ذكريات وتداعيات بعد 50 عاما على ظاهرة جيمس بوند
ذهبت أخيرا لمشاهدة فيلم “السقوط من السماء” Skyfall أحدث الأفلام في سلسلة أفلام جيمس بوند الشهيرة في العاصمة البريطانية لندن، ودائما ما يكون لمشاهدة أفلام بوند في لندن تحديدا مذاق خاص، وخصوصا في دار عرض أوديون ليستر سكوير، فهذه الدار العملاقة التي تعد الأكبر والأكثر مركزية في لندن، هي التي شهدت العرض العالمي الأول لفيلم “دكتور نو” أول أفلام السلسلة قبل خمسين عاما، وهي السلسلة التي راجت فيما بعد وأصبحت علامة تجارية مسجلة، بل وإمبراطورية تجارية تجلب الكثير من الأرباح لمن يستثمرون فيها أو يعلمون لحسابها. وقد دامت هذه الإمبراطورية السينمائية حتى الآن 50 عاما بالتمام والكمال. والفيلم الجديد هو الرابع والعشرون في تلك السلسلة.
من ناحية أخرى لندن هي مقر المخابرات الشهيرة (إم آي 6) MI6 بالتحديد، فرع النشاط الخارجي في المخابرات البريطانية، المتخصص في التجسس وتعقب عملاء الدول الأخرى والقيام بما يسمى بـ”العمليات الخاصة”. وليس بعيدا من ليستر سكوير، على الضفة الجنوبية لنهر التايمز تقع قلعة المخابرات.. ذلك المبنى المهول الذي افتتح عام 1994 وانتقلت إليه جميع أقسام المخابرات الداخلية والخارجية. ويمكن مشاهدته بوضوح من على جسر فوكسهول الشهير في لندن حيث يقع أعلى ربوة تشرف على تقاطع طرق متعددة. هذا المبنى يطلق عليه فوكسهول كروس أي تقاطع فوكسهول، وهو يظهر في الفيلم الجديد بشكل مباشر وليس على سبيل المحاكاة كما كان في فيلم سابق من أفلام جيمس بوند، فقد ظهر في فيلم “العالم لا يكفي” من خلال نموذج مصغر له.
والغريب أن السلطات البريطانية تسمح بالتصوير قرب المبنى ولكن يتعين على الراغبين في التصوير (السينمائي أو التليفزيوني) الحصول على تصريح مسبق- ليس من إدارة المخابرات- بل من بلدية الحي الواقع في زمامه المبنى المخيف الذي يحوي في داخله ملايين الملفات والمعلومات عن كل ما يحدث في العالم!
وفي الفيلم الجديد نرى لقطة لتفجير يدمر الطابق العلوي من المبنى العتيد، ورغم سماح السلطات بتصوير المبنى الحقيقي إلا أن الانفجار مصنوع بواسطة المؤثرات الخاصة التي تتولد عن تكنولوجيا برامج الكومبيوتر. وهذه التكنولوجيا في الفيلم تلعب دورا كبيرا، خصوصا عندما ينجح الشرير في اختراق منظومة المخابرات البريطانية للمعلومات، ويبدأ في تتبع كل خطوات الأخ بوند ورئيسته مسز إم!
بدأت علاقتي بجيمس بوند مثل كثيرين، في مرحلة الطفولة من خلال سلسلة الروايات الشهيرة التي انتشرت انتشارا هائلا في الستينيات من القرن الماضي. كانت تلك الروايات تجذب المراهقين والشباب وتسيطر على خيالهم وكانت تنشر تقريبا مرة كل شهر، وعندما أعلن عن انتهاء الروايات التي كتبها الإنجليزي إيان فليمنج، وهي خمس عشرة رواية فقط، شعرت بالحزن، فلن نواصل العيش مع بوند ومغامراته، بعد أن اختتمت السلسلة برواية لم أجدها جذابة، وهي رواية “الرجل ذو المسدس الذهبي”.
البديل الساحر
الصورة الخيالية الموجودة في روايات فليمنج، وكان هو نفسه قد عمل في مخابرات البحرية البريطانية، لم تكن تشفي غليلنا، وجاء البديل الأكثر سحرا في السينما، من خلال موجة الأفلام التي بدأت بـ”الرجل الشيطان” (دكتور نو). وكنا قد قرأنا الرواية وعشنا أجواءها في البحر الكاريبي وجزر الكاريبي، وهي منطقة عمل فيها فليمنج لفترة وافتتن بها وجعلها مسرحا للأحداث في الكثير من رواياته. وكانت الشركة الموزعة لهذه الأفلام في البداية تستخدم دائما كلمة “الشيطان” في عناوين الأفلام مثل “الشيطان يعيش مرتين” و”الرجل الشيطان” وغير ذلك مما لا أتذكره الآن.
ما يثير الاستغراب أن جيمس بوند الذي استولى على حواسنا، لم يكن يمثلنا أبدا على أي حال، نحن أبناء “جيل الثورة” أو أبناء “عبد الناصر”. لقد كان عميلا بريطانيا. وكانت الدعاية السياسية السائدة في مصر والعالم العربي في الستينيات تقوم على أساس العداء للغرب، وتحديدا لبريطانيا وفرنسا لدورهما المباشر فيما عرف بـ”العدوان الثلاثي” على مصر، وعرف في الغرب باسم “أزمة السويس. كان بوند رجل مخابرات، جاسوس، يخدم الخطط الاستعمارية البريطانية والأمريكية، يعتبر سكان العالم الثالث من الأشرار، ودائما يكون الأشرار في فيلمه، الذين يرغبون في تدمير العالم، من بلدان العالم الثالث، من كوريا أو الصين أو يعملون في خدمة المخابرات السوفيتية.. الشريرة.. التي تريد منع الغرب من نشر قيم “التحضر” والرقي والحريات.
كان بوند رمزا استعماريا لكنه كان محبوبا، فقد كان وسيما ورشيقا وشجاعا وجذابا، لديه قدرة خاصة على إغواء الحسناوات، يعرف كيف يلعب “الباكاراه” في أندية القمار (قرأت تفاصيل هذه اللعبة في روايات فليمنج إلا أنني فشلت تماما في فهم أصولها!)، يرتدي ملابس السهرة ويغشى تلك الأندية دون وجل، متحديا شرير الفيلم، الثري، الخارج عن القانون، الذي يحصن نفسه عادة داخل قلعة بعد أن يحطيها بأنواع مختلفة من الحراسة، ويجهزها بأحدث الأجهزة الالكترونية، بعضهم يقيم قلعته تحت الماء، والبعض الآخر داخل منطة جبلية وعرة، أو وراء أسوار مكهربة عالية في بلدان البحر الكاريبي. يوظف الشرير في خدمته عادة عددا من أعتى الحراس وأكثرهم بشاعة وقوة وقدرة على الفتك بأعداء الشرير صاحب المخطط الجهنمي للسيطرة على العالم، لضرب أقوى قوة في الأرض أي الولايات المتحدة، للتسبب في حرب عالمية بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، للسيطرة على أموال البنك الفيدرالي الأمريكي، لتعطيل منظومة الصواريخ الأمريكية، وغير ذلك من الأهداف الشريرة.
لم يلتفت جيمس بوند أبدا إلى الضعفاء من شعوب بلدان العالم الثالث لكي يساهم، ولو بقدر ضئيل، حتى على سبيل “الشفقة”، في مساعدتهم على التخلص من حكامهم الديكتاتوريين الذين يحكمونهم، بل على العكس، كان دائما يسخر من هذه الشعوب “المستضعفة”!
أثناء مشاجرة عنيفة بالأيدي بينه وبين شرير محلي في منطقة إهرامات الجيزة في أحد الأفلام التي كان يقوم ببطولتها روجر مور، يتغلب بوند على خصمه بالطبع، ثم يهز مجموعة من الحوامل الخشبية (السقالات) القريبة من أبو الهول، ربما للقيام ببعض أعمال الترميم هناك، فتنهار جميعها مخلفة غبارا كثيفا، فيعلق بوند في سخرية: بناة الإهرامات، أي أنظر كيف أن بناة الاهرامات لا يستطيعون إنشاء هيكل بسيط من الأخشاب!
في تركيا ومصر: الرقص الشرقي، وفي الصين: الأفيون، وفي الاتحاد السوفيتي: الحسناوات اللاتي هن على استعداد لخيانة بلادهن من أجل عيون بوند!
أجواء الحرب الباردة
لكن بوند كان محبوبا. والأسباب كثيرة. كانت شخصية جيمس بوند تحقق المتعة والإثارة وتجسد الشجاعة الفردية في عالم مليء بالإحباطات، وكانت الحبكة في روايات بوند أو أفلامه عادة ما تدور حول الصراع البدائي بين الخير والشر، الخير يتمثل في إنقاذ العالم من شرور الشرير، والشر في التآمر لإحداث أكبر قدر من الضرر.. هكذا على هذا المستوى الأولي البسيط الذي لا يقتضي وجود ثقافة وفهم ومعرفة بأحوال العالم السياسية وعملية الاستقطاب والحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين، الاشتراكي في الشرق والرأسمالي في الغرب. وكانت قدرة روايات فليمنج وسيناريوهات الأفلام المأخوذة عنها، هائلة في تجسيد نموذج الشر بحيث أنك لا تملك سوى التعاطف مع جيمس بوند، دون أي إدراك إلى أن الانحياز له معناه، أي الانحياز لقوى استعمارية تسعى للسيطرة والتحكم واستغلال الشعوب، وأن بوند بالتالي “أداة” لخدمة هذه القوى. بل كان عالم المغامرات دائما يستهوينا ويجذبنا إلى الاندماج مع هذه الأفلام.
أليس جزءا أساسيا من متعة السينما، الاندماج مع تطور السرد القصصي السينمائي، وترقب ما سيسفر عنه أو ما يمكن أن يسفر عنه، رغم معرفتنا كجمهور مشاهد، أن النصر لابد أن يكون لصالح بوند في النهاية.. إن لم يكن لشجاعته الفائقة وقوته البدنية الكبيرة والألاعيب التكنولوجية والأسلحة الخاصة الدقيقة العديدة التي يقوم بتسليحه بها خبير هذا النوع من الأدوات، فعلى الأقل لضمان استمرار إنتاج فيلم جديد من أفلام بوند.
انتهت الحرب الباردة من زمن، وانتهت روايات إيان فليمنج الخمس عشرة، وفرغ كتاب السيناريو من الأساس “الحقيقي” القديم الذي كانوا يبنون عليه قصصهم السينمائية، لكنهم قاموا بالبناء على شخصية جيمس بوند، ونسج حكايات أخرى مختلقة في ظروف أخرى جديدة: مكافحة الإرهاب الدولي تارة، أو خطورة المختلين عقليا الذين يمكنهم الاستيلاء على قنابل نووية واستخدامها للابتزاز والتهديد وترويع العالم تارة أخرى.. وغير ذلك.
كنا ننتظر ظهور فيلم وراء آخر بشغف وترقب. وكانت أخبار أفلام جيمس بوند الجديدة تنشر بانتظام في الصفحة الأخيرة من جريدة “الأهرام”، فقد كان الصحفي كمال الملاخ المسؤول عن هذه الصفحة وما ينشر فيها من أخبار، شغوفا أيضا بهذا البطل الأسطوري الجديد، وأتذكر أيضا أنه نشر ذات مرة حوارا قصيرا دار بينه وبين شون كونري في ستديوهات باينوود عندما زارها أظن عام 1967 (قبل الموقعة!) وعاد لكي يقول لنا شيئا مرعبا صدمني وأبناء جيلي المشغوفين بظاهرة العميل السري 007. كتب الملاخ يقول إنه اكتشف أن جيمس بوند (أي شون كونري) ممثل قصير وليس كما يظهر في الأفلام طويلا ورشيقا، وأنهم يجعلونه يرتدي حذاء بكعب عال حتى يبدو طويلا، وأنه أيضا “أصلع” ويرتدي “باروكة” خاصة هي التي تعطيه هذا المظهر البديع، كما أنه لا يتمتع بكل تلك الطاقة بل يستخدمون له ممثلا “بديلا” لأداء الحركات الخطرة.. وغير ذلك مما كاد أن يدمر صورة بوند في عيوننا. ولكن ثبت لي فيما بعد عندما تابعت شون كونري وقمت بتجميع المعلومات عنه أنه لم يكن كما صوره الملاخ قط. ربما لم يكن شعره ثقيلا كما تردد، أو ربما كان شعره خفيفا بدرجة واضحة من خلفية رأسه، لكنه لم يكن بالتأكيد “أصلعا”!
بارانويا ناصرية!
لكن الطريف أن أفلام بوند كانت تعرض في مصر عروضا عامة وتلقى إقبالا كبيرا في وقت كانت قبضة الرقابة مشددة على كل ما يروج للقيم “الرأسمالية” الغربية، وكانت البارانويا الناصرية وقتذاك تشك في أن كل أجنبي قادم إلى مصر من الممكن أن يكون جاسوسا، فما بالك بأفلام سيد الجواسيس. لماذا كانت تنتشر وتروج حتى بعد عام 1967 وما جرى فيه من نكبة كبرى لاتزال الأمة تدفع ثمنها غاليا حتى يوما هذا!
كانت هناك على ما يبدو رغبة في جعل الناس ينسون الهزيمة المرة، ولذلك فشلت الدعوة الغريبة التي اطلقتها بعض القوى المتطرفة فكريا وقتها لمقاطعة الأفلام الأمريكية بدعوى أن أفلام هوليوود “تخدم المخطط الإمبريالي” وهي أفكار لاتزال تجد لها بكل أسف، صدى حتى يومنا هذا في الكثير من وسائل الإعلام ولكن بعد أن تحول الخطاب من خطاب “اشتراكي” إلى خطاب “إسلاموي”!
من الأشياء التي أًصابتنا وقتها بالإحباط قيام الرقابة على المصنفات الفنية في مصر (ربما كان يرأسها وقتذاك الناقد مصطفى درويش) بمنع عرض الفيلم الثاني في سلسلة أفلام بوند وهو فيلم “من روسيا مع حبي” (أطلقت عليه شركة يونيتد آرتستس التي كانت تتولى توزيع أفلام بوند “عودة الشيطان” بعد بداية عرضه بأيام تقريبا، والسبب كان مألوفا في تلك الفترة، وهو “الإساءة لدولة صديقة” والمقصود بالطبع “الاتحاد السوفيتي” فقد كان الفيلم يدور حول محاولة بوند التسلل إلى روسيا لكي يأتي بعميلة للمخابرات السوفيتية (حسناء جدا بالطبع) تريد أن تهرب إلى الغرب، ومعها جهاز لفك الرسائل والشفرة ثمين للغاية. كان هذا الفيلم من إخراج مخرج بريطاني مرموق هو تيرنس يونج الذي أخرج ثلاثة من أجمل أفلام بوند واكثرها (براءة) أي قبل أن تتحول هذه الأفلام إلى استخدام الآلات التكنولوجية المعقدة وتتجه نحو “الخيال العلمي” لكي تنافس السلسلة التي ظهرت وبهرت العالم أي “حرب النجوم” لجورج لوكاس وما يشابهها من أفلام سبليبرج.
عن تيرنس يونج
أخرج تيرنس يونج (توفي عام 1994) “دكتور نو” وهو اول أفلام بوند، ثم “من روسيا مع حبي” ثم “كرة الرعد” Thundeball ثم انصرف بعد ذلك لكي يخرج أفلاما أخرى شديدة الجدية ظلت في ذاكرة السينما منها “انتظر حتى يحل الظلام” عن المسرحية الشهيرة، ومن بطولة أودري هيبورن وآلان أركين، و”مايرلنج” مع عمر الشريف وكاترين دينيف وجيمس ماسون وأفا جاردنر، وكان يونج رجلا تلقى تعليما رفيعا في جامعة كمبردج، وكان يرتبط بصداقة حميمة مع الممثل شون كونري قبل خمس سنوات من اختيار كونري للقيام بدور بوند. وكان كونري قد مثل معه في فيلم يدعى “هجوم النمر” أو شئ من هذا القبيل Action of the Tiger
وقد كتب جيمس كوتون في كتابه “من الذي صنع جيمس بوند” عن تيرنس يونج يقول “لقد كان تيرنس يونج هو جيمس بوند”. لقد كان شخصية تعرف التلاعب باللغة بهدف السخرية، جذابا يعرف كيف يرتدي ملابس السهرة بأناقة وكان أيضا جذابا للنساء” وكان يونج يأخذ شون تحت جناجه يصحبه إلى حفلات العشاء، وكان يعلمه كيف يمشي وكيف يتحدث وكيف يتناول الطعام”. وكان بعض الفنيين العاملين في أفلام بوند الأولى يرون أن كونري كان ببساطة “يحاكي يونج وهو يمثل”. ونشرت أنباء مرعبة عن تعرض يونج ومصوره للغرق أثناء تصوير فيلم “من روسيا مع حبي” بعد أن سقطت الطائرة الهليكوبتر بهما في مياه البحر أثناء تصوير أحد المشاهد ولم ينقذهما سوى باقي فريق التصوير، لكن يونج استانف التصوير بعد نصف ساعة من هذا الحادث!
ولعل أفضل أفلام بوند هي تلك التي ظهرت إبان الحرب الباردة لأنها كانت على نحو ما “أفلاما واقعية” أي تحاول أن تقنعك بأنها تعكس تلك المنافسة الحقيقية التي كانت دائرة في الواقع، بين المخابرات السوفيتية والبريطانية والغربية عموما. وكان سلاح الجنس بلاشك، يستخدم في خضم تلك المنافسة. غير أن أفلام بوند لم تنتهه مع نهاية الحرب الباردة، بل استمرت وجددت جلدها بممثلين جدد، وبحبكات جديدة، ومخرجين أحدثهم هو سام ميندز (الجمال الأمريكي وجارهيد) الذي أخرج “السقوط من السماء”.
في أحد مشاهد الفيلم يعقدون اختبارا لبوند بعد أن كان قد اختفى لفترة طويلة وظنوا أنه قتل بعد سقوطه في النهر من أعلى قطار بسبب قرار خاطيء اتخذته رئيسته مسز إم. في هذا الاختبار يسأل أخصائي نفسي بوند عدة أسئلة أو بالأحرى، يردد على مسامعه عددا من الكلمات ويتعين عليه أن يرد بما يقابلها حسبما يرى من وجهة نظره وهو اختبار نفساني معروف. وعندما يقول له الممتحن: Skyfall تكون إجابة بوند: الموت.
كيف يمنع بوند الموت إذن؟ إنه يستخدم كل حيله في هذا الفيلم: الأدوات التكنولوجية (بدرجة اقل من الأفلام السابقة) والقوة الجسدية (في حين يبدو انه اصبح متقدما في السن ولم يعد يتمتع بنفس اللياقة بدليل أنه يختفي لفترة بعد سقوطه) والأسلحة البسيطة في مواجهة أسلحة الخصم الشرير “سيلفا” (الذي يقوم بدوره الممثل الإسباني خاييم بارديم (شخصيا أجده غليظا وفجا ولا أحبه رغم كونه ممثلا جيدا وإن بدأ يتحول إلى نمط شرير كرتوني منذ فيلم “هذه ليست بلدا للرجال العجائز”) لكن بوند هنا يعتمد أساسا على أمرين: وقوفه إلى جانب الخير (إنقاذ حياة رئيسته التي اصبحت طاعنة في السن وارتكبت ثلاثة أخطاء قاتلة) أي مسز إم رئيسة فرع المخابرات الخارجية، وذكاؤه الحاد الذي يسمح له بتوقع الشر والقدرة على الاستعداد له ثم مواجهته.
بالمناسبة قام بأدوار الشرير الذي يواجهه بوند عدد من كبار الممثلين في العالم (من جنسيات مختلفة) أذكر منهم على سبيل المثال: جيرت فروب في “دكتور نو”، ودونالد بليزانس “أنت تعيش مرتين فقط”، وتيلي سافالاس في “في الخدمة السرية لصاحبة الجلالة”، وتشارلز جراي في “ماس للأبد”، وكريستوفر لي في “الرجل ذو المسدس الذهبي”، والممثل النمساوي الكبير كلاوس ماريا براندور (بطل ثلاثية اشتفان سابو الشهيرة (ميفستو، الكولونيل ريدل، هانوسين) وقام بدور ماكسميليان لارجو في فيلم “لا تقل كلا أبدا”. وكان هذا الفيلم تحديدا محاولة لاعادة إنتاج فيلم “دكتور نو” أول أفلام السلسلة. وهو الفيلم الذي شهد عودة شون كونري في البطولة بعد 12 عاما من الغياب.
شخصيات ثابتة
ومن الشخصيات التي ظلت ثابتة أيضا في معظم أفلام بوند شخصية “كيو” أو الضابط المسؤول عن قسم الاختراعات والأدوات الماكرة التي يستخدمها بوند، وهو عادة يظهر معه لكي يدربه على استخدامها. ولم يكن لهذه الشخصية وجود في روايات إيان فليمنج، إلا أنه أشار إلى وجود “قسم كيو” في إدارة المخابرات المختص بأدوات القتل الحديثة. وقد تناوب على أداء الشخصية ثلاثة أو أربعة ممثلين أشهرهم وأفضلهم وأكثرهم إقناعا بلاشك، الممثل البريطاني ديزموند ليولين الذي برع في أداء الدور منذ الفيلم الثاني من أفلام السلسلة “من روسيا مع حبي” وحتى فيلم “العالم ليس كافيا” عام 1999 أي حتى وفاته في العام نفسه.
وكانت شخصية موني بيني أيضا من الشخصيات الثابتة في أفلام بوند. وهي سكرتيرة مستر إم التي تغازل بوند باستمرار لكنها لم تقم علاقة معه أبدا، بل تظل علاقتها به رومانسية فقط. وقد ظلت الممثلة لويس مكسويل تقوم بالدور من فيلم “دكتور نو” حتى فيلم “مشهد للقتل” (1985) وقد حلت محلها كارولين بليس ثم سامنتا بوند.. وقد توفيت مكسويل عام 2007 في استراليا عن 80 عاما. وبالمناسبة كانت مكسويل كندية وقد ألحت في طلب الدور عام 1962 لحاجتها الشديدة إلى المال من أجل مساعدة زوجها الذي كان سيجري عملية جراحية. ومقابل عمل لمدة يومين فقط حصلت على مائة دولار عن كل يوم. ولم يكن شون كونري راضيا عنها، لأنها بدأت تظهر في افلام أخرى في نفس الوقت مع تصوير فيلم من أفلام بوند، وطالبت برفع أجرها، ولكن زميلها القديم في الدراسة روجر مور تمسك بها بعد أن تولي القيام بالدور. وقد كتبت مذكراتها في استراليا ونشرت بعد وفاتها.
السقوط من السماء
في الفيلم الجديد الذي ظهر بعد انقطاع 4 سنوات أي فيلم “السقوط من السماء” Skyfall يعود بوند إلى بلدته في اسكتلندا ويصطحب معه مسز إم لكي ينقذها من الشرير “سيلفا” الذي يستهدف النيل من حياتها انتقاما منها لأنها عذبته في اختبارات القبول كعميل للمخابرات ثم لفظته بل وبادلته فيما بعد بستة من العملاء مع الصينيين. وهو يحاول أن يثبت لها أنه شجاع وكفء ويجعلها تندم ثم يقتلها، وعندما يفشل في قتلها حتى النهاية، يعطيها مسدسه ويطلب منها- في واحد من اضعف مشاهد الفيلم- أن تطلق عليه الرصاص وتقتل نفسها معه أيضا!!
أوديبية وبدائية
هناك شيء ما “أوديبي” في هذا الفيلم، فبوند يتعامل مع مسز إم باعتبارها “الأم البديلة” وهو يصطحبها إلى موطنه، وإلى البيت الذي نشأ فيه مع والديه، وفي الطريق يتطلع إلى قبر والديه، ثم يخبئها مع حارس المنزل العجوز (يقوم بالدور الممثل الكبير ألبرت فيني الذي كانت له صولات وجولات فيما مضى!) بعد ان يكون قد قام بمساعدة إم بتلغيم المنزل بأصابع الديناميت (وسيلة بدائية من القرن التاسع عشر). وعندما يفشل في مواجهة الشرير الذي يستخدم طائرة هليكوبتر ثم يبدأ في إلقاء القنابل اليدوية داخل المنزل، يلمح بوند أسطوانتين للغاز يقوم بتفجيرهما ويترك المنزل عن طريق السرداب الذي هربت منه مسز إم مع الحارس إلى حيث توجد كنيسة صغيرة مهجورة.
استخدام أسطوانات الغاز أيضا طريقة بدائية، الشرير أو الطيب الذي تحول إلى شرير لأنه رفض قبول مصيره وهو “سيلفا” أو ربما كان ضحية لمسز إم وسوء تصرفها معه، يبدو أيضا مرتبطا بمسز إم ارتباطا عاطفيا مثل الذي يوجد بين الام والإبن.. تماما ملثما هي حالة بوند الذي يقبلها ويغمض عينيها بعد ان تموت بين يديه متأثرة بنزيف من جرح أصيبت به خلال المطاردة!
فيلم بوند الجديد أقل رونقا بكثير من كل أفلامه السابقة، فالسيناريو الذي يحاول إضفاء ملامح أكثر إنسانية على شخصية بوند، يجعل من البطل الأسطوري، رجلا عاديا جدا، يصاب ويسقط ويكاد يقتل، ويلجأ إلى وسائل بدائية في المقاومة، ويبدو وقد أصبح مترهلا لا يقوي على الحركة كثيرا رغم أنه يصارع أحد الأشرار تحت الماء ويتغلب عليه، وبالتالي يفقد بوند هنا سر سحره. فبوند ليس رجلا عاديا. وهو لا يشبه أيا من الأبطال الآخرين الذين يظهرون على الشاشة. وموت مسز إم مقصود به فقط أن يكون إعلانا عن الاستغناء عن خدمات الممثلة جودي دنش (ممثلة جيدة لكنها منفرة في هذا الدور الذي قامت به في ستة من أفلام بوند بنجاح جماهيري بسبب جمودها وقسوتها كامرأة مخابرات) وإحلال الممثل الفذ رالف فينيس مكانها فهو في دور جاريث مالوري يكلف بمهمة مراقبة عملها بعد أن فقدت قدرتها على اتخاذ القرارات السليمة، أي أنه يصبح هو الموجه الحقيقي لعمل المخابرات، بل ويطلب منها أن تستقيل إلا أنها تصر على إنهاء مهمة القضاء على الشرير (الذي خرج من معطفها) أي أنها كانت هي المسؤولة عن ظهوره بسبب حماقتها. ومن ضمن حماقاتها في الفيلم أيضا أن جهازا من نوع الكومبيوتر المحمول التابع للمخابرات الذي يحتوي على أسماء جميع عملاء المخابرات البريطانية عبرالعالم، يضيع أو يسرق ويصل إلى أيدي سيلفا الذي يهدد مسز إم، ويفشي تدريجيا أسماء العملاء مما يؤدي إلى مقتل ثلاثة منهم!
هذا الموضوع تحديدا يقوم على حادثة حقيقية وقعت في لندن في مارس 2000 عندما احتسى أحد ضباط المخابرات الخارجية كمية كبيرة من الخمر في حانة قريبة من مبنى “فوكسهول كروس”، ثم نسى جهاز الكومبيوتر المحمول في سيارة تاكسي، وقبل ذلك بأيام، كان ضابط في المخابرات الداخلية قد فقد جهازا مشابها يحتوي معلومات سرية خطيرة (عن أيرلندا الشمالية والجيش الجمهوري) في محطة من محطات قطارات الأنفاق في لندن!
إذا عدت إلى الفيلم الجديد أقول إنه صحيح أن مسز إم قد أخطأت، وصحيح أنها يجب أن تتقاعد، ولكن ما معنى أن يبدو بوند نفسه وكأنه قد اصبح هو نفسه قريبا من التقاعد عن ممارسة مهنته التي لم يعد على ما يبدو، يقدر عليها. لا يغازل بوند كثيرا من الحسناوات في هذا الفيلم، ولا نراه في مشهد (صريح) سوى مرة واحدة عندما يتسلل إلى الحمام ليلحق بالحسناء الوحيدة في الفيلم برنيس مارلو (تقوم بدور سيفرين صديقة الشرير الذي تخونه كالعادة). ولكن هذا المشهد لا منطق له ولامبرر في سياق الفيلم، ولو استبعد من الفيلم لما تأثر فهو لا يضيف شيئا بل ولا يبدو حتى “إيروتيكيا” من الناحية الجمالية!
أما فتاة الفيلم الثانية نعومي هاريث فهي لا تتمتع، لا بالجمال ولا بخفة الظل، وربما تكون مناسبة في دور السنيدة لبوند التي تتابعه لحماية ظهره، أما عندما تتحول إلى “مشروع حبيبة” ثم تتخذ مكان السكرتيرة العتيدة الراحلة في النهاية “موني بيني” فيصبح الأمر كما لو كان نوعا من العبث خصوصا عندما تقول لبوند إن اسمها سيكون “إيف موني بيني”، علما بأن موني بيني كانت في الواقع، سكرتيرة لمستر إم (أيام أن كان رجلا)!
كان اختيار جودي دنش للقيام بدور رئيسة المخابرات الخارجية البريطانية بدءا من فيلم “العين الذهبية” Goldem Eyeعام 1995 متسقا في الحقيقة مع تعيين ستيلا رمنجتون مديرة للمخابرات الداخلية المختصة بمكافحة التجسس في بريطانيا المعروف بـ MI5 (إم أي 5). وقد ظلت رمنجتون في وظيفتها حتى عام 1996 حينما تفرغت لكتابة روايات الجاسوسية على غرار ما فعله إيان فليمنج مبتكر شخصية جيمس بوند نفسه!
لكن دنش الآن تقدمت في السن ووجب التخلص منها، كما يجب – في رأيي- التخلص من دانييل كريج الذي يقوم منذ أربعة أفلام، بدور بوند في حين أنه لا يناسب الدور، لا من حيث الشكل والتكوين الجسماني، أو من حيث قدرته المحدودة على إشاعة روح السخرية والمرح، كما كان يفعل شون كونري ثم روجر مور، افضل من قاما بدور بوند في السينما حتى الآن.
لكن الأمر يرجع إلى وريثة امبراطورية بروكولي أي السيدة برباره بروكولي، إبنة المنتج الراحل ألبرت بروكولي Broccoli (توفي عام 1996) الذي كان قد تمكن ببراعته وحسن تقديره من إقناع المنتج اليهودي الكندي هاري سولتزمان عام 1961 بإنتاج فيلم “دكتور نو” بعد أن اكتشف أن سولتزمان كان قد اشترى حقوق روايات فليمنج (باستثناء كازينو رويال). ونجح بالفعل في رصد ميزانية متواضعة للفيلم الذي حقق نجاحا أسطوريا، ومن هنا دارت العجلة وارتفعت ميزانيات أفلام بوند مع الاستعانة بالكثير من الأدوات والخدع السينمائية والتصوير في عدد من الأماكن الخلابة عبر العالم.
من ضمن الجوانب السلبية في الفيلم الجديد أيضا، فشل المخرج سام ميندز في استخدام النغمة الموسيقية المميزة لأفلام جيمس بوند التي كتبها الموسيقار جون باري، وهي الموسيقى التي تستخدم عادة في مشاهد المطاردات والحركة في أفلام بوند وتثير خيال المشاهدين عبر العالم، وكانت قد استخدمت للمرة الأولى قي “من روسيا مع حبي” وأصبحا “علامة مميزة، كذلك الأمر بالنسبة لنغمة جيمس بوند الشهيرة الأخرى وكتبها أيضا جون باري والتي يستخدم فيها الجيتار مع إيقاعات الكونترباص غالبا، ثم آلات النفخ العالية.
على أي حال، ليس من المتصور، أن تخبو أسطورة بوند أو تموت، فسوف تظهر بالتأكيد، قصص أخرى كثيرة تدور حول المخاطر الجديدة التي يواجهها العالم يوما بعد يوم، وليس من المستبعد أن نرى بوند وقد أصبح إنساني النزعة بالفعل، أي وهو يحاول إنقاذ الكوكب الأرضي من التلوث، أو يقاوم انتشار أحد الأوبئة الفتاكة، أو يسعى للقضاء على أسباب ظاهرة الاحتباس الحراري.. فمن يدري!