الدوام بين الحلم والواقع، بينما لكي تكون الجوكر ليس سوى أن تريد.

هذا ما يدركه تود فيليبس مخرج ومؤلف فيلم “جوكر”، لاحظ أن عنوان الفيلم جاء دون “ال” التعريف، لأنه يعلن منذ البداية أنه ينفصل عن شخصية “الجوكر” المُعَرّفة التي نحفظ تفاصيلها، ويؤسس لأخرى تختلف بشكل كبير، ولأنه ليس ثمة “الجوكر” في الحقيقة، “جوكر” هو إمكان بشري يمكن أن يكونه أي شخص يتعرض لمتوالية من الظروف الضاغطة في مجتمع قاس لا يأبه به، “الجنون يحتاج دفعة واحدة”، كما يقول جوكر- في فيلم المخرج كريستوفر نولان.

أن تكون مهرجًا، أن لا تضحك إلا لتفادي البكاء

يعمل آرثر فليك مهرجًا ويسعى لأن يكون “ستانداب كوميدي”، على خشبة المسرح يردد كلام والدته أثناء طفولته، “أنت خلقت لجلب السعادة لهذا العالم البائس”، لذا هي تناديه “هابي” على الدوام.

آرثر مصاب بداء الضحك، هو يضحك بشكل لا إرادي وعلى الدوام، مثله الأعلى في الحياة هو مقدم برامج كوميدية يدعى موراي فرانكلين، تراود آرثر أحلام يقظة حول حضوره أحد عروض ذلك البرنامج. هذه مقدمات تقودنا لاستنتاج شخصية مرحة خفيفة الظل وقادرة على إلقاء الدعابات، واكتساب محبة الجميع، لكن هذه المقدمات يمكن اعتبارها قناع المهرج الذي يرتديه آرثر، بينما شخصية آرثر نفسها على النقيض.

يقدم لنا المشهد الافتتاحي آرثر فليك وهو يقوم بالترويج لإحدى العلامات التجارية، فيتحرش به مجموعة مراهقين ويسرقون اللافتة التي يحملها، أثناء مطاردته لهم في الشارع يصرخ في المارة ويستجدي مساعدتهم للإمساك بهؤلاء المراهقين، لكن صرخاته تذهب سدى؛ لا يلتفت له أحد، لأن لا احد يراه من الأصل.

تنهش الوحدة وجود آرثر، إنه يعجز عن فهم المجتمع المحيط به والانسجام معه، يسأل موظفة الخدمة الاجتماعية التي يزورها بشكل دوري “هل العالم كله هكذا، أم أنا وحدي”، ثم يستدرك “لم أعد أريد الشعور بهذا الألم بعد الآن”، لكن هذا الألم يستمر بشكل سيزيفي، يوبخه رئيسه في العمل باستمرار، وينعته زملاؤه بغريب الأطوار ويرفضون العمل معه، يقبع آرثر في عزلة قسرية، لا يقطعها إلا الرفض والإهانات المتتالية.

في المشهد التالي يحاول آرثر مداعبة أحد الأطفال في الحافلة التي يستقلها للمنزل، لكن والدة الطفل ترتاب في آرثر وتنهره لمجرد أنه يبدو مختلفا، يشعر آرثر في هذه اللحظة أن هويته عبء على وجوده، وأن مأساته في ذاته، ليس ثمّة ما هو أقسى من إدراك امرء أن حياته كرب أبديّ بلا أمل، كيف يقمع إنسان الوحش بداخله إذا خسر الأمل؟

يصنع آرثر بطاقة تعريفية يقدمها للغرباء، “أنا مصاب بداء الضحك، وهو أمر لا إراديّ.. ولا يعبر بالضرورة عن حقيقة شعوري”، هذه البطاقة كانت أحد أكثر التعبيرات قسوة عن حالة آرثر، الرجل الذي يضحك رغمًا عنه، في المواقف التي يجب أن يفعل العكس تمامًا، كلما تعرض لموقف محرج، أو وجهت إليه إهانة يضحك بشكل هيستيري، وكأن الضحك هنا حيلة نفسية لمقاومة البكاء.

يحاول آرثر أن يقدم لنفسه المواساة التي يفتقدها في عالم كهذا، فيحاول أكثر من مرة أن يحتضن نفسه لكنه يفشل؛ “أرجو أن يكون موتي أكثر منطقية من حياتي”، يدوّن آرثر في يومياته؛ رجل تعبث به حياته حتى يرى في الموت احتمالًا للمنطق، يمكن بسهولة أن نتخيله قنبلة موقوتة. 

أن تكون مهرجًا، أن تُهمّش حتى على المسرح

يرتدي المهرجون أقنعه لأن وظيفتهم أن يجعلوا الآخرين سعداء، كبداية يجب أن يكونوا هم أنفسهم سعداء على الدوام، وهو أمر صعب التحقق، لذا يحقق القناع تلك المهمة، فهو يعطيك انطباعًا بأن الشخص الذي يرتديه مبتسم حتى في أحلك أوقاته، هذا التناقض بين ابتسامة القناع وحقيقة الحالة الشعورية لمرتديه، جزء أصيل من تكوين شخصية الجوكر.

خلف القناع الباسم تُنفى مشاعر آرثر، ويُهمش أيضًا وجوده ويُنسى، إنّه مُهمّش حتى على المسرح، آرثر ليس سوى عدد الضحكات التي ينتزعها من جمهوره، أما خارج المسرح فوجوده كله مستباح كمادة للسخرية والضحك. 

جميع العاملين مع آرثر مهمشون رغمًا عنهم، شخص بدين وآخر أسمر البشرة، وقزم، وآرثر نفسه الذي يعاني مرضًا نفسيًا، هذه التوليفة للمهمشين أمر منطقي في هذه المهنة، إنهم يقفون منذ ولدوا على مسرح حياتهم وهوياتهم ليضحك منها الناس. 

بالإضافة لزملاء العمل، صوفي جارة أرثر في البناية التي يسكن بها، وموظفة الخدمة الاجتماعية، والسيدة التي يداعب ابنها في الحافلة، والمرأة التي تقود التحقيق معه في المشهد الأخير، مهمّشات أيضًا، جميعهن نساء، وجميعهن ذوات بشرة سوداء، هؤلاء جميعًا مهمشون يتفاعلون سويًا، لا يجب أن يرتقي المهمشون أكثر من ذلك. 

أن تكون مهرجًا، أن تملك روايتين على الأقل لكل حقيقة

تظهر علاقتان إنسانيتان تنقذان آرثر من الوحدة المفروضة عليه قسرًا، إحداهما بموراي مقدم البرامج وبطل آرثر الشخصي؛ يمنحه موراي فرصة مشاركته المسرح ومواجهة الجمهور. العلاقة الأخرى كانت مع جارته صوفي، يقع في حبها وتبادله الشعور نفسه، تؤمن به وتسانده في كل ما يفعل.

وجود صوفي وموراي هو ما يفصل بين آرثر وبين الانهيار التام والاستسلام للجنون، لكننا نكتشف أن العلاقتين ليستا أكثر من خيال في عقل آرثر، يبدو أن الخيال كان سلاحه في وجه الجنون، وملجأه للشعور بالأمان ولو لحظات قليلة في هذا العالم. 

هذه لم تكن المرة الوحيدة التي يتلاعب فيها تود فيليبس بالسرد، بل يعتمد عليها مرة أخرى ليشوش ما نعرفه عن نسب آرثر، هل هو الملياردير المرشح لمنصب العمدة توماس واين كما تدعي والدته؟ أم هو طفل متبنى كما يدعي توماس؟ يوظف تود هذا التلاعب ليحافظ على جذب انتباه المتلقي لا سيما مع إيقاع الفيلم الذي يغلب عليه البُطء، أمام مشاهد معتاد على إيقاع متسارع في هذه النوعية من الأفلام.

يحاول تود ألا يخون كل توقعات المشاهد من فيلم ينتمي للكوميكس، لكنه يوظف سرده كذلك ليخدم مفهومًا رئيسًا في الفيلم، وهو تشكيك المتلقي في سردية باتمان ممثل العدالة والجوكر ممثل الشر.

جوكر وباتمان وجهان لعملة واحدة

“أنا وأنت متشابهان، نحن نكمل بعضنا بعضًا”، الجوكر مخاطبًا باتمان في فيلم دارك نايت

بعد كل هذا الكم من التلاعب بالسرد هل يمكنك الثقة بإحدى الروايات؟ الأم تُصر أن توماس كان على علاقة بها وأن آرثر ثمرة تلك العلاقة، أما الأوراق الرسمية فتؤكد صدق رواية توماس، لكن كيف نصدق الأوراق في مدينة غارقة في الفساد كجوثام؟ مدينة يمكن شراء أي شخص فيها بالمال؟ التلاعب المتكرر والمحكم بالسرد يهدف لتقديم رؤية مغايرة للواقع، وصور عدة للحقيقة نفسها.

بروس واين هو الابن المدلل لرجل الأعمال الثري والمرشح لوظيفة العمدة، أي أنه ابن الدعائم الرئيسية للنظام، رأس المال والسلطة؛ ليس غريبًا إذن أن يدافع باتمان عن نظام منحه كل شيء ممكن منذ نعومة أظافره، باتمان ربما ليس يدافع عن العدالة، بل عن النظام الذي أنتج هذا الخلل الشديد وصنع الفوارق الشاسعة بين الطبقات.

أمّا جوكر فهو الابن الملفوظ من الرجل ذاته، توماس واين، ليس أدل على كون جوكر ضحية مباشرة للنظام من أن والده وهو الرجل الذي يمثل النظام في أوضح صوره، هو من يهجره ويرفض الاعتراف به. ما يطرحه تود فيليبس هنا هو إعادة تقييم سردية باتمان فارس العدالة في ضوء شخصية الجوكر، أي عكس ما كان يحدث عادة.

كيف تحول آرثر من “هابي” إلى “جوكر”

مسيرة الجوكر طوال النصف الأول من الفيلم تشي بانفجار وشيك، يأتي تحول الشخصية بطيئًا ومُتقنًا، يُطرد آرثر من العمل الذي يحبه بسبب وشاية أحد زملائه، يستقل القطار إلى منزله، لكنه يصادف ثلاث شباب يتحرشون بفتاة وحيدة في العربة، تنظر إليه الفتاة بعينين يملأهما الاستجداء.

يعجز الجوكر عن التدخل، ومثل كل لحظاته الكسيرة والعاجزة يبدأ بالضحك بشكل هستيري، يستفز الضحك الشباب فينهالون عليه بالضرب، يعجز آرثر عن إيقاف ضحكاته رغم ألمه؛ لكنه هذه المرة لا يتلقى الضربات في استكانة بل يرد بقسوة ويقتلهم، ما يجعل هذه اللحظة مختلفة عن كل اللحظات السابقة هو أن آرثر يحمل مسدسًا بالصدفة.

لحظة انفجار الجوكر إذن لم تكن لحظة واعية يقرر فيها أخيرا معاقبة المجتمع الذي طالما وضعه بشكل قسري على هامش الحياة، بل كانت نتيجة صدفة عابرة حملت مسدسًا إليه. حتى إضفاء البطولة على فعلته تلك جاء بفعل الصدفة، مدينة جوثام غارقة في الفساد واحتجاجات سكانها على معاناتهم، بالصدفة نكتشف أن القتلى الثلاثة هم رجال أعمال في وول ستريت، فيُحول شعب جوثام الحادثة لعمل بطولي رمزي، انتقام الفقراء من الأثرياء المتعجرفين.

تحول الجوكر إلى رمز لبؤساء جوثام، وتحول انفجاره التلقائيّ الطبيعي لحادثة مسيسة مخطط لها، الانتقام الفرديّ لقى تضامنًا وتبنيًا جماعيًا لأن كل فرد في جوثام لا يختلف عن الجوكر في ظروف النشأة القاسية والأهم في عاديته، حتى بطولة جوكر هنا جاءت مثل ضحكاته، رغمًا عنه تمامًا.

تبدو على آرثر علامات الارتياح لأول مرة طوال أحداث الفيلم بعد حادثة القتل تلك، وكأن فعل القتل غير المخطط له أزاح عن كاهله عبء احتمال تلك القسوة، يبدأ بالرقص في انسجام واضح، وتعمق الموسيقى في الخلفية شعور الشخصية بالارتياح، يتورط المشاهد في الاندماج مع اللحظة الحالمة للشخصية المعذبة، متناسيًا فعل القتل الذي سبقها. 

لكن للمفارقة يستكمل آرثر حياته بشكل طبيعي، وكأن القتل لم يكن تحولًا جذريًا للشخصية وإنما مجرد رد فعل عارض، لم يكن كافيًا ليقرر جوكر بشكلٍ واعٍ أن يستمر في تبني الانتقام المريح، يعود لمنزله لرعاية والدته ويذهب في المساء لتأدية عرضه الكوميدي الأول، لقد ذاق حلاوة الانتقام، لكنّه مازال يحاول استكمال الحياة العادية التي يحياها، ربّما تخرجه ضحكات الجمهور من الهامش دون إخلال بالنظام. 

لكن الحياة مرة أخرى لا تعطيه فرصة استكمالها تحت مظلة العاديّ، يُفاجأ آرثر بعد انتهائه من عرضه الكوميدي أنه أصبح مادة للتندر والسخرية، وللمفارقة في برنامج موراي الذي طالما راودته أحلام اليقظة بالظهور على مسرحه، حتى موراي مثله الأعلى والذي يتخيله آرثر كأب بديل، يُساهم في نفيه إلى الهامش.

“لدينا مقطع مصور هنا من أحد نوادي مدينة جوثام لشخص يظن أنه سيجعل الجمهور يضحك لمجرد انه يستمر في الضحك أمامهم”، يسخر موراي منه أمام جمهوره؛ لم يترك المجتمع أي خيارات أخرى أمام أرثر، لا سبيل للحياة العادية، أنت محط للسخرية والاحتقار على الدوام، أما على الناحية الأخرى جوكر وقناعه أصبحا رمزًا لدى العامة في مدينة جوثام.

هذه المرة يتحول آرثر إلى جوكر، مرة وإلى الأبد، “طوال حياتي أشك في وجودي من الأصل، لكن الآن أنا موجود، وبدأ الناس بملاحظة وجودي”.

الجوكر، أكثر من مجرد كوميكس

يمكن اعتبار جوكر تود فيليبس، أقل أفلام الكوميكس شبهًا بعالم هذه الأفلام، إنه لا يستند على القصة الأصلية سوى في خيط رفيع يربطه بها، عدا ذلك فكل شيء في جوكر مختلف.

يقتبس جوكر الكثير من جماليات الفيلم نوار، التصوير الليلي والإضاءة المعتمة، وزوايا التصوير الضيقة، والإحساس العام بأن الشخصية الرئيسية محاصرة طوال الوقت، فهو يسير في ممرات وأزقة ضيقة، ينزل درجًا باستمرار، وتلتقطه الكاميرا من خلف حواجز كسور المنزل، وكابينة الهاتف، ونوافذ القطار.

نرى أكوام القمامة في كل ركن من المدينة، والأمطار تتساقط في مشاهد كثيرة، إن جوثام هنا أقرب إلى نيويورك في رائعة مارتن سكورسيزي “سائق التاكسي” منها لجوثام كما هي في القصص المصورة.

استعارة جماليات الفيلم نوار كانت ملائمة تمامًا لطبيعة شخصية الجوكر الغارقة في الظلام، وللجرائم التي يلعب فيها البعد النفسي دورًا رئيسيًا، لذا يأتي الشكل المغاير للفيلم مكملا لطبيعة المعالجة غير المعهودة في أفلام الكوميكس.

ينجح تود فيليبس في تقديم بورتريه متفرد لشخصية غريبة لكنها اعتيادية، ويجد خارج الصورة النمطية أرضًا أكثر رحابة وخصوبة من حصرها في نوع الإثارة والأكشن، توجد آفاق أخرى أقل استكشافًا لدراسة الجوانب النفسية لشخصيات وعوالم الكوميكيس، إنها تجربة تستحق المشاهدة بكل تأكيد.

عنف آرثر، ميلاد الجوكر

تناول الإعلام الأمريكي فيلم جوكر بهجوم حاد قبل حتى أن يبدأ عرضه، وصل الأمر لدعوات بمنع عرضه في بعض الولايات، والجيش الأمريكي أصدر بيانًا يحذر فيه من عنف محتمل، نتوقع إذن أن الفيلم يعجّ بمشاهد العنف والدماء، لكن في الحقيقة جوكر يتورط في عدد محدود من جرائم القتل، ولا يُقارن عدد قتلى الفيلم بأكمله بعدد ضحايا مشهد واحد من فيلم الأكشن الأكثر شهرة حاليًا “جون ويك”، فلماذا يثير عنف الجوكر كل هذه المخاوف ادن؟

ربّما لهذا علاقة وثيقة بطبيعة شخصية الجوكر وحجم شعبيتها، وكذلك بنوعية العنف لا كمّه؛ فهو ليس قتلًا عشوائيًا بهدف الإثارة يصعب أن يرتكبه مُشاهد عادي، إنه قتل نتيجة لمقدمات يشاركها معه جمهور واسع. 

يقتل آرثر والدته، والأم هنا تمثل التماهي بين الواقع والخيال، ومحاولات فرض جماليات تافهة على الواقع التعيس، “هابي” المتخيل أمام “آرثر” الحقيقيّ المعذب، إنها تشغله بروايات متعددة عن حقيقته، هل هو متبنى أم هو ابن توماس واين، هل هو ضحيتها أم ضحية النظام الاجتماعي، هل عليه أن يجلب السعادة إلى العالم البائس أم أنه بائس بسبب هذا العالم؟ المتاهة بين المتخيل والواقع صارت عبئا على آرثر.

إنه يريد فرض تحولاته الجديدة كواقع لا مناص منه، بقتله لوالدته يصبح منبتّ الصلة بماضيه، إنه ابن اللحظة الراهنة، بغض النظر عن كل شيء سبقها وكل ما أدى إليها، الواقع الآن أنه جوكر، غاضب ومتألم، ويريد الانتقام، وللمفارقة تكون هذه اللحظة هي الوحيدة في حياته التي يقرر فيها ما يريد بمحض إرادته، دون أن تقوده صدفة هنا أو حدث عارض هناك، يُتوج وجه جوكر بهذا التحول، ويرتسم الارتياح على ملامحه. 

جريمة القتل الاخيرة تأتي من نصيب الكوميديان موراي، هنا ينتقم الجوكر من فكرة الإعلام والتلفاز، وحتى من العروض الكوميدية التي طالما حلم بأن يكون أحد نجومها المرموقين، الإعلام هنا هو سلاح النظام ضد الآخر، والسخرية هي أبعد درجات النفي والحصار؛ الآخر هنا هو المختلف بالضرورة، المجتمع لا يحتمل التناقضات، المختلفون كآرثر يقطعون تماهي المجتمع مع ذاته كوحدة عضوية واحدة يشكلها النظام.

يصرخ آرثر في الحضور على المسرح “مزحة عن موت أحدهم غير أخلاقية بالنسبة لكم، لكن السخرية من حياة شخص مثلي مقبولة”، غاضبًا من الزيف والتناقض الذي يجعل مأساته مجرد مادة لإضحاك الأثرياء، يحول آرثر عرضًا كوميديًا إلى مسرح جريمة، وينتقم لذاته المنفيّة على المسرح ذاته الذي طالما مارس عليه السخرية، وعلى مرأى ومسمع من الجمهور الذي قايض بالضحك حياته.

Visited 143 times, 1 visit(s) today