د. وليد سيف يكتب: نجيب محفوظ وفن السيناريو

Print Friendly, PDF & Email


 كان معروفا لدى الكثيرين أن لنجيب محفوظ عددا من الأعمال فى مجال التأليف السينمائى. ولكن كانت شهرته الطاغية فى مجال الأدب وإنتاجه الغزير فى مجال القصة والرواية يجعلنا نتعامل مع دوره فى السينما بدرجة أقل من الإهتمام.

فى الدورة العشرين من مهرجان القاهرة السينمائى فى عام 1996 قامت إدارة المهرجان  بإجراء إستفتاء بين مجموعة من  النقاد والفنانين، بمناسبة مئوية السينما، لاختيار أفضل مائة فيلم فى تاريخنا السينمائي.

وكانت المفاجأة المثيرة للدهشة أن نجيب محفوظ احتل المركز الثانى بين كتاب السيناريو فى الإستفتاء برصيد 9 أفلام بعد على الزرقانى برصيد 11 فيلما.

والقائمة تضم علاوة على هذه الأفلام التسعة، ستة أفلام شارك فيها محفوظ ككاتب أو معد للقصة السينمائية بالإضافة إلى عشرة أفلام بالتمام والكمال، أعدتها السينما عن رواياته وقصصه الأدبية القصيرة . أى أن بصمة نجيب محفوظ وتوقيعه مسجل على أشرطة السلولويد لخمسة وعشرين فيلما ضمن 100 عمل رائع فى تاريخ السينما المصرية.

نسبة بارزة

كان من المتوقع أن تحظى الأفلام المعدة عن رواياته بنصيب كبير. ولكن لم يتوقع أحد أن تمثل وحدها نسبة عشرة فى المائة من أفضل الأعمال عبر قرن من السينما.

وكان فى مرحلة ما منذ نهاية الخمسينيات تقريبا قد ارتبط إسمه أكثر بكتابة القصة السينمائية وإعدادها فقط مكتفيا بهذا الدور فى مرحلة إنشغاله بمناصب حساسة وقيادية فى مجال السينما والتى لجأ صناعها إليه بعد أن لمع إسمه وثبتت مكانته العالية فى مجال الأدب بالإضافة إلى خبرة معقولة حققها فى مجال السيناريو.

لقطة من فيلم “درب المهابيل” لتوفيق صالح

ولكن الأمر الذى لم يتوقعه كثيرون أن يحظى بهذه المكانة الكبيرة فى مجال السيناريو تحديدا رغم قلة أعماله به. وكان محفوظ قد إقتحم هذا المجال فى النصف الثانى من الأربعينيات وبدأ الكتابة كمحترف  وهو مازال يتعلم أصوله كفن. وقدم فى بداياته أعمالا محدودة القيمة متوسطة المستوى، كما ساهم فى أعمال إعتبرها البعض تنتمى لسينما التجارة أكثر من إنتمائها لفن الفيلم.

سؤال

لهذا يفرض السؤال نفسه بقوة عن كيف أمكنه تحقيق هذه الطفرة فى المستوى الفنى فى معظم سيناريوهاته خلال ما لا يتجاوز العقد الواحد إلا بقليل، تلك الفترة التى أنجز فيها معظم سيناريوهاته من 1947 وحتى 1959.. وكيف أمكن لهذا الإنجاز أن يتحقق لكاتب سيناريو لم يتفرغ مطلقا لهذا الفن الصعب الذى يستحوذ على كل وقت وطاقة من يعمل به. وهو لا يتطلب فقط مقدرة إبداعية وموهبة فنية وطاقة ذهنية ولكنه يتطلب علاوة على كل هذا، قدرة على الإقناع بوجهة نظره فى مختلف تفاصيل العمل وشجاعة فى الاختيار بين الفرص المتاحة له والفنانين والمنتجين الذين يجدر به أن يتعامل معهم. وأيضا قدرة على الحسم فى المواقف أثناء المناقشات والمفاوضات حول إجراء التعديلات.. وكذلك مهارة فى المناورة والمحاورة من أجل تحقيق عمله بالصورة الأكمل طبقا لرؤيته التى يؤمن بها.

وكل هذا فى ظل ظروف عمل جماعى أو ثنائى غالبا يشاركه فيه زميل ويتدخل فيه الكثيرون ممن قد يكونوا أقل فى الفكر و الموهبة والثقافة ولكنهم فى الغالب أقدر على فهم السوق ومتطلباته بمفهومه التقليدى، بحكم خبرتهم السابقة عليه أو سابقة أعمالهم الكبيرة.

أعتقد أن هذه التساءلات شغلت الكثيرون. ولكنها شغلتنى بشكل خاص بحكم تجربتى القصيرة فى مجال كتابة السيناريو والتى وجدت فيها مشقة ما بعدها مشقة وأزمات وخلافات فى وجهات النظر، وأعمالا ترى النور بعد أن تتجرد من أى قيمة أو محتوى فكرى أو خيال أو طموح سينمائى.

هذا فضلا عن معاناة المواجهة الدائمة مع التدخلات الحادة والسافرة فى شؤون التأليف، التى يعانيها كل من يعمل فى هذا المجال، بوسائل وحجج ما أنزل الله بها من سلطان.

لكل هذا وقفت مشدوها أمام كاتبنا الكبير الذى استطاع أن يروض هذه الآلة الجهنمية الجبارة ويخضعها له فى جانب من وقته الذى إقتطعه من مشروعه الروائى الكبير.  لهذا كان كل ما يكتب حول هذا الجانب الإبداعى لدى نجيب محفوظ  يثير إهتمامى و يزيد من فضولى و يضيف إلى حجم حيرتى و كم تساءلاتى.

شراكة مع أبو سيف

بدأت علاقة نجيب محفوظ بالكتابة المباشرة للسينما، كشريك فى كتابة السيناريو لعدة أعمال مع المخرج صلاح أبو سيف قبل أن يتوسع فى أعماله مع مخرجين آخرين.

كان هذا قبل أن تتجه السينما إلى الإعتماد على نصوصه الروائية والأدبية كمصادر نهلت منها العديد من روائعها إعتبارا من عام 1960 (تاريخ عرض فيلم بداية و نهاية عن روايته الشهيرة بنفس الاسم). وكان هذا أيضا قبل أن يكتفى محفوظ غالبا لفترة إمتدت من 1963 حتى 1976 بممارسة مهنا محددة فى مجال الكتابة السينمائية كتأليف القصة السينمائية أو إعدادها.

لقطة من فيلم “أنا حرة” لصلاح أبو سيف

ومن المعروف طبقا لتصريحاته وصلاح أبو سيف أن أول سيناريو عمل فيه كان بعنوان (مغامرات عنتر و عبلة)، إلا أن أول أول ظهور لإسمه على تيترات فيلم روائى طويل كان فى (المنتقم) الذى شهد أول عرض تجارى فى عام 1947. فقد تأجل عرض “مغامرات عنتر وعبلة” لظروف إنتاجية. وفى فترة التعثر الإنتاجى طلب أبو سيف من محفوظ أن يكتب له (المنتقم). وتوالت سيناريوهات نجيب محفوظ ومساهماته فى الكتابة السينمائية تحت مسميات وتخصصات مختلفة (إشتراك فى السيناريو – إنفراد بالسيناريو– قصة و سيناريو– معالجة قصة– قصة سينمائية).

والحقيقة أن إسهاماته المتنوعة فى مجالات الكتابة هى تعبير عن موهبته العالية. كما عبرت أيضا عن تقدير السينمائيين له وحرصهم على الإستفادة من جهوده.

ومن الجدير بالذكر أن السينما المصرية كانت أيضا فى سنوات مجدها فى الخمسينيات والستينيات تحقق على الأقل الحد الأدنى من التماسك الفنى والدرامى فى كثير من أعمالها. وكانت تظهر بها أجيال جديدة من الفنانين المثقفين. وتتراكم كوادر من المخضرمين أصحاب الوعى والتجربة فتتزايد قيمة نجيب محفوظ لديهم ويدركوا عمق فكرة وجهودة للنهوض بمستوى السيناريو وتصاعد تمكنه من اللغة السينمائية وقدرته التعبيرية بأدواته الدرامية من شخصيات ومواقف وأفكار وتفاصيل موحية ومؤثرة.

وكان فن السيناريو فى مصر أيضا فى طريقه لأن ينتهج الأساليب العلمية بعد أن كان يعتمد على الموهبة البحتة وعلى خبرات كتاب المسرح القدامى أمثال بديع خيرى وأبو السعود الإبيارى الذين تشكلت ثقافتهم وتطورت خبراتهم أساسا فى مجال المسرح. فجاءوا إلى السينما بالتراث و التقاليد المسرحية. ولم يكن بإمكانهم أن يتطوروا كثيرا لظروف السن و النشأة.

وكانت اللغة السينمائية قد تجمدت عند حدود معينة.  وكانت الموضوعات قد أصبحت متكررة بحكم الإرتباط بالإقتباس من الأفلام والنصوص المتاحة بحدودها الضيقة. وكانت السينما المصرية قد بدأت تعى بضرورة تنويع موضوعاتها والإعتماد على مصادر محلية لأفكارها أو بالتوسع فى القتباس من مصادر أرقى من كوميديات الفودفيل الغالبة أو ميلودرامات التسلية الباكية السائدة.

وكان جيل جديد من شباب المثقفين من الأدباء و المهتمين بالفن قد بدأ يتسلل إلى السينما ويسعى إلى عرض مواهبة و ثقافته وخبراته. وفى ظل هذه الاجواء كان وجود نجيب محفوظ وسط كوكبة من الكتاب الجدد يتنافسون ويتعاونون ويتواصلون ويتجادلون، فيثمر كل هذا عن نهضة فنية سينمائية وتطور فى فن الكتابة، وعن إبداع خلاق قد يضم فى عمل واحد عدة أسماء من كبار الادباء كتاب السيناريو و الحوار. وهو ما نراه فى إشتراكه مع على الزرقانى وعبد الرحمن الشرقاوى ووجيه نجيب فى سيناريو فيلم (جميلة) عن قصة يوسف السباعى.. أو فى اعتماده على قصة تيريز راكان لإميل زولا ليشاركه صلاح أبو سيف السيناريو ويتركا مهمة كتابة الحوار للسيد بدير.. أو فى إشتراكه مع أمين يوسف غراب فى كتابة قصته “شباب إمرأة” ليتركا الحوار أيضا للمتخصص السيد بدير.. أو فى إنفراده بكتابة السيناريو ولكن عن قصة مشتركة بين توفيق صالح وكامل يوسف ويكتب لها الحوار محمد أبو يوسف فى (إحنا التلامذة) أو فى كتابته لسيناريوهات عن روايات لزميله الأديب إحسان عبد القدوس ومنها (انا حرة والطريق المسدود) لا يشترك زميله بها كما لا يشترك هو كعاته فيما سيكتبه زملائه لاحقا عن نصوصه الأدبية بوعى الجراح عن صعوبة إستخدام مشرطه مع فلذة كبده.

ذلك الزمن الجميل

وتتوالى الأعمال التى تثير قراءة أسماء من شاركوا فى كتابتها التأمل فى ذلك الزمن الجميل وهذا التجمع العظيم لأسماء كانت ومازالت لامعة فى سماء الفن والأدب والسينما. وكانوا جميعا على إستعداد ايضا لتعلم أصول هذا الفن بلا تكبرأو إستعلاء، كعلم له قوانين وقواعده وكوسيط تعبيرى له أدواته.

من هنا كان تلاقى نجيب محفوظ مع السينما فى أفضل ظروفها فى فترة توازت مع نضجه الفنى والثقافى وإرتفاع مكانته الأدبية وتلاقى فيها مع مجموعة من زملائه المتميزين.

كان إنجاز نجيب محفوظ فى مجال السيناريو هو التعبير الحقيقى عن عبقرية هذا الزمن الذى إحتواه هو وزملاءه. وكانت عبقرية نجيب محفوظ فى أنه إستطاع أن يكون قاسما مشتركا فى أكبر كم من الروائع.. ولكن إنجاز محفوظ  كان من الممكن أن يتحقق بشكل أكبر وبصورة أفضل لو كانت السينما أكثر وعيا وقدرة على إستيعاب هذه الطاقة الذهنية  المتوقدة وهذه الموهبة المتفردة. فهو رغما عما حققه من نجاح إلا أنه لم يكن راضيا كل الرضا عن عمله فى السينما. ولكنه على أى حال حقق أفضل الممكن فى ظل وجوده فى أفضل ازمنة السينما المصرية وفى ظل ظروفها الخاصة وثقافة جمهورها وطابعها التجارى والإستهلاكى الذى تفرضه عليها طبيعة وضعها وموقعها وسوقها الكبير بمتطلباته المختلفة وأذواقه التى يصعب إرضائها إلا بكثير من التنازل وهو ما لم تسقط فيه سيناريوهات نجيب محفوظ إلا قليلا.

Visited 36 times, 1 visit(s) today