“ذئــاب” صـامـويـل كـيـشـي الـطـيـبـة

لقطة من فيلم "الذئاب" لقطة من فيلم "الذئاب"
Print Friendly, PDF & Email

الذئاب تعوي، الذئاب لا تبكي، الذئاب تحمي بيتها”.

بتلك الكلمات البسيطة التي تلقنها أم عزباء لأطفالها الصغار قبيل مغادرتها المنزل إلى عملها، يبدأ “صامويل كيشي ليوبو” في سرد وقائع شريطه السينمائي “الذئاب” Los Lopos، ذلك الفيلم الذي يعد بمثابة سيرة شبه ذاتية لطفولة المخرج وعلاقته بأمه وأخيه الأصغر؛ ينطلق الفيلم من فرضية بسيطة وسلسة عن قيم الأسرة الواحدة والتي شبهها هنا بالذئاب، قد تبدو دلالة الاسم أعمق من ذلك عند متابعة أحداث الفيلم، والذي يرتكز في بنيته على خيال الطفلين كمحرك رئيس للقصة، قد يتشابه في تلك الجزئية مع أفلام أخرى مثال تحفة المخرج شون بيكر “مشروع فلوريدا”، لكن المختلف هنا هو اعتماد “كيشي” على تيمات أخرى تجعل وقع الفكرة أخف وطأة من بقية الأفلام التي تناقش مشكلة المهاجرين في أمريكا.

الفيلم هو إنتاج ميكسيكي/ أمريكي من إخراج صامويل كيشي ليوبو في ثاني تجاربه الروائية الطويلة بعد فيلمه الأول “نحن ماريا بيبا”، كما شارك “كيشي” في كتابة الفيلم كلٌ من لويس بريونيس وصوفيا جوميز، وكان العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان بوسان السينمائي الدولي في أكتوبر من العام الماضي، قبل أن يتم عرضه لاحقاً بمهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السبعين هذا العام، حيث حاز الفيلم جائزتين ضمن مسابقة “الجيل kplus” وهما جائزة السلام والجائزة الكبري للجنة التحكيم الدولية.

يروي الفيلم قصة أم عزباء تدعى لوتشيا (مارتا ريوس أرياس) ترعى طفلين صغيرين (ماكسيميليانو وليوناردو نجّار ماركيز)، وتقرر الهجرة من المكسيك إلى الولايات المتحدة، تضطر الأم للعمل في وظائف شاقة لأنها لا تحمل تصريحاً دائماً للعمل، وتضطر أيضاً لترك الولدين وحدهما في شقتهم المتواضعة، وفي أثناء ساعات انتظار عودة الأم الطويلة، يحيا الولدان مع خيالهما وسلسلة من الوصايا التي تركتها لهما الأم مسجلة على شريط كاسيت، بألا يخرجا من الباب وألا يتعاركا وأن يحافظا على نظافة المنزل، إلى آخره، تحاول الأم أيضاً تعليمهما بعض الكلمات البسيطة باللغة الإنجليزية وبعض العبارات، مقابل وعد منها في حالة اجادتهما للغة أن يذهبوا معاً إلى مدينة الألعاب “ديزني لاند”.

في تلك الشقة الصغيرة يبتكرا الطفلان عالمهما الخيالي، فيقومان برسم شخصيات خيالية على الحائط ويتخيلا أن تلك الشخصيات اللاتي أسمياها “ذئاب النينجا”، تتحرك وتلهو وتصارع أعدائها المتخيلة، ومع مرور الوقت وتعاظم المغريات خارج جدران الغرفة، يخرج الطفلان للعالم الخارجي استجابة لدعوة أولاد الجيران ممن يلعبون في فناء المبنى بالخارج، يترتب على ذلك الخروج اكتشافات وأحداث قد تبدو غير سارة؛ منها سرقة مدخرات الأم على يد أحد أصدقاء الطفل الأكبر ماكس، لكن هناك أيضاً مكاسب مثل تعرفهما إلى الزوجين تشان (جونسون تي لاو وسي سي لاو) مالكي العقار واللذان يعاملهما بمودة ولطف.

حــلــم زائــف

يختلف “الذئاب” عن العديد من الأفلام التي ناقشت مشكلة الهجرة إلى الولايات المتحدة من حيث كونه لم يتطرق للتيمات الجاهزة والمألوفة عن فكرة الحلم الأمريكي والمستقبل الزاهر، أو حتى على العكس من ذلك والتمادي في رصد الواقع المرير لمهاجري أمريكا الجنوبية داخل أراضي الولايات المتحدة، فقد انتهج “كيشي” أسلوباً بصرياً استطاع من خلاله ايصال فكرته بسلاسة من خلال تصويره لحياة المهاجرين في روتين يومهم القاسي وتلك الأعمال الشاقة التي يقومون بها، والتي وضحت مدى زيف الادعاء بسهولة ورغد الحياة في المهجر، وكذلك استخدم المخرج أسلوباً يقترب من السينما الوثائقية من خلال تصويره لسكان مدينة “ألبوكيركي” الحقيقيين من ذوي الأصول اللاتينية في لقطات صامتة تستعرض وجوههم فقط، ويرصد الفيلم أيضاً معاناة الأم وما تواجهه من صعوبات لايجاد عمل يكفل لها ولولديها حياة ملائمة حتى لو اضطرت للعمل بوظيفتين والتضحية بوقت راحتها الأسبوعي أو حتى اللجوء لمساعدات الكنيسة المحلية والتي توفرها للفقراء والمحتاجين.

الأسلوب والتقنيات

أما على المستوى الفني فمن الملاحظ أن هناك جهداً كبيراً قد بُذل في سبيل إخراج الفيلم بهذا الشكل المتميز، من تلك العناصر المتميزة الأداء الطبيعي للطفلين والذي بدا أن “كيشي” قد أجاد توجيههما فنياً حتى يستطيعا أداء دورهما بشكل تلقائي لا يشوبه تكلف أو ادعاء، وعلى مستوى الصورة كان لمدير التصوير “أوكتافيو أراوز”  دوراً مهماً في ايضاح فكرة “صامويل كيشي” من حيث استخدامه المتفاوت للقطات البعيدة والمقربة، ومشاركته في إخراج أحد أكثر عناصر الفيلم تفرداً؛ وهي الرسوم المتحركة ثنائية الأبعاد والتي قام الطفلان برسمها على الحائط ضمن أحداث الفيلم، استخدام الرسوم المتحركة خلق حالة من البهجة والخيال تتماشى مع العالم الخرافي الذي رسمه الطفلان وكذلك استطاع التخفيف من وطأة واقع الفيلم القاسي.

لا يمكن أيضاً تجاهل دور المونتاج في الفيلم (كارلوس سبينوزا ويوردي كابو) والقطع بنعومة وسلاسة بين مشاهد الرسوم المتحركة وبقية مشاهد الفيلم الحية، كما أن رصد حركة الطفلين ومشاهد لهوهما والقطع بينهم كانت موفقة ومناسبة للجو العام للفيلم، وعلى مستوى الكتابة، جاء “الذئاب” بعيداً نوعاً ما عن السائد في تلك النوعية من الأفلام التي تناقش مشاكل الهجرة، حيث أنه لم يركز إلا على الطفلين وأمهما وصعوبات الحياة في أمريكا دون الدخول في تفاصيل أو أسباب رحيلهم عن المكسيك، أو حتى غياب الأب وأسباب موته، والتي لم يتم الإشارة إليها إلا عرضاً على لسان الطفل الأكبر عندما أخبره أخيه الأصغر أن الوالد توفي بسبب مصباح كهربائي، تلك التفصيلة التي استخدمها “كيشي” ببراعة عندما جعل من المصباح الكهربائي في الرسوم المتحركة وسيلة لهروب “ذئاب النينجا” من الأعداء، المصباح هنا كان لغزاً للطفلين وطريق هروب خرافي لأبطالهم الخياليين، أو حتى دلالة للاستنارة عندما علم الطفل في آخر الأحداث أن المصباح المعني في كلام الأم هو طريقة لتدخين المخدرات، وهنا أيضاً لم يرجح الفيلم كفة أي اعتقاد عن سبب موت الأب، لينهي بعدها “كيشي” شريطه السينمائي على مشاهد بهجة الطفلين بعد زيارة مدينة الملاهي أخيراً، صحيح أنها ليست “ديزني لاند” لكن تلك المدينة الصغيرة أدت الغرض، ويعود أيضاً لاستخدام عدسته في توثيق مشاهد للسكان المحليين وهم ينظرون مباشرة إلى الكاميرا بإبتسامة خفيفة، وبالطبع من بين أولائك الأشخاص كانت “لوتشيا” وولديها.

Visited 62 times, 1 visit(s) today