سيرجي باراجانوف: من القولبة الشعرية إلى سينما الشعر

لقطة من فيلم "لون الرمان" لقطة من فيلم "لون الرمان"
Print Friendly, PDF & Email

تأليف: أوكسانا بريوخفتسكا ​

ترجمة: يعقوب رائد

تمهيد

تفحص هذه الدراسة المحاولات التي قامت لشرح خصوصية أعمال سيرجي باراجانوف من منظور سينما المؤلف ، تتعلق هذه الخصوصية بالبعد الذي تشغله الأعمال الفيلمية التي تبدو نسخًا متطابقة لكن مختلفة الأجزاء وتضم الأفلام المبكرة التي يعتبرها معظم النقاد فشلا ميديوكريا والأفلام اللاحقة التي يصنف كل واحد منها كإنجاز في اللغة السينمائية ، في الوقت الذي تبدو فيه لحظات التحول لصانع الأفلام مبهمة وغامضة ، تناقش هذه المقالة أيضًا البحث عن الرؤية الشعرية (بوعي أو دونه ) كونه متصلاً بطوال المدة التي أنتج فيها باراجانوف أفلامه المبكرة، وهذا ما يحسب له في الاستفادة من اضطراب الرؤية الذي صاحب أفلامه الروائية المبكرة .

الدراسة

تعد أعمال سيرجي باراجانوف غير مألوفة حتى من وجهة نظر نظرية سينما المؤلف حيث أشار روبرت باين مرة إلى أن العقبة الرئيسية لعقد مقاربة نظرية لسينما باراجانوف هي في فقدان القدرة للوصول الى أفلامه المبكرة ، حيث تنقسم أعمال باراجانوف إلى مرحلتين؛ المرحلة المبكرة والمرحلة المتأخرة .

تعد أفلام المرحلة المبكرة وهي أربعة:

  Andriesh،The Top Guy، Ukrainian Rhapsody، and the flower of the stone، والتي تم تصويرها في أستوديو ديفشنكو في المدة بين 1954 و 1962 وفي إطارٍ من الواقعية الاشتراكية المختلفة تمامًا عن الأفلام الأربعة التي شكلت المرحلة المتأخرة والتي تم تدشينها بفيلم Shadows of  forgetten incestors  (أستوديو دوفشينكو أيضًا عام 1964) والتي أظهر من خلالها طفرة واضحة.

 أحيانًا يمكن أن نقول إن باراجانوف الحقيقي بدأ من خلال هذا الفيلم وأن ما سبقه لم يكن إلا سوء فهم لا يمكن الندم عليه.

إن تنويعات العبارة “لاشيء يمكنه توقع هذا الفيلم” ظهرت عند العديد من المؤلفين الذين تتبعوا مسار باراجانوف الإبداعي. فإذا كان الأمر كما صاغه جان رينوار؛ إن المؤلف يجب أن يستمر في صناعة الفيلم نفسه طوال حياته فإن باراجانوف بالكاد يمكنه مجاراة هكذا تعريف فكيف يمكن التعامل مع المرحلة المبكرة من أفلامه حيث كانت سمعته كأسوأ صانع أفلام في الأستوديو أو أفلامه التي تناولت التقاليد بطريقة أثارت حفيظة النقاد والسلطة على حد سواء حيث لا يمكن الهرب من ملاحظة أن سيرجي باراجانوف في مرحلة النضوج كان عبقريًا حقيقيًا.

 كيف يمكن فهم هذه التحولات وهذه النقلات السريعة أو استيعابها؟

نظرًا للأرضية الملغزة وفقدان القدرة على المقارنة بين باراجانوف اليافع والناضج هناك ميل عام لنسيان وجود الأول ، بطريقة واعية أو لا دائمًا ما يتم نسيان تلك الأفلام وحذفها من الذاكرة او لإيجاد مبرر لوجودهم فقط وهو تخلص باراجانوف وعائلته من الموت جوعا ، مثل استراتيجية للتكيف من مؤلف غير عادي لإنتاج محتوى ثانوي أو كما أشار فاديم سكوراتيفيسكي “الفضاء المبهم الأول” لمسيرة براجانوف الفيلمية .

على أية حال، هناك استراتيجيات أخرى تم فرضها والتي ترفض تجاهل أعمال باراجانوف الأولى أو اعتبارها غير جديرة بالانتباه ، حيث تقوم بالتركيز على انبثاقات عبقرية لباراجانوف المتأخر في أفلامه الأولى ومنها ما انشأه باراجانوف نفسه، ففي أعقاب مجد فيلمه “ظلال الأسلاف المنسيين” Shadows of  forgetten incestors في منتصف الستينات ألقى نظرته النهائية على بيانه الذي سماه ” الحركة الدائمة “.

وبغض النظر عن نبرته المختلفة، هناك ملامح يمكن أن تكون مقروءة في ما بعد الواجهة لما يبدو رغبة في إبعاد نفسه عن أفلامه المبكرة كمحاولة للتورط في فهم سيرته الإبداعية التي قادته لتحقيق طفرة سينمائية.

بشكل غير محدود تناول باراجانوف تلك الأفلام لصياغة أسئلة حيث يتطلب الإجابة على كل سؤال مدة طويلة لإيجاد البذور الجديدة والأصيلة لرؤيته الخاصة التي تتطلب إنباتًا طويل الأمد .

سيرجي بارادجانوف

مايرون شيرينكو (ناقد سوفييتي) قام برسم لوحة خالصة لمسيرة باراجانوف الإبداعية في موجة الشهرة الثانية التي صعدت به خلال فترة البيروستريكا في الإتحاد السوفييتي حيث فحص بعناية التفاصيل الدقيقة لأفلامه المبكرة “وقت التخلص من الصخور” كما أشار إليها .

بينما بقيت نبرة النقاد متشددة، الأمر الذي يمكن تفسيره جزئيًا كنتيجة لرفض كل ما هو مؤدلج (كما كانوا يقولون في فترة البيروستريكا الافتراض بسذاجة أن الأيديولوجيا يمكن تقييدها وفق المنظور الإنتاجي للحزب الشيوعي يجب أن يختفي في التأريخ مع قاعدته تلك).

يقترح شيرينكو أيضا تفسيرين متشابكين لفهم شذوذ أعمال باراجانوف المبكرة وهما التمرد والامتثال، لم يكن باراجانوف واعيًا بقدراته في تلك المرحلة وكان يصنع الأفلام حسب القواعد الموجودة وما يتم تكليفه للقيام به، لكن على قدم المساواة كانت هناك رغبة لا واعية لتدمير هذه القواعد والاتفاقيات أو السخرية منها على الأقل تشق طريقها في ظل هذا الانقياد الطاغي .

يسعى شيرينكو للقيام بمقارنة ملفتة جدًا بمقاربة أفلام باراجانوف المبكرة مع الكولاج بشرح طريقة تكوينها الاقتباسية والقائمة على دمج أمثلة من منظورات الأنواع الكلاسيكية للسينما السوفيتية.

على أية حال، يرفض شيرينكو منح هذه الاقتباسات قيمتها الحقيقية ويصر على وصف الفترة المبكرة لباراجانوف بأنها “شخص يقوم بحصة عملية مكثفة لصنع كل أنواع السينما الشائعة في وقته ليكتشف في النهاية كم أن الأمر غريب ومنفر وكم هو بحاجة إلى سينما أخرى، سينما خاصة به”.

هناك أيضا في الحالات التي تشبه حالة باراجانوف نوع من ” تشكل الوعي ” الطريق الأطول للاستحواذ على الوعي بدلاً من التحويرات التي تهدف إلى تأكيد المقاربة مع منظور سينما المؤلف.

هذه المراحل الطويلة من الصقل نادرة الحدوث عند بقية المؤلفين في المستوى نفسه الذي يحتله باراجانوف الناضج، فهؤلاء يمكن أن يغيروا النمط

 وطبيعة الكتابة ولنكون أكثر دقة لغتهم السينمائية لصنع طريقة مختلفة في التعبير (مثال ذلك فريتز لانغ والحقبة الأمريكية والألمانية في أفلامه) لكن موهبتهم تضل مفضوحة منذ البداية حيث أن صوت المؤلف سيبقى واضحًا من الفيلم الأول حتى الأخير .

إن الميل لاعتبار خطوات باراجانوف الأولى تدريبا مطولا تعزز في أواخر التسعينات على يدي فلاديمير هوربينكو من خلال دراسته المختصرة التي ركزت على الأخطاء والهفوات التي يقع فيها صانع الأفلام المبتدئ، والتي تم إيجادها في التطور المنطقي والسردي أو التعديل المستمر من خلال تعبيرات بلاستيكية تنبع من محفزات سيكولوجية للشخصيات بالإضافة إلى الثيمة الدرامية – الحكم على المرحلة المبكرة لباراجانوف من خلال معايير الاتفاق والتناسق والتركيب الذي سيرفضه فيما بعد رفضًا قاطعًا سيتبين أنه حكم حدسي لا أكثر-  هذه الانحرافات في اللغة المعيارية يجب ألّا تُرى كتشوهات بل كإضاءات لنمط تأليفي قادم سيرفض  العمل على “محو أمية” سينمائي، هذه الأمية نفسها بحسب رأي باراجانوف كانت المسؤولة عن العيوب في فيلم آخر هو Oleska Dovbush لفيكتور إيفانوف (1959) والذي تعرض لتلقين النقاد السينمائيين، هذا الفشل في التقاط الحياة الشعبية في جانب آخر منه يبدو كجرد لتجارب فاشلة لكن لو تم تعزيزه بانعكاسات معينة يمكن أن يولد فضاءً يُثار له اهتمام من السينما الهجينة التي تدمج السرد الكلاسيكي للفيلم مع الميول الحداثوية حتى لو لم يتم إدراكها بشكل كامل .

إلى جانب ذلك، فإن عمل هوربينكو كان الأول من نوعه الذي يشتغل على المرحلة المبكرة لباراجانوف كموضوع للبحث، مقدمًا تحليلاً مثيرًا لكل لقطة وبنيتها المعمارية بالإضافة إلى ملاحظات قيمة حول كيفية تكوين الرؤية التأليفية من منظور الواقعية الاشتراكية.

هناك أيضًا ميل في الغالب إلى أنك إذا لم تستطع إحياء الأفلام الأولى لباراجانوف فيمكنك على الأقل تربية سلوك أكثر تعاطفًا معها فاختفاء نبرة الستينات وظهور نبرة جديدة في ثمانينات القرن الماضي ساهم في لفت الأنظار إلى تلك الفترة لمحاولة إيجاد إشارات معينة تدل على عبقرية المؤلف ،حيث إن الميل للتصالح مع تلك الفترة يعزى ربما إلى الفاصل الزمني الذي يصنع هالة حول الأشياء ،إن إعادة إحياء المرحلة المبكرة لباراجانوف طرح من جديد في مقالة لفاديم سكوراتيفسكي بعنوان ” ظلال الأفلام المنسية ” 2001 حيث لم يحاول المؤلف إعادة صياغة ما ذهب إليه مايرون شيرينكو بشأن إلقاء نظرة أكثر قرباً ووهبها قيمة معينة أو شرعية هذه الأفلام لتكون مجالاً للبحث والدراسة وهو ما ذهب إليه فلاديمير هيربينكو ، وبإشارة لا تخلو من الخبث يقترح سكوراتيفسكي رؤية الأفلام الأربعة الأولى – غير المتقنة – مع تحفته الاولى كشكل متحد تحت مسمى ” الخماسية الأوكرانية ” حيث يفترض إن الأمر مبني على الأساس اللاواقعي لكل الأفلام والذي ينمي نوع من الامتعاض اتجاه الواقعية الجديدة المسيطرة آنذاك .

من فيلم “ظلال الأسلاف المنسيين”

وحسب سكوراتيفسكي فإن الحس اللاواقعي لم يجد مادته الخام في أفلام باراجانوف الأولى ، طالما إن الحياة السوفيتية المعاشة كانت الوسط الذي تشتغل عليه تلك الأفلام ، حيث قامت تلك الأفلام بمسح دقيق لتركيبة المجتمع السوفيتي ( عمال ، فلاحين ، طبقة النخبة ، والراعي- الزعيم المتخيل يحوم فوقهم )، إن الميل الذي يحمله باراجانوف للاواقعية آنذاك كان كتلة غير متجزئة للستالينية أو لنضع الأمر بعبارات سكوراتيفسكي (مفهوم قديم بالكامل للأسطورة السينمائية السوفيتية) يبدأ الأمر مع فيلمه “ظلال الأسلاف المنسيين” المبني على ثقافة الهوتسل- وهي طائفة عرقية تقطن غرب أوكرانيا ورومانيا تعتبر كجزء من المجتمع الأوكراني لكنهم يرون أنفسهم كجزء من أثنية روسية – البيئة الطبيعية للطقوس والمراسيم والتي تشكل حسب سكوراتيفسكي “مصفوفة باراجانوف السينمائية” حيث يمكن إدراك هذا الأمر في كل أعماله المتفردة لكن يبقى هناك سؤال مفتوح؛ هل الطقوسية في أفلام باراجانوف الأولى تحمل بذور التجربة الناضجة  لباراجانوف في أفلامه المتأخرة أو بصمته أم لا؟

مما لا شك فيه، إن الطقوسية كانت حاضرةً في أفلامه المبكرة، فهناك زفاف طقوسي في فيلم   The Top Guy مسابقة للغناء تتحول إلى شعيرة غرائبية من الطقوس نتيجة الانفصال التوثيني (الاعتقاد أن شخصًا ما لديه قوة خارقة) بين الجمهور والمسرح في فيلم “رابسودي أوكرانية”  Ukrainian Rhapsody  والطقوس الدينية لطائفة عرقية في فيلم   The Flower on the Stone  “زهرة الحجر”.

فيلم زهرة الحجر

وكما أشار سكوراتيفسكي مسبقا فإن تركيبة الطقوس والمراسيم لم تكن غريبة عن المجتمع الروسي، مما أظهر ميل باراجانوف إلى ابتداع أو خلق أسطورته الخاصة كما أظهرت كاترينا كلارك في بحوثها حول الواقعية الاشتراكية السوفيتية.

من الوهلة الأولى يبدو الاختلاف بين المرحلة المبكرة والناضجة لباراجانوف في المادة الثقافية الخام للطقوس والمراسيم سواء كانت تنتمي للمجتمع السوفيتي المعاصر أو السالف، هذا قد يفسر لماذا اختار باراجانوف صنع Andriesh لأول مرة بالشراكة مع ياكوف بازيليان وحظي بالانتباه أكثر من بقية أفلامه المبكرة آنذاك ،يتناول حكاية مولدوفية خرافية شبه  فلكلورية ،عن راعي أغنام فائق الجمال يصل إلى مسمعه أن الأغنام سرقت بواسطة قوى الظلام فيسعى جاهدًا لاستعادتها والقضاء على قوى الشر، ينبني الفيلم على أساسات مثيولوجية وفلكلورية بالإضافة إلى الرمزية من خلال سرد خالٍ من النزعة النفسية قدر الإمكان مولداً شخصيات لا تنطق بالعامية المتاحة، بل بكلام منظوم يقترب من الشعر على حساب اللغة الركيكة .

للمرة الأولى كان هذا التشديد لصنع هكذا أفلام قد قاد باراجانوف ليحصل على لقب ” أسوأ صانع أفلام في الأستوديو”، العقد الذي يقع بين عامي 1954 و1964 بين إصداره لفيلم اندريش وفيلم ظلال الأسلاف المنسية كان أشبه بتنحٍ عن الطريق البدائي الذي سلكه في اشتغالاته الأسطورية أو الفلكلورية  حيث كانت أفلامه الأولى تقوده إلى طريق معاكس لما يصبو إليه حتى وجد نفسه أخيرًا في ثقافة الهوتسل الفلكلورية .

تبدو مسيرة باراجانوف المبكرة كعودة الابن الضّال الذي يرجع تحت وطأة مخطط أكبر يرغمه على العودة، هذه النسخة من باراجانوف تحتل مكانة رئيسية في تشكيل الصوت الداخلي للمؤلف، فهذه الأعمال أصبحت حاسمة في تكوين شخصيته، على الرغم من التشابه السطحي بين  فيلميه اندريش وظلال الأسلاف المنسية حيث يمكن اعتبار هذين الفيلمين كنقيضين حقيقين بالأخص بعد ما قدمه جوشوا فيرست حول طرائق عرض الفلكلور والتعدد الطوائفي، فالأول مبني بسذاجة وتركيبة زائفة للاختلافات الطوائفية أما الآخر فيقدمها كتجربة حقيقية معاشة بالكامل ومن هذا المنطلق يبدو الفيلمان متعاكسين تمامًا ، بداية من فيلمه ظلال الأسلاف المنسية، يقدم باراجانوف نوعًا من التلاعب بالفلكلور بعرضها لأمور اعتيادية بطريقة غير عادية “عودة الفضول المكتشف إلى مجهوليته” هذه الأفكار الحداثوية لا تتجلى في طبيعة المواد المكونة للصورة فقط، بل في طبيعة المعاجلة السردية للمفاتيح والثيمات الرئيسية للفيلمين ، فآندريش كان أشبه بخطاب بطولي يعرض الخسارة كفعل بطولي فذ ، بينما في ظلال الأسلاف المنسية يبدو الأمر كزيف حياة محطمة غير قابلة للإصلاح ، الفرق بين الفيلمين يبدو واضحًا أكثر عند الانتقال من المحتوى إلى الشكل ، فيصبح واضحًا أن الفيلمين ينتميان إلى شكلين مختلفين تمامًا ومتناقضين التحول من الواقعية الركيكة إلى الاستعارة الشعرية بالأخص في تناولهم للغرائبية، حيث تم تقديم الغرائبية كشكل واقعي مندمج مع النمط السردي أو الروائي للفيلم في آندريش.

على العكس تمامًا فقد قام باراجانوف بمحو معظم المخلوقات الغرائبية في ثقافة الهوتسل في فيلمه ظلال الأسلاف المنسيين على الرغم من حضورهم في رواية” كوتسوبينسكي” وقام بعرض القلة الباقية منها كمخلوقات دنيوية ، في الوقت ذاته العالم الحقيقي أو المحسوس في فيلمه ظلال الأسلاف المنسية قد تحول إلى ما يشبه الحلم أما في آندريش فهي الغرائبية الطافحة التي يمكن للمراقب تحديدها وبهذا يكون الأول عرضًا للغرائبية بطريقة واقعية ركيكة بينما التالي وصفًا شعريًا للواقع.

من “ظلال الأسلاف المنسيين”

لفهم المسافة الواصلة بين  النقطتين، علينا أن نلقي نظرة مقربة لطبيعة الأفلام التي تم صنعها بين هذين الفيلمين والتي تم التقليل من شأنها من قبل النقاد وباراجانوف نفسه، هذا الاختلاف بالرؤية قد تم تركيزه بشدة في فيلمه ظلال الأسلاف المنسية ،الرؤية الي تبحث بحرقة عن عناصرها الشعرية كل يوم ، للقبض على الاستعارات الساحرة للمواد الأكثر عادية وشحنها بالمعنى قد أصبح ناضجًا في هذه الأفلام بغض النظر عن عادية المواد التي تعالجها، إن الاكتشافات التي قام بها باراجانوف للوصول إلى هذه الرؤية والتي تختلف من فيلم لآخر ،اكتملت أخيرًا في لؤلؤة شعرية خالصة منذ فيلمه ظلال الأسلاف المنسية .

إحدى هذه الاكتشافات المطورة يمكن إيجادها في النمط الكوميدي  في فيلم “الشاب الأول” the top guy ، حول دخول الرياضة في حياة الجمع والفلاحة وفي أكثر مقاطع الفيلم عبثا يقوم بائع الغزل والنسيج بمغازلة حبيبته برمي أنسجة مختلفة الألوان حتى يغطي وجهها حجاب نصف شفاف ،خالقًا لحظة غرائبية، رؤية نصف شفافة تجسد الرغبة الحالمة ،تعكس اللقطة ذاتها بالإضافة إلى حركة الكاميرا حول النسيج الشفاف حميمية التحديق الأول ثم يتحول المشهد إلى الضبابية بفعل المشاعر التي يتبادلها الحبيبان ،مشهد آخر من الحميمية الضبابية يظهر في فيلم “زهرة الحجر” the flower of the stone  والذي يدور حول عمال مناجم الفحم في دونباس ( منطقة في شرق أوكرانيا مشهورة بمناجم الفحم ) ، يحدث تبادل للنظرات في المتجر غير أن المبرر الدرامي غير واضح ( فلا نعرف كيف تمكن الحجاب من تغطية بطلة الفيلم) لكن التأثير الجمالي لفتنة النظرة الحميمية التي تخلقها شفافية المشهد مهمة جدًا في بناء الشخصيات، هذا التأثير لهذين الفيلمين لا يزال موجودًا في علم جمال الإيروتيكية كما هو الحال مع الأشرطة في أفلام جون ستيرنبرغ، يحيل مارشال ماكلاون هذا الأمر إلى نظرية الوسط المعلوماتي والفرق بين الجوارب غير المثقبة والشبكية كأوساط حارة وباردة، وحسب نظرية الوسط، فالعين تتفاعل مع الأوساط الشبكية أو الشفافة كما تحاول اليد إكمال الأجزاء الناقصة من الصورة ، ما يجعل النظرة تأخذ خاصية مجسمة أو ملموسة تجعلها أقرب للمس .

من فيلم “عاشق قريب”

في فيلمه “لون الرمان”  The Color of Pomegranatesتتقدم محبوبة الشاعر نحو الكاميرا والأشرطة تتحرك على وجهها بطريقة أفقية وكأنها تسبح في الفراغ، النظرة التي تقترب من اللمس هنا محررة من مبررات الحبكة لتتحول إلى قطعة جمالية محضة .

إن إيروتيكية اللمس المجسدة في “ظلال الأسلاف المنسيين” لا يتم تحقيقها عن طريق شفافية الحجاب أو المانع لكن عن طريق التوظيف المثالي للضوء والتركيز غير المباشر على الشخصية، بالضبط كالتقاط شبكة من الزخارف الزهرية حيث تغطي هذه الزخارف الصورة بطبقة من الخطوط ما يغير المفهوم الكامل للفضاء، ما يشكل فضاءً غير متجانس الحجم لكنه مبني على طبقات مختلفة ومتجاورة.

 إن تحويل الفضاء إلى زخرفة زهرية يعمل كشاشة مضاعفة بدأ في أفلامه المبكرة رغم نضوج تركيبته قد نضجت في “ظلال الأسلاف المنسيين معلنة عن نفسها بكل الجمال الذي تحتويه.

إن الألق القصير الذي ينشأ من الفضاء متعدد الطبقات الذي تولده أنماط الزخرفة الزهرية موجود سلفا في فيلم “رابسودي أوكرانية”، و”زهرة الحجر”  كما لاحظنا ذلك، أما التلميح لهذا الأسلوب فقد بدأ في فيلم The Top Guy  لكن لم يحض بتحليل كاف ولم يلق عذرًا لوجوده يتناسب مع السرد الفيلمي، من المكان بأهمية أن نفهم المسار التطوري العام لسينما باراجانوف، فهو الحامل لشعلة الاكتشاف ، كلما قلت غرائبية تخيلاته الشعرية كلما زاد الواقع انغماسًا في تحولات سحرية تحت  رؤيته مولدًا حيزًا من الانفصال الجمالي، أشار فاديم سكوراتفسكي إليه بوصف ساحر وهو ” الانقلاب من شيئية الطقوس إلى طقسية الأشياء ” ، فبتغطية الشيء الذي يحبه بطبقة من القماش الملون نصف الشفاف قام البائع بخلق نوع من الطقس الخاص به للمداعبة أو المغازلة ( المشهد من فيلم the top guy).

من فيلم “الشاب الأول”

هذا الميل لتحويل المواد إلى مواد أخرى يشكل الشرارة التي ينطلق منها أسلوب باراجانوف السينمائي قام باراجانوف بتطوير أسلوب الطبقات المتعددة للشيء المعروض ليصبح مفهومًا لطرق الرؤية المختلفة، بالخصوص في ترتيب الفضاء البصري والروائي والذي يخضع لنوع من التحرر بانتقاله من الاستمرارية غير المنقطعة للشخصية إلى الكشف عن الأسطح المستوية أو بعبارة أخرى ” البناء المعكوس للصورة “.

هذا الميل العام يسمح للنظام أن يُعرض كظواهر مختلفة ومتباينة الأهمية، السحرية التي يصر باراجانوف على إظهارها في كل حياته وليست السينمائية فقط، ميل متزايد نحو جعل الفضاء مسطحًا أدى إلى تطوير مخزون تقني له القدرة على اختراق بنية المنظومة السينمائية، بنية مفارقة للصورة بدل البنية المعتادة أو المقولبة، التخلص من الحقائق المطلقة وإحلال صوت الفضاء متعدد الطبقات غير المتجانس، الذي لا يخضع للكلمة بوصفها النواة المولدة للمعنى.

بالعودة إلى هربينكو فهنالك ” نبض ” “إشعاع”، طاقة معينة والتي تخلق الإحساس بالمرونة ” في أفلام باراجانوف الأولى، لكن هذه الخصائص تتواجد في مستوى دقيق جدًا من الصورة الثابتة، تضعف عند الانتقال إلى المشهد ثم تختفي بالوصول إلى الفيلم كاملًا، هذه الملاحظات تفتح الباب لقراءات مختلفة ومتعددة الطبقات للفيلم، والإمكانية التي يسببها عدم التجانس في العلاقة الكاملة بين الصورة والسرد الروائي.

بقيت أفلام باراجانوف الأولى ملتزمة بالحدود السردية للواقعية الاشتراكية، في الوقت نفسه الذي تم استقبالها فيه كفشل من قبل النقاد والجماهير الباحثين عن نوعية الترفيه التوجيهي (البيداغوجي) في السينما السوفيتية آنذاك. هذا النوع الذي يتطلب سردًا متصلا ومحفزات نفسية لم تكن أبدا في حسبان باراجانوف، منذ البداية يبدو أنه قد فهم ( ربما بالحدس فقط ) إن الصورة وليس السرد كما تشرح مصطلحات جيل دولوز أنها “المعطى الواضح ” للسينما حيث تبنى باراجانوف في هذا المستوى الأولي مفهومَ أن القصة المتناسقة موجودة فقط في ذهن المشاهد وليس في الفيلم، يتم بناؤها في ذهن المشاهد نتيجة للآثار والتلميحات السردية.

مؤخرًا صاغ باراجانوف عدم اهتمامه بما أسماه “الحلول الأدبية للسينما “مقابل المرسومة “منها: “لطالما كنت حساسًا تجاه الرسم، ومنذ مدة كنت نجحت في تقديم الإطار كلوحة مصورة على الكانفاه، أنا على وعي بالميول الإخراجية لأسلوبي والتي تجعله ينحل ليحول نفسه إلى لوحة، وهذا ما يشكل كلا الأمرين ضعفه وقوته الأولية حتى إني أميل لتطبيق الأسلوب البصري لصنع لوحة عوضا عن الأسلوب الأدبي حتى في تماريني “.

هذا قد يشرح لماذا حصلت المدرسة التي أسس لها فيلمه ظلال الأسلاف المنسية على أسماء كالشاعرية (وقد تم استعماله كثيرًا) والتجميعية أو التصويرية، وهو ما يرتكز عميقًا في تحليل الصورة، محتفظا بتردده و”نبضه ” السردي الخاص.

إن الفرق بين السرد والصورة لا يحتاج لعرضه للرجوع إلى ممارسات فنية أخرى كالرسم والأدب، لأنه (أي الأسلوب التصويري) يغوص في مستوى أعمق لإشكاليات المادة، وهذا ما ميزه جيل دولوز استنادًا لعلوم الكيمياء تحت مصطلحي المستوى الجزيئي والمولي للسينما.

يؤكد دولوز على أهمية المواد البصرية للسينما مقابل “التماثل الأرضي” لكرستيان ميتز فبالنسبة لدولوز ” السرد ليس موضحًا (دليلًا معطى) للصورة ولا التأثير البنيوي الذي يؤكدها، بل أن النتيجة المعطاة للمرئي لإظهار نفسه الصورة المجسدة في نفسها، والمعرّفة في نفسها تلقائيا

يشخص دولوز الحالة الخام حيث كلا النوعين من الصورة ( الصورة-الحركة، الصورة- الزمن) وطبيعة التكوين يدخلان لتشكيل منظور معين للسرد الكلاسيكي او الحديث.

من فيلم أسطورة قلعة سورام

ولأغراض تخص هذه الدراسة يلزمنا أن نميز بين مستويين اثنين من الأفلام، التصويرية والسردية أو استعمال مصطلحات دولوز المستوى الجزيئي والمولي.

إن الإمكانية لفهم العلاقة بين هذين المستويين ليست في مدى تطابق المصطلحين معا بل في درجة تناقضهما والتي ظهرت في الهرطقة السيميولوجية لبيير باولو بازوليني والذي ترك الإثر البالغ في مقاربات دولوز التأسيسية للسينما.

على الرغم من ذلك لا يزال الوقت مناسبًا لإعادة صياغة السؤال حول الفرق الذي أشار إليه بازوليني بين ” سينما الشعر ” و “سينما النثر ” يمكن مقارنته دون المط أو المبالغة مع الفرق الذي أوجده دولوز بين السينما الكلاسيكية (الصورة – الحركة) والسينما الحديثة (الصورة- الزمن).

بازوليني كان مقتنعا إن السردَ المتعارف عليه كان محتمًا على شكل الثقافة السينمائية المبكرة السائدة آنذاك (السينما الخاضعة بدلًا من الذهاب إلى اغتصاب محتم وغير مرغوب به) لكن تحت كل فيلم يقبع تيار مستمر من اللاوعي الذي تولده الصورة والذي يكمل المواد السينمائية اللاعقلانية، الحالمة بنصف اغفاءة أو “المتوحشة”، حيث يشير التوحش هنا إلى ظاهرة محددة (كما يعلل الشارحون على نص بازوليني هذا) إلى التوحش الملفت لعالم الأشياء البدائي ،استعمال نادر للغة حيث الأشياء بلا معنى وبشكلها الأنقى، من المهم ملاحظة أن بنية السرد المعتمدة على تدفق الصورة يجب ألّا  تخلط مع دافع التحسين الجمالي، بل هي أقرب لما طرحه فرويد حول التعقيد الثانوي أو العقلنة كآلية لوضع “الدليل المعطى” للصور الغائمة وتحولاتها في قيود المنطق الشائع.

لم يكن التعقيد الثانوي للسرد كاف بالنسبة لباراجانوف لإكمال مهمته الإبداعية، حتى في أفلامه الأولى التي كان خاضعًا تماما فيها للقصة، فالمستويين المولي والجزيئي لا يناقضان بعضهما فحسب في هذه الأفلام بل الأمر يكاد يصل إلى العراك، السعي للخلاص مما يمقته، ضغينة تنمو من فيلم لآخر خالقة إحساسًا متزايدًا من عدم الراحة، تم ملاحظته مبكرًا من قبل النقاد الروس، فأفلام باراجانوف تبدو كمن يلتهم نفسه.

اهتم باراجانوف في المستوى الدقيق للصورة فهي نابضة ومتماسكة وتكشف عن تمييز واضح بين المستويين المولي والجزيئي، بين الاحساس النادر بالاشياء والبيئة والطريقة الكلاسيكية للسرد.

فيلم الشاب الأول

يصف باراجانوف هذا التناقض في مقالته بعنوان ” الحركة الدائمة ” حول الاشياء التي اثرت عليه في التعامل مع السرد الكلاسيكي في أفلامه المبكرة:” عندما بدأت العمل على فيلم The Top Guy كنت قد انفتحت للمرة الأولى على الريف الأوكراني، نسيج من الجمال الغريب، إنه الشعر

حاولت كثيرًا التعبير عن هذه الدهشة على الشاشة لكن دائما ما ينهار كل شيء تحت وطأة القصة والذي كان ضروريا آنذاك أما المناظر، التماثيل الحجرية، اللقالق، الجرارات وأكاليل القش ليس لها علاقة بها “.

فقط بعد الانفصال التام عن أسلوب السرد الكلاسيكي واطلاق العنان للصورة المتدفقة كان ممكنًا إيجاد نبض هذه الأشياء في الفيلم.

واحد من الأمثلة الحية لبنية الصورة – المادة في أفلام باراجانوف المبكرة كان مجرد شظية ليس حتى مشهدًا ولا مقطعًا من الفيلم ففي فيلم”رابسودي أوكرانية” Ukrainian Rhapsody  والذي يصور مشهد نهاية الحرب أو تغيراتها الأنثوية لنكون أكثر دقة في هذا الفيلم كانت التركيبة السردية تبدو أقرب للمشكال ( وهو أنبوب مليء بالمرايا والخرز الملون يدخل الضوء من إحدى جوانبه ليرى الناظر من الجانب الآخر سحر الألوان المنعكسة) لا تشكلها ذكريات متشظية فحسب وإنما مكونة من نصفين منفصلين للقصة جزء ذكوري وآخر أنثوي ومنظوريهما المختلفين ،هاتان النسختان للذكر والأنثى بعد الحرب العالمية الثانية تم تقديمهما في الفيلم بطريقتين مختلفتين ،فالذكر مصاحب لسردية النصر المتزامنة مع الحشود الضخمة، لقطات طويلة جدًا في أماكن نصف مدمرة مشابهة للتحول الذي أصاب الكولوسيوم الروماني وتماثيل عملاقة كجزء من العمارة الخارجية، أما المنظور الأنثوي للحرب فتم تقديمه بطريقة مختلفة وأكثر حميمية تجربة مستمرة للعودة الى الحياة ولقطات قريبة لوجوه نساء القرية العاملات وبيئتهم ، هذا التشظي الذي يخضع المادة للتحول تحت وطأة الصور المتناقضة التي تدحض المنطق السردي المتعارف عليه.

خوذة جندي، بقايا الحرب وهي تخضع لتحولات ما بعد الحرب لاستخدامها لأغراض سلمية وعملية، من الملفت أيضا إن هذه الالتقاطة كانت الأقرب لباراجانوف من الفيلم كله حين أشار إليها في مقالته معتبرًا الباقي من الفيلم فشلًا صريحًا: “خوذة الحرب اكتسبت معنى بالنسبة لي حينما رأيت كيف يتم استخدامها لطلاء المنازل أو سقي العجول الماء أو سقي الزهور أو حتى كمكان يجلس عليه الأطفال لقضاء الحاجة بدلًا من الحفر في الأرض”.

بعيدًا عن تتابع الصور المتناقضة التي ترصد التحولات لخوذة الجندي فإن مفهوم الحياة العادية أو المسالمة كان ينمو على وجه الحرب المميت.

حتى الآن فالمفتاح و الكلمة غير المتوقعة لهذا التتابع هي “المعنى” المرتبط بتكثيف سينمائي ولغة فريدة لاستنطاق الأشياء ” لغة الواقع المكتوب ” كما يصطلح عليها بازوليني والتي ليست استعارات بل تحولات للشيء، وهو ليس تحول المعنى من شيء لآخر، بل تحول المادة تحت فيض الزمن الدافق .

هذا التفكير البصري في الأشياء، هو مفهوم العيش ضمن مجموعة من الصور حيث تنتصر الحياة على الموت.

هذا المعنى الفريد، واللغة النابضة للأشياء بالكاد يمكن ملاحظته في فيلمه Ukrainian Rhapsody، التناوب بين البهرجة المسرحية والمحادثات العامية هو ما يشكل جوهر السرد في هذا الفيلم .

سخر باراجانوف مرة من الفيلم بقوله أنه منقسم لجزئين، الجزء الأول كتبه السيناريست أولكساندر ليفاندا كشكل بارز للواقعية الاشتراكية الأوكرانية ، والجزء الآخر كتبه باراجانوف، هذا النمط من الانقسام الشيزوفريني موجود في كل أفلامه المبكرة تقريبًا، والتي تتألف من أنظمة نصية غير متجانسة لدرجة أنك تحس بتناوب الكتابة بين شخوص متعددة ، إحدى الطرق لوصف هذا التناوب بالأسلوب الكتابي هو ما شخصه بازوليني في تفريقه بين ” سينما الشعر ” و”سينما النثر ” حيث لا يمكن مناغمة هذه الأنظمة من خلال التعريف، فهناك صراع مميت بينهما ،علاقة عنيفة ” اغتصاب ” -كما تصطلح عليه مقارنات بازوليني المتوحشة- ومحاولة للثأر من الاغتصاب، النبض المتدفق للصور ينفجر داخل القصة ،يمزقها داخليًا محافظًا على سطحها الخارجي، ينفجر بالسخرية ،الرقص، الغناء، التمثيل الصامت، الأحلام والتخيل ،هذا التوحش، الزائر، المندفع، البدائي، اللاعقلاني، التدفق الحلمي للصور والمألوف جدًا في أفلام باراجانوف المتأخرة، تمت ملاحظته في أفلامه المبكرة ايضا حتى انه كان يزداد من فيلم لآخر، هذه المواد الشعرية الخام ظهرت في فيلمه الأول  Andriesh، والذي يغلفه السرد بحزم متعمد.

ضمن هذا المنظور فأن آخر أفلام باراجانوف المبكرة On The Flower Of The Stone  والذي حظي بنقد لاذع جدًا من النقاد وتعليقات مشابهة “لم أر باراجانوف بعيدًا عن نفسه أبدًا لهذا الحد “، “فيلم أعرج”، أثبت لاحقًا أنه قريب أكثر من “سينما الشعر” غير أنه في حقيقته كان تهجينا بين الشعر والنثر، الغرابة المتوحشة لهذا الفيلم ، حيث الجمع بين أنظمة نصية مختلفة وصل مرحلة لا يمكن السيطرة عليها.

ليس افتتاحًا لاحتمالية فقط بل ضرورة التحول من الكم إلى الكيف. فقد سخر مرة باراجانوف أثناء تصوير هذا الفيلم قائًلا ” سيكون هذا آخر أفلام أستوديو كييف السيئة ” سيكون هناك إنتاجات نوعية فقط تحولات إعجازية من النظرة الأولى لكنها في الواقع ليست إلا ديمومة لتهديم البنية القديمة وتحويل سينما النثر إلى سينما شعرية. كان هذا المفهوم التأسيسي لباراجانوف في بداية تغييره لمساره .

كانت هناك حاجة ماسة لإعادة النظر لما سيبدو عليه هذا الطريق الملتوي، لكن باراجانوف مضى قدما باتجاه تحقيق رؤيته الشعرية ،فالفترة المبكرة لباراجانوف كانت- مجازا-  أقرب للبطة السوداء من عودة الابن الضال ،فتم اعتبارها كفشل وضعف وعدم القدرة على مجاراة الآخرين لكن سرعان ما اتضحت قوة هذا الاختلاف في صنع الرؤيا الخاصة، التقييمات لما هو سيء وجيد انعكست فجأة ،والشكر موصول طبعا للأستوديو الذي اعتبر باراجانوف أسوأ صانع أفلام في الأستوديو ،كونه لم يرضخ للقواعد المتعارفة ، فقد كانت لديه القدرة على السمو وتوسيع مداركهم لفهم اللغة السينمائية فالبحث عن الرؤية الشعرية قاد باراجانوف من النظم السردية الضحلة إلى اللغة الفريدة في إنطاق الأشياء، الحركة الدائمة للتحولات من الغرابة والتخيل إلى الواقع وخلق تجربة مباشرة لتأمل العالم قبال الجوهر الصلب لنواته الشعرية .

Visited 50 times, 1 visit(s) today