“السيدة لوري وابنها”: الفنان الأوديبي والأم الطاغية

الأم والابن ومباراة مذهلة بين فنانين عملاقين الأم والابن ومباراة مذهلة بين فنانين عملاقين
Print Friendly, PDF & Email

السينما البريطانية تقدم عملا جديدا مستوحى من المسرح هو فيلم “السيدة لوري وابنها” عن أحد أشهر رسامي بريطانيا المعاصرين، في دراما شيقة، تقوم على الأداء التمثيلي لعملاقين من عمالقة التمثيل في بريطانيا. الفيلم من إخراج أدريان نوبل، وهو مخرج مسرحي مرموق كان مديرا لفرقة شكسبير الملكية المسرحية. كتب سيناريو الفيلم مارتن هيسفورد عن مسرحيته (عرضت عام 2013). 

يصور فيلم “السيدة لوري وابنها” للمخرج أدريان نوبل العلاقة “الأوديبية” المعقدة بين السيدة لوري العجوز وابنها لورانس ستيفن لوري الذي سيصبح واحدا من أشهر وأهم رسامي بريطانيا المعاصرين. لوري الذي ولد عام 1887، وتوفي عن 88 عاما عام 1989، ظل لأربعين سنة، يعيش في بلدة بريف مقاطعة لانكشير مع أمه، دون أن يتزوج حتى بعد أن بلغ الخمسين من عمره. والفيلم يدور في عام 1934 أي قبل سنوات قليلة من وفاة الأم (عام 1939).

لا يتركز اهتمام الفيلم على أعمال الفنان، بل على علاقته الملتبسة الغريبة بأمه، مع تداعيات كثيرة متفرقة من الماضي، وتعليق صوتي من خارج الصورة بصوت الممثل، أو في مواجهة الكاميرا مباشرة.

تدور معظم مشاهد الفيلم داخل منزل لوري وأمه، وهو منزل صغير في بلدة “بندلبيري” الصناعية التي تمتلئ بالمداخن ومصانع النسيج، التي انتقلا إليها بعد وفاة والد ستانلي عام 1932. وكانت الأسرة تقيم قبل ذلك في ضاحية فيكتوريا بارك الراقية التي تتميز بحدائقها وأشجارها وأجوائها النقية.

تقوم بدور الأم التي قاربت التسعين من عمرها، الممثلة المخضرمة فانيسا ريدغريف (82 سنة). ويقوم الممثل الكبير تيموثي سبول (62 سنة) بدور ابنها الفنان. ولعل أهم وأفضل ما يميز فيلمنا هذا، الأداء التمثيلي الذي يجمع اثنين من أفضل الممثلين في تاريخ فن التمثيل البريطاني.

فليس من الممكن إغفال تلك “الكيمياء” السحرية التي توحد بينهما، من خلال النظرات، وتعبيرات الوجه، ولمسات اليدين، ونظرات العيون، رغم أن الشخصيتين شديدتا الاختلاف حد التناقض والصدام، لكن دون أن يقع الصدام، فلوري يبدو طيعا أقرب إلى الخنوع أمام شخصية أمه الطاغية المستبدة التي لا تلين رغم أنها تعيش سنواتها الأخيرة على الفراش لا تغادره قط. أما هو فلا هدف له في الحياة سوى إسعادها ونيل رضائها عنه.

إنه يعمل جامع إيجارات باليومية من السكان الفقراء الذين يستأجرون منازل في البلدة الصغيرة. أحيانا يدفعون، وأحيانا أخرى يعتذرون لضيق ذات اليد. هذا العمل الصغير لا يرضي بالطبع غرور أمه ذات الميول الطبقية الواضحة، فهي تعيش أسيرة الماضي، عندما كانت الأسرة ميسورة الحال، ضمن صفوف الطبقة الوسطى في مانشستر، قبل أن تتدهور الأحوال بسبب فشل الأب في إدارة أموره المالية وتراكم الديون عليه.

الابن يعمل من أجل تسديد الديون والحصول على ما يكفي من طعام يقوم بطهيه وتقديمه لأمه على فراشها، ويجلس أمامها يتناول طعامه متطلعا أن ترضى عنه.


بطل الفيلم يعمل جامع إيجارات في بلدة فقيرة

للتغلب على الطابع المسرحي الذي يعتمد على الحوارات الطويلة والمكان الواحد، والكاميرا الثابتة، واللقطات المتوسطة والعامة، يلجأ المخرج إلى المزج بين هذه المشاهد وبين لقطات سريعة قصيرة على شكل تداعيات، من الماضي، أو من الحاضر، مع الخروج قليلا خارج المنزل، لتصوير علاقة لوري الخاصة البديعة بالأطفال وبأهل البلدة.

هناك القليل من مشاهد الرسم في فيلم يدور أساسا حول رسام. فالاهتمام الأساسي ليس بلوحات لوري التي نرى منها القليل والنادر وأشهرها لوحتا “القوارب تبحر” و”الذهاب إلى العمل”، بل بالتأثير السلبي للأم على ابنها وكيف لعبت دورا مباشرا في قمع موهبته التي لم تتفجر سوى بعد وفاتها.

يعاني “السيدة لوري وابنها” أيضا من غياب علاقة حقيقية بين الفن والواقع، بين الحياة الخارجية في البلدة وتأثيرها على أعمال الرسام. هناك شكوى متكررة على لسان الأم من المداخن والطواحين والبيئة الصناعية الجافة الرمادية في البلدة، لكن عندما يخرج لوري من المنزل نراه يتوجه إلى منطقة خضراء مليئة بالأشجار يقول لنا إنه يأتي إليها لكي يشعر بوجوده وحده بعيدا عن البشر. المنطقة تقع خارج البلدة. ولكن لا علاقة لها بلوحاته التي تعكس نزوعا نحو التأثيرية.

الأم تسخر من ابنها ومما يقوم به، وتستنكر بل وتحطم بكل قسوة تطلعه إلى أن يصبح رساما، ويصل رفضها إلى درجة تمزيق الرسالة التي يحتفظ بها والتي أرسلها إليه أحد مديري قاعات الفنون في لندن، يطلب إرسال عدد من لوحاته لتنظيم معرض له.

وفي ذروة شعوره بالإحباط والغضب واليأس، يحطم لوري عددا من رسوماته ويشرع في حرق الباقي إلا أنه يتراجع في اللحظة الأخيرة. ورغم غضب الأم وكراهيتها لما يفعله الابن إلا أنها في لحظات أخرى، تبدي فخرها وإعجابها الشديد بلوحة أو أخرى من لوحاته، تريد أن تعلقها في غرفة نومها لكي تراها أمام عينيها باستمرار. الواضح أنها ترفض بشدة أن يرسم الفقراء ومظاهر البؤس وعمال المصانع والمناجم. تريده أن يرسم المناظر الطبيعية المبهجة بدعوى أن هذا ما يحبه الناس. وهي وجهة نظر تلتقي مع إحساسها بالتعالي الطبقي.

مشاعر الأم تظل متضاربة مختلطة بين الحب والكراهية، الرفض والإعجاب حتى النهاية. هذه الحالة من التقلب ما هي سوى تعبير عما تشعر به السيدة لوري من غبن بسبب ما وقع لها في الحياة: الخروج من جنة الطبقة الوسطى ثم المرض والعجز والفاقة.

المباراة المذهلة في التمثيل بين العملاقين هي ما يبقي على استمتاعنا بالفيلم رغم جفافه وخلوه من الحضور الفني، كما تحول بيننا وبين الشعور بالتململ بسبب الحوارات الطويلة، التي يجب القول إنها مكتوبة ببراعة ورقة وشفافية تليق بنص قادم أساسا من المسرح الإنجليزي العريق.

Visited 133 times, 1 visit(s) today