جامعة مرعبي بيكسار.. المحدودة الخيال!

Print Friendly, PDF & Email

في مطلع القرن الحادي والعشرين وبالتحديد في عام 2001 أصدرت ستوديوهات بيكسار فيلمها الشهير “مؤسسة الوحوش” الذي عرف في المنطقة العربية باسم نسخته المدبلجة “شركة المرعبين المحدودة”.

الفيلم صدر وقتها في أوج النزاع القضائي بين بيكسار وديزني، بعد خلافهما التالي لصدور الفيلم السابق “حكاية لعبة 2″، والذي أنهى الشراكة بينهما، ليأتي صدور فيلم الوحوش بمثابة الصفعة الفنية التي وجهها مبدعو بيكسار الشباب لمؤسسة ديزني التي كانت تعيش أسوأ حالاتها: شيخوخة إبداعية وأفكار بالية لا تحقق أي نجاحات ضخمة، وإنتاج ينصب أغلبه في صناعة أفلام العائلة الساذجة التي يلعب بطولتها الأطفال والحيوانات لتذاع دون مشكلات رقابية على محطات التلفزيون في المواعيد الصباحية.

“مؤسسة الوحوش” أتى ليرتفع عاليا بمستوى الخيال المتوقع من فيلم التحريك، فحتى جزئي “حكاية لعبة” وفيلم “حياة حشرة” الذين انطلقت بهم بيكسار بالتعاون مع ديزني كانوا ينطلقون ـ على تميزهم الفني ـ من أفكار تدور داخل الحيز الكلاسيكي لأفلام التحريك: ألعاب تتحرك بعيدا عن أعين البشر، وحياة تدور داخل عالم الحشرات. أما “شركة الوحوش” فجاء بالفعل بما لا يمكن تصوره، ليروي حكاية مبهرة الخيال عن عالم مواز تعيش فيه الوحوش التي تظهر ليلا لتخيف الأطفال في أسرتهم، لجمع صراخ الأطفال الذي يمثل الطاقة التي تدير الحياة في عالم الوحوش!

الأمر كان أكبر بكثير من أن يوصف بالطزاجة، فهذه نوعية من الأفكار لم ترد من قبل في أي مرجعية ثقافية، وتمزج بين التراث الشعبي “وحوش الفراش”، مع الرعب المعاصر “رأس المال والمؤسسات المستعدة لفعل كل شيء للحفاظ على مكاسبها”. مزج يأتي عبر حكاية شيقة وشخصيات شديدة الغرابة وبناء درامي محكم، ليتحول الفيلم لظاهرة عالمية نصبت بيكسار في الحال على قمة صناع أفلام التحريك في القرن الجديد، وهو الوضع الذي استمر مع أفلامهم التالية “البحث عن نيمو” و”المبهرون” و”راتاتوي” و”وول-إي”، وكلها أفلام كان سبب تميزها الأول هو الخيال البعيد جدا عن إطار التوقعات، بالإضافة للبناء الدرامي المتماسك والشخصيات الطريفة الجذابة التي يجمعها وصف واحد هو أن المشاهد لم يراها من قبل.

والكثير من هذه الأفلام صدر بعد الصفقة الهائلة التي تمت عام 2006 بشراء شركة ديزني لستوديوهات بيكسار مقابل 7.4 مليار دولار، والتي حافظت خلالها بيكسار على قوامها وحريتها الإبداعية، لتواصل مسيرتها الناجحة فنيا وجماهيريا. ولكن يبدو أن الأوان قد حان للاعتراف بأن الأمر لم يعد يحدث بالسلاسة التي كان يتم بها، وأن مستوى الخيال في أفلام بيكسار يتراجع بعجلة متسارعة، بدأت قبل عامين في الجزء الثاني من فيلم السباقات “سيارات 2” وظهرت بصورة أكبر العام الماضي في الحكاية الاسكندافية “شجاعة”، قبل أن يتأكد في أكثر الصورة قسوة على جمهور بيكسار ومنهم كاتب هذه السطور في الجزء الثاني من فيلمهم الأشهر “مؤسسة الوحوش”، والذي صدر مؤخرا بعنوان “جامعة الوحوش”.

صعوبة التركة

الأمر الذي لا بد وأن نعترف به هو صعوبة التركة التي كان يجب على صناع الفيلم الانطلاق منها، فبغض النظر عن أهمية الفيلم التي أوضحناها في مسيرة بيكسار وتاريخ صناعة التحريك بأكملها، فإن هناك تحديين أكبر بكثير. الأول هو مستوى الخيال المبهر جدا في الجزء الأول، والذي ستأتي أي محاولة للبناء عليه بحاجة للوصول لمساحات أبعد من الخيال، وهو ما جعل صناع الفيلم يتخذون القرار الأسهل، بجعل الأحداث تدور في زمن سابق لزمن الجزء الأول، ليكون الفيلم بمثابة حلقة سابقة prequel  توضح بدايات شخصيات عالم المرعبين.

الاختيار السابق وضع بيكسار أمام التحدي الثاني الأصعب، والمتمثل في العثور على صياغة لشرعية الحكاية. ففي الجزء الأول يقطع الأبطال رحلة درامية يكتشفون خلالها أن ما يقومون به من إرعاب للأطفال أمر سيء، وأن أطفال البشر ليسوا مسممين كما قيل لكل وحش يعمل بالإرعاب، بل واختتم الفيلم بالاكتشاف المزروع دراميا بطريقة شديدة الذكاء، والذي يكتشف عالم المرعبين من خلاله أن إضحاك الأطفال ليس فقط أكثر أخلاقية، ولكنه يوفر كذلك طاقة لعالم الوحوش أكبر بكثير من الطاقة التي يسببها الصراخ. (أعلم أن الكلام يبدو شديد الغرابة لمن لم يشاهد الفيلم، وهذا هو سر تفوقه وإبهاره).

الرحلة المذكورة كانت بمثابة رحلة تطهير، تخلص خلالها بطلا السلسلة مايك وزاوسكي وجيمس سوليفان (مارد وشوشني وشلبي سيلوفان في النسخة العربية) من أفعال الماضي، وتصالحا مع عالم البشر بل ونقلا هذا التصالح لعالمهما بأكمله، أي أنهما تحركا من السلب للإيجاب، بما يجعل صناع الجزء الثاني/ السابق بحاجة لأن تدور حكايتهم بالكامل داخل العالم الذي قاموا من قبل بإدانته، وهو مأزق درامي توقعت أن ينشّط عقول بيكسار لابتكار حلول إبداعية جديدة تخرج بهم من المأزق.

تجاهل صادم وصراع محبط

لكن صناع الفيلم قرروا التعامل مع المأزق بأغرب شكل ممكن، وهو تجاهل الأزمة برمتها، والاعتماد على أن الجمهور أحب الشخصيتين من قبل ورآهما يتطهران، وبالتالي فلا حرج من أن تدور الحكاية السابقة بالكامل داخل العالم السلبي، وعلى عقل المشاهد الباطن أن يحل هذا التناقض مع نفسه مستعينا بما شاهده من قبل في الجزء الأول.

الأمر لا يقف تاثيره الدرامي عند الجانب الأخلاقي، فمن التزيد أن نحاسب فيلم تحريك بمنطلق أخلاقي (بعض النظر عن أن صناع الفيلم أنفسهم هم من فرضوا هذا المنطلق)، ولكن تكمن المشكلة الحقيقية في حجم الرهان الدرامي stake الذي انخفض بشدة بين الفيلمين. فالأزمة في الجزء الأول كانت تتعلق بعالم المرعبين بأكمله، وبطريقة إدارته والتهديدات التي تواجهه سواء بنقص الطاقة أو بتسرب طفلة “مسممة” داخله، وهو رهان درامي هائل القيمة جعل المشاهدين وقتها في حيرة بين أخلاقية موقف البطلين تجاه الطفلة وأخلاقية نفس الموقف تجاه عالمهما المهدد.

ولكن حل هذا الصراع في النهاية بالطريقة التي ذكرناها من قبل، وعدم استعاضته بأي جديد في الجزء الثاني يخل بالمنظومة القيمية القائمة لدى الأبطال أو المشاهد بما يدفعه للحيرة أو التفكير، بالإضافة إلى حقيقة علم المشاهد بمستقبل الأبطال، فقد رآهم جميعا وقد تخطوا كل هذا بسلام وصاروا مرعبين محترفين بل ونجوم في عالمهم، كلها أمور انخفضت بمستوى التوتر الدرامي في الفيلم للحد الأدنى، لتحوله إلى مجرد حكاية مراهقين تقليدية من النوعية التي نشاهدها بكثرة في الافلام المعروفة بأفلام المدرسة العليا high school films، حيث الصراعات بين المراهقين على إثبات الوجود والمهارات، والتنافس الأذلي بين الموهوب المستهتر (سوليفان) ومحدود الموهبة الدؤوب (مايك)، وهو صراع آخر يعلم المشاهد سلفا بطريقته تسويته، فقد رآهما من قبل وقد قسما العمل بينهما كل بما يناسب إمكانياته.

وحتى التفاصيل الصغيرة التي منحت الفيلم الأول تميزه، استخدمها “جامعة الوحوش” بشكل سطحي عابر أفرغها حتى من قيمتها. وأبرز مثال على هذا الأمر البناء اللفظي الطريف الذي استخدمه مايك بكثرة في كل مرة يتم تجاهله فيها، ليشعر المشاهد للحظة أن مايك قد غضب مما تعرض له، ليكتشف في اللحظة التالية أن قلبه الطيب وحبه لما يفعله جعله لا ينتبه للإهانة. وهذه التفصيلة الرئيسية في بناء شخصية مايك يتم التعامل معها في الجزء الجديد كمجرد “إيفيه” عابر، يظهر مرة وحيدة عندما يستلم مايك بطاقته الجامعية، ثم يتم تجاهله تماما ليظهر بصورة مغايرة: مراهق تقليدي يغير ويخلق عداوات ويتنافس من أجل دفع الدراما بالطبع، بغض النظر عن كون هذه التفصيلة البنائية لشخصيته لو مدت على استقامتها لما كانت أحداث الفيلم الجديد ستتم من الأساس!

وفي النهاية

التقييم السابق قد يكون قاسيا جدا بالمقارنة بمستوى الفيلم نفسه، ولكنه متناسب بشدة مع مستوى التوقعات من صناعه الذي يعد نجاح الآخرين لو أتى منهم فشلا. فلا خلاف على أن الفيلم يتمتع بقدر كبير من الإمتاع، وأن جودة الصناعة وإحكامها أمر مفروغ منه، ولكن قيمة “جامعة المرعبين” كلها تنبع من كونه مداعبة لطيفة لذاكرة الجمهور، أما عندما تقوم بمقارنته بالجزء الأول بل وبمعظم أفلام بيكسار، فلا بد وأن تكون النتيجة بهذا القدر من الإحباط.

Visited 95 times, 1 visit(s) today